سميرة المسالمة
مارس النظام السوري والقوى الدولية الفاعلة في سورية أدوارهم بالتتابع في وسم السوريين عموماً بتهمة الارتزاق، من خلال استغلالهم ظروف الشباب السوري وتوظيفهم كمرتزقة في مغامراتهم الحربية، ما جعل من هؤلاء السوريين وهم يؤدّون مهماتهم المأجورة، صورة عن هوية الشعب السوري، وكأنهم يمارسون “فرض الكفاية” عن كل السوريين، لكنها هذه المرّة بما لا يجب فعله، فعمّ “الإثم والاسم” على السوريين جميعاً، “المرتزقة السوريون”.
وعلى حد سواء، أصبحت تهمة الارتزاق تلتصق بجنسيتنا السورية، من كان يحمل منا السلاح أو القلم، ومن كان مجرماً أم ضحية، والمؤلم ألّا يفرّق معظم الضحايا من عموم شعوب المناطق الساخنة في كلّ من ليبيا وأوكرانيا واليمن بين بضع مئات مسلحين ومدنيين من أبواق الحروب الذين اختاروا اكتساب رزقهم من تأجير أنفسهم، في خدمة أجندات دوليةٍ أو ضمن مشاريع إقليمية، وبين مجموع شعب هو بدوره ضحية النظام السوري ومرتزقته المساندة له من جهة، وضحية مرتزقة من فصائل مسلحة تحت مسمّيات مختلفة، وأجندات متنوعة، وبنادق مرتهنة، يقاتلونه في أرضه، ويسرقون منه أمانه وسلامه واقتصاده.
نعم يمكن اعتبار الصورة المأساوية الأعمق هي التي جرى فيها استغلال حالة الاقتلاع والتشرّد واللجوء التي عانى منها ملايين السوريين خلال أعوام الحرب منذ 2011، فنظام الأسد تخفّف من عبء وجودهم، وفقاً لمنظوره عن سورية المتجانسة، في حين ثمّة أنظمة إقليمية اشتغلت على توظيفهم في أجنداتها. من استخدام تركيا “الصديقة” للشعب السوري اللاجئين للضغط على أوروبا لمصلحة أجنداتها، إلى استخدام إيران الصديقة للنظام أراضيه ساحة لتفريغ مضمون صراعها مع إسرائيل، في ظل متابعتها مغامراتها في الصناعة النووية. بيد أنّ الأكثر مأساوية في هذا الأمر تحويل دول عديدة السوريين إلى أدواتٍ في أجنداتها المختلفة، هذا ينطبق على روسيا وإيران وعلى تركيا، إذ استخدم كلّ منها السوريين في تشكيلاتها، وتالياً في مغامراتها، العسكرية.
لقد استثمرت الدول المتصارعة على سورية مأساة الشباب السوري، سواء من هم تحت حكم النظام أو خارجه، فوظفتهم إيران في اليمن إلى جانب مليشيا الحوثي، كما جنّدت روسيا مئات المقاتلين السوريين، بدعم وتسهيل من النظام السوري للقتال في ليبيا إلى جانب قوات خليفة حفتر، وفي أوكرانيا أرسلت روسيا مئات المقاتلين، ليكونوا دروعاً لها في حرب الشوارع ضد قوات أوكرانيا التي تدافع عن أرضها واستقلالها.
وعلى الجانب الآخر مارست تركيا (صديقة المعارضة السورية وحاضنتها) دوراً واضحاً في تجنيد عدد كبير من السوريين للقتال في ليبيا ضد قوات حفتر، وأيضاً في أذربيجان ضد الأرمن. وفي السياق نفسه، لا يبدو أن التعاون الأميركي مع قوات سورية الديمقراطية، ذات الغالبية الكردية، في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” قد أبعد عنها صفة “التوظيف” لمصلحة الأجندة الأميركية، وهو ما يدلّ عليه ترك تلك القوات اليوم لتواجه مصيرها مع القوات التركية من دون التعامل معها شريكاً يجب الدفاع عنه.
ربما لا نستطيع إنكار أن أكثر ما هو مأساوي نتج بعد اندلاع الثورة السورية تفريغ سورية من نصف شعبها على الأقل، ضمن مروحة الخيارات التي قدّمها النظام لمعارضيه، وهي بين الموت أو الاعتقال أو الهروب، ما عنى ذلك إخراج ملايين من السوريين من بلدهم، وتحويلهم إلى مشرّدين ولاجئين، في دول العالم، بنتيجة العنف الوحشي الذي انتهجه النظام في مواجهة الشعب السوري، أو ما يسمّيها البيئات الحاضنة للمعارضة التي يسمها بالإرهابية أو المتمرّدة، ما أوجد سورية المتجانسة التي تحدّث عنها رئيس النظام، بشار الأسد، والتي تتألف من سوريين مطواعين، يقرّون بتبعية سورية الأسد إلى الأبد، وسوريات (جمع سورية) أخريات من سورية النصرة “أو الجولاني” إلى سورية القوات المدعومة من تركيا، إلى سورية الإدارة الذاتية تحت حكم القوات ذات الغالبية الكردية.
ثمّة صورة مأساوية أخرى، مفادها توظيف المعارضة السورية برمتها في أجندات الدول، وقابلية متصدّري المعارضة، من حديثي المعارضة، لذلك التوظيف، وبالتالي رهنهم الثورة السورية لتلك الأجندات، ضاربين بمعاناة السوريين وعذاباتهم وتضحياتهم وبطولاتهم عرض الحائط. هذا هو بالتحديد حال الائتلاف المعارض، المقيم في تركيا، وما يتبع له من كيانات عسكرية ومدنية، والذي بات لا يشتغل وفقاً لمصلحة الشعب السوري الذي يدّعي تمثيله، وهذا لا يعني أنّ اللوم يقع على تركيا الدولة التي تبحث عن مصالحها وضمن قدراتها، بقدر ما هو توصيف لواقع حال صار فاقعاً جداً.
عادة ما تكون الثورات بهدف استعادة الشعوب بلادها من حكّام جائرين، فإما أن تنتصر وتكون الطريق طويلة أو قصيرة في تحديد معالم النظم الجديدة لتحقيق غايات التغيير المنشود، أو تفشل فيحدُث أن يستمرّ الحاكم ويخضع الشعب لمزيد من استبداد وقيود حريته، إلا أن الثورة، في حالتنا السورية، لم تنجز نصراً، وهو الأمر الذي لا تريد كيانات التعبير عنها “الرسمية” الاعتراف به، حتى لا يخسر أعضاؤها وظائفهم المأجورة، كما أنّه وعلى الجهة المقابلة لم يحقق النظام السوري الحاكم هزيمة كاملة للثائرين عليه، وهو لا يملك أسباب إعلان نصره على الثورة، في ظلّ خروج نحو ثلث الأراضي السورية من تحت سيطرته، وتعدّد الكيانات التي تحكمها، وتمتلك قوة القرار في فرض قوانينها وعقد اتفاقيات تبعيتها.
تسهم بعض وسائل الإعلام، عن قصد أو من دونه، في تعميم الوسم المخزي، من دون الإشارة إلى أسبابه أو إلى مقاولي الحروب ودور القوادة السياسية التي تمارسها الدول المتدخلة في الصراع في سورية وعليها، وكأنّ مهنة الارتزاق صورة عادية عن عمل السوريين أو خيار متاح لهم في جو سياسي واقتصادي صحّي، متناسين أنّ تسليط الضوء لاصطفاف المرتزقة السوريين إلى جانب أحد الفريقين المتحاربين، من دون نعت المقاتلين منهم على الجانب الآخر بالصفة نفسها، هو أحد أشكال الدعم والقبول بمهنة الارتزاق وفقاً لجهة الاصطفاف، وليس رفضاً لهذا التوظيف اللاإنساني في خدمة الأجندات الدولية، والسفالة (أو القوادة) السياسية الحالية التي تستغل الظرف المعيشي والانهيار المجتمعي للسوريين في كلّ أماكن وجودهم.
المصدر: العربي الجديد