مالك داغستاني
“يكفيك أن تقرأ أستانا 16 أو 17، أو أياً من الأستانات السابقة، ما زال المُقرَّر كما هو: وحدة سوريا أرضاً وشعباً، مكافحة الإرهاب، زيادة المساعدات الإنسانية، ضمان عودة طوعية وآمنة للنازحين السوريين”.
ما سبق كان ردّ صديق حين سألته إن كان قد حصل على نسخة من البيان الختامي للقاء أستانا الأخير الذي يحمل الرقم 18. أُدركُ ميل أكثر السوريين للسخرية، كآلية دفاعية أخيرة في وجه واقعهم الاستثنائي من حيث المرارة والقهر، لكني أتخوفُ حقيقةً، من التأقلم الذي يعقبُ تلك السخرية عادةً.
إن كانت اللامبالاة من أعراض التأقلم مع الواقع السيئ، فلا غلوّ أبداً لو قلنا أن الجائحة بلغت عتبة الوباء. لعله الوباءُ الإيجابي الوحيد الذي يساعد على الاحتمال، في عالمنا المختل. فمن الذي سيلومُ شعباً يكتشف في كل مرّة أن كل الملفات الدولية تحضر قبل ملفه في مؤتمرات تنسب إليه، وأيّ سلبيةٍ سوف تُستَبطَن في موقفه حين يكون تمثيله هزيلاً وصوريّاً؟
لو بحثنا لنتعرف إلى ردة فعل السوريين، بمختلف انتماءاتهم، على البيان الختامي، الصادر عن الدول الضامنة، لما استطعنا رصدها، بسبب إهمال شرائح واسعة من السوريين، للحدث برمته، مدفوعين بمعرفة أكيدة، أن جَبل “نور سلطان” لن يتمخّض عن أي خرق لحالة السكون السورية.
بدأتُ قراءة البيان، باللامبالاة السورية المعهودة، مسلِّماً بنظرية صديقي القائلة بالمقرر الثابت الذي لم يتغير منذ خمس سنوات، إلى حين بلوغي البند الرابع، الذي تدين فيه الدول الضامنة النشاط الإرهابي، في أجزاء مختلفة من سوريا، وضرورة التعاون من أجل القضاء على داعش وجبهة النصرة. عرضاً تمر جملة أخيرة معطوفة على ما سبق “والجماعات الإرهابية الأخرى المعترف بها على هذا النحو من قبل مجلس الأمن الدولي”. حسناً، لكني بحثت “عبثاً” عن أسماء “زينبيون وفاطميون”، بل حتى عن “حزب الله” مثلاً، أليس هؤلاء وخاصةً الأخير من الجماعات التي ارتكبت أعمالاً إرهابية؟
تمّ تصنيف “حزب الله” كمنظمة إرهابية سواءً بكليته، أو بجناحه العسكري (العامل في سوريا)، واعتمدت هيئات دولية وإقليمية، ودول كثيرة في العالم هذا التصنيف، بما فيها الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، بالإضافة إلى كندا وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية. فلمَ يتم غضُّ الطرف عنه؟ “حزبُ الله”، الممثل الأصيل للإرهاب العابر للحدود، عرّاب تجارة المخدرات في المنطقة، وشريك نظام الأسد في عشرات المجازر على عموم الخريطة السورية، المُصادِر لقرار ومصير اللبنانيين شعباً وحكومةً على الدوام. بكل تلك السيرة الذاتية المثقلة بأنواع الجريمة، لا ذكر للحزب (المقاوم) في البيان.
قد لا يكون من المناسب الاستطراد هنا حول “حزب الله”، ولكني ألتمس عذركم. شخصياً، لا أستطيع أن أتجاهل هنا ما قاله نصر الله قبل أسبوع، حين غدا الرجل مواطناً (لبنانياً) مثالياً، لا يقبل بمبدأ تجاوز الدولة: “المقاومة تملك القدرة المادية والعسكرية والبشرية، لمنع العدو من استخراج النفط والغاز من حقل كاريش”، وبعد أن استطرد قليلاً عاد ليقول: “اليوم الدولة تقول إنها تريد أن تفاوض. ولا أحد يستطيع أن يقول للدولة: لا”. هل لا حظتم كيف أن المواطن المهذّب لا يستطيع أن يرفع عينيه في وجه الدولة ليقول لا. بعد الخطاب تساءل كثيرون، عن شرعية مشاركة قوات “حزب الله” في حرب نظام بشار الأسد ضد الشعب السوري، ولماذا غاب يومها، احترام الحزب للدولة والشعب والسلطات والأحزاب!
يبدو أنه لم يحن الوقت كي يدرك العالم خطورة استهداف لون مذهبي واحد، عند كل مجابهة فعلية للإرهاب أفراداً وجماعات؟ وربما هو يدرك ذلك ويفعل عامداً. هذا الحصر الفاضح، سيعمّق شعور المظلومية، ويولّد إرثاً هائلاً من الإحساس بالخذلان، ما يمهد الطريق، نحو حلول متطرفة. كم هو عدد عناصر داعش وجبهة النصرة اليوم؟ وكم سيصبح بعد سنوات من صدور قرارات تحاكي ما ورد في الفقرة الرابعة؟ لا أتساءلُ محذراً من ضحايا صغار، سيكبرون في عالم يرونه شراً مطلقاً، يجب مواجهته بكل أسلوب ممكن، فحسب، وإنما من منطقة ذاهبة بثبات نحو كارثة أكبر حتى مما يحدث اليوم.
بالعودة إلى البيان، سيمسح البند الخامس البند السابق برمّته تقريباً، حين أكد على ضرورة استمرار “ضمان التطبيع المستدام للوضع في إدلب وحولها، بما في ذلك الوضع الإنساني. وشددوا على ضرورة الحفاظ على الهدوء على الأرض”. في البند العاشر سأمر على طرفة لا بأس بها، حيث اعتبرت الدول الضامنة أن الإعلان عن موعد الاجتماع التاسع للجنة الدستورية يمثّل نهجاً بنّاءً للأطراف السورية! لتعرب في البند التالي عن رفضها جميع العقوبات من جانب واحد على سوريا، تلك العقوبات التي تنتهك القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة! نعم وفد المعارضة وقع على البيان، إن كنتم تتساءلون.
كنت أتناول كل ما سبق البند السادس عشر، بروح كوميدية لا مبالية، مثلي كمثل جيش المحبطين من السوريين الذين كفروا بكل الاجتماعات المماثلة حتى لو تمثلت بها (المعارضة السورية). لكن البند السادس عشر كان مختلفاً، وفيه اختراق غير مسبوق. في هذا البند أكد وفد المعارضة أنه استحق كل الذم والقدح الذي تعرض له من السوريين، وحتى الشتائم المقذعة، منذ “أستانا 1” وحتى اليوم. وهنا ربما من المناسب الاعتذار لمن كنا نلومهم على سوداويتهم، ورأيهم بأعضاء الوفود المتعاقبة.
أشادت الدول الضامنة، بعملية تبادل عشرة أشخاص محتجزين قسراً، خمسة من جهة النظام، ومثلهم من جهة المعارضة، كأحد منجزات أستانا، وأن لمثل هذه الملحمة السياسية، أثراً إيجابياً، يعيد بناء الثقة بين أطراف النزاع السوري (ذكرت مصادر غير موثقة أنهم من عناصر حزب الله). هل يدرك وفد (المعارضة) خطورة مثل هذه الخروقات التي يسنّونها؟ وما الذي قد يتبعها من تصنيفات ومعايير، تعيد خلط لحوم الضحايا بأحذية ميليشيات مجرمة؟ غالباً هم يعرفون.
بلغتُ الجزء الأخير من البند السادس عشر، قرأته مرتين. نحّيت كل رأي مسبق لي، محاولاً أن أتحصّن بأقصى حالات الموضوعية، وقرأتُه مرة ثالثة: “أشارت الدول الضامنة، إلى المبادرة التشريعية السورية، المتعلقة بالعفو العام عن الجرائم الإرهابية التي ارتكبها السوريون قبل 30 نيسان/ أبريل 2022”. انتهت الفقرة. بحثت عن أي تنبيه يحصرُ عبارة “جرائم إرهابية” بأنها كانت بحسب تعبير وفد النظام مثلاً، ولا تعبّرُ عن رأي الموقعين على البيان الختامي! تركتُ البيان باحثاً عن تصريح لوفد المعارضة السورية، علّني أجد أن أحداً منهم قد استنكر العبارة، أو ربما صرّح بأنها دُسّت لاحقاً دون علمه. كنت أعلمُ أن بحثي ينطوي على نوع من العبث، لكنه بدا لي أقلّ عبثاً، من الإقرار بأن وفد الفصائل العسكرية (الثورية) أجاز هذا البيان بعبارته الفاجرة والمجافية لكل حقيقة، وليس فقط الأعضاء أصحاب ربطات العنق.
لفتتني أل التعريف في تعبير “التي ارتكبها السوريون”! نعم السوريون وليس بعضهم. ومن المتوقع من الآن وصاعداً، أن وصفَ المعتقلين بأنهم إرهابيون، سيُعتمد في أدبيات أستانا، وبموافقة وتوقيع المعارضة، يا لعارنا. جبل أستانا تمخّض عن مسخ هذه المرّة. إذا كنّا سخرنا من الأسد حين ذكر أن لا معتقلين سياسيين في سوريا، فماذا سنفعل حين تكرر (المعارضة) خلفه بأن المعتقلين هم إرهابيون؟
في حزيران عام 1989، على هامش انعقاد مؤتمر اتحاد المحامين العرب في دمشق، صرَّح أحد أعضاء الوفد التونسي لصحيفة (الثورة)، بأن ميزة سوريا وتونس في مجال حقوق الإنسان، أن ليس لديهما معتقلون سياسيون. حين قرأنا التصريح، وكنا في سجن صيدنايا، رحنا على سبيل الدعابة، نتوازع تهماً لأنفسنا تراوحت بين اختلاس المال العام وتهريب المازوت. لكن لم يخطر ببالنا أبداً تهمة الإرهاب، ونحن معتقلو رأي. فعلنا ما فعلناه لأنا وجدنا أنه من غير المناسب تكذيب محام عربي (تقدمي). لكن اليوم من نكذّب، الأسد أم معارضيه الأستانيين؟
أكاد أجزمُ أن كل سوريّ تعرض لظلم نظام الأسد، سيتجمد عند هذه العبارة، “ستخطفه خلفاً” منتقلاً بين عشرات آلاف السوريين، ممن ينتظرون أبناءً لن يشملهم عفوٌ يعجزُ عن إخراج الموتى من المقابر الجماعية، ولا يمكن عزلُ مشاهد المنتظرين في كل المدن السورية، عن حفرة “مجزرة التضامن”، فقد تزامن انتظارُ اليائسين، مع مشهد الإرهابيين، بحسب تعبير أستانا، يسقطون معصوبي الأعين فوق بعضهم، لتحرقهم بعدها نارُ عدالة “المبادرة التشريعية السورية”.
يعلم كثير من السوريين، حقيقة ضعف الموقف التفاوضي للمعارضة، وأنّ خياراتهم تتراوح بين سيئ وسيئ جداً، بسبب ظروف كثيرة، كانت المعارضة ذاتها أحد أسباب خلقها، وربما يلتمس لهم المنصفون عذراً، إن دوّروا زاويةً في فقرة دستورية، أو أمسكوا منتصف العصا في مسائل تخص الأمن القومي لدول مجاورة، لكنّ إعادة قتل الضحايا، أمرٌ لن يبرره أكثر السوريين ميلاً للتسويات.
أعلم أنني تجاوزت الكثير من بروتوكولات الكتابة في هذه المادة، ولأول مرة، لا أجد بأساً في ذلك. في رأسي، مثلكم جميعاً، ذكرياتٌ عن أطفال ماتوا تحت ركام البيوت المهدّمة بالبراميل المتفجرة، وصور أحد عشر ألفاً قُتلوا تحت التعذيب. وأجد أن كل النهايات ستكون أقل ظلماً وظلمةً، من أي حلٍّ يعني استمرار نظام الأسد، ومعه هذا (النوع) من المعارضة المتهافتة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا