أحمد المسلماني
كان الدكتور إبراهيم عويس أستاذاً للرئيس الأميركي بيل كلينتون في جامعة جورج تاون. ولمّا قرّر كلينتون الترشّح للرئاسة عام 1992 التقى به، وسأله رأيه. قال عويس لكلينتون: “إنّه الاقتصاد، ثمّ الاقتصاد، ثمّ الاقتصاد. هذا ما أهمله بوش “الأب”، وهذا ما يجب أن تركّز عليه”.
أخذ كلينتون نصيحة عويس إلى مستشاره جيمس كارفيل الذي صاغها في العبارة الشهيرة: “إنّه الاقتصاد يا غبيّ”. وفي مقارّ حملة كلينتون كانت أبرز اللوحات الدعائية هي تلك اللوحة التي تحمل عبارة “It’s the economy Stupid”.
بعد ثورة 2013 وسقوط حكم الإخوان في مصر التقيتُ، بصفتي مستشاراً للرئيس وقتذاك، نخبةً من خرّيجي الجامعات العالمية الكبرى المصريّين، وكان أوّل لقاء لي مع خرّيجي جامعة هارفرد.
اتّصلتُ بالاقتصاديّ المصري العالمي الدكتور إبراهيم عويس، الذي عمل أستاذاً في جامعة هارفرد، لتوجيه رسالة إلى الحضور، ولقد تفضّلَ وأرسلَ كلمة داعمة للمسار المصري في تلك اللحظة الفارقة والخطيرة من تاريخ البلاد.
في اتّصالاتي الهاتفية المطوّلة مع الدكتور عويس، كان يكرّر كلمة “الاقتصاد” في كلّ عبارة تقريباً. وربّما أكون قد سمعت الكلمة عشرات المرّات في كلّ محادثة بيننا. واليوم، ومرّة أخرى، عادت كلمة “الاقتصاد” لتصبح الكلمة الأولى في العالم.
الإفطار والحوار
في إفطار “الأسرة المصريّة” في شهر رمضان 2022، دعا الرئيس عبد الفتّاح السيسي إلى الحوار بين القوى السياسية في مصر، من دون استثناء.
أثارت دعوة الرئيس، وهي الأولى منذ تولّي الرئاسة عام 2014، اهتماماً واسعاً، وبات “الحوار” هو البند الأوّل في جدول النقاش السياسي للمصريّين منذ شهر رمضان حتى اليوم. كان أوّل تفسير لأسباب الحوار أنّ الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد، على أثر الجائحة والحرب، هي السبب وراء الدعوة الرئاسية. وبالمقابل كان أوّل مطلب هو تقديم الاقتصاد على السياسة في الحوار الوطني، ذلك أنّ امتداد أو توحّش الأزمة الاقتصادية لن يترك شيئاً للنقاش أو الحوار.
قدّمت قوى المعارضة المدنية مطالب سياسية، وقدّمت القوى الفكرية مطالب اقتصادية، وأصبح جدول الأعمال المرتقب مزيجاً من السياسة والاقتصاد.
اليمين واليسار
لا يوجد ذلك الانقسام التقليدي بين اليمين واليسار في مصر، كما كان في سابق العقود. بحسب رئيس مجلس النواب المصري فإنّ في مصر معارضة قويّة داخل البرلمان، فهناك حزب الوفد يمثّل اليمين، وحزب التجمّع يمثّل اليسار. لكنّ البعض قد لا يرى في الحزبيْن الكبيريْن تمثيلاً للمعارضة، ذلك أنّ الوفد والتجمّع هما حزبان داعمان للرئاسة المصرية ولمسار ثورة 2013. وقد رفض حزب الوفد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ترشيح رئيسه للرئاسة، وأعلن دعمه لإعادة ترشيح الرئيس السيسي.
على ذلك فإنّ ما تعتبره المعارضة معارضةً فعليّة، هو أحزاب اليمين المتمثّلة في حزب المحافظين الذي يقوده أحد رجال الأعمال، وحزب الإصلاح الذي يقوده أحد أفراد عائلة الرئيس السادات، وحزب الدستور الذي أسّسه الدكتور محمد البرادعي. واتّساقاً مع ذلك فإنّ أحزاب اليسار المعارِضة لا تتمثّل في حزب التجمّع، وإنّما في أحزاب أخرى كحزب الكرامة، وفي التيار الناصري الشعبي الذي يقوده المرشّح الرئاسي السابق حمدين صباحي، وفي الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي يقوده أحد الأكاديميّين البارزين.
في أوقات متفرّقة حاول الدكتور أيمن نور تقديم حزبه “غد الثورة” باعتباره من بين أحزاب المعارضة اليمينية، التي يجب أن تدخل الحوار، ذلك أنّ التوجيه الرئاسي تضمّن كلمة “بدون استثناء”، غير أنّه وجد رفضاً من القائمين على الحوار، فراحَ ينتقد ويهاجم، وفي لقاء انعقد أخيراً في البرلمان الأوروبي وصف الحوار بأنّه غير حقيقي، وأنّ التغيير مقبل.
خارج الإطار الحزبي طرح بعض المعلّقين أسماءً معارضة لا تقود أحزاباً، لكنّها ضرورية في الحوار. ومن بين الأسماء التي طرحوها الطبيب الشهير الدكتور محمد غنيم، والدبلوماسي المعارض السفير معصوم مرزوق، وأستاذ العلوم السياسية الدكتور حسن نافعة، ورجل الأعمال الدكتور ممدوح حمزة.
لجنة العشرين
طرحت المعارضة المصرية جدول أعمال سياسيّاً للحوار، يتعلّق أغلبه بملفّ الحريّات، من الإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين لم تُوجّه إليهم تهم، إلى الإفراج عن المحبوسين احتياطياً، وتصفير ذلك الملفّ.
طرح حزب الدستور وجوب إنهاء ملف الحبس الاحتياطي قبل بدء الحوار الوطني، لكنّ إدارة الحوار قالت إنّ الإفراج سوف يكون تباعاً، وأنّه سيستمرّ في أثناء الحوار وبعده. وبدوره طرح حزب المحافظين مشروعاً قال إنّه للإصلاح السياسي، وهو المشروع الذي أيّده حمدين صباحي، وإنّه يتضمّن إنجاز العدالة الاجتماعية، ومواجهة التحدّيات الخارجية كالإرهاب وسدّ النهضة ومحاولة تهميش دور مصر الإقليمي، وكذلك السماح بالتداول الآمن للسلطة.
حسب إدارة الحوار الوطني فإنّ الحوار سيكون شاملاً للسياسة والاقتصاد والمجتمع، وإنّ الهدف الرئيسي له هو أن يستمع كلّ طرف للآخر، على أن يكون الحوار موضوعيّاً ومستنداً إلى أسس علميّة.
قدّمت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان مقترحات تتّفق مع ما طرحته إدارة الحوار، وطرحت تشكيل “لجنة العشرين” من كبار الشخصيات ذات الكفاية، وذلك لتقريب وجهات النظر بين المتحاورين. ودعت إلى “حوار مجتمعيّ” يكون ظهيراً للحوار الحزبي والنخبويّ، حتى يشعر الرأي العامّ بأنّ الشعب وليس الأحزاب هو المالك الحقيقي للحوار، ولا سيّما أنّ مخرجات الحوار سيتمّ رفعها إلى الرئيس السيسي شخصيّاً.
مستقبل بلا إخوان
لم تعُد هناك جماعة الإخوان، بل جماعات الإخوان، فهناك ما يُطلق عليه “إخوان الداخل” و”إخوان الخارج”، وداخل إخوان الخارج هناك “إخوان إستانبول” و”إخوان لندن”، وداخل إخوان إستانبول توجد تيّارات، وداخل لندن تتصارع تيّارات أخرى.
لقد تحوّلت جماعة الإخوان ذات التنظيم المركزي الصارم، إلى جماعة مترهّلة وفضفاضة. حاولت جماعتا إستانبول ولندن دخول الحوار الوطني في مصر، غير أنّهما واجهتا موقفاً حاسماً من جميع القوى السياسية بعدم دخولهما الحوار، وقال المنسّق العامّ للحوار إنّ “الجماعة الملوّثة أياديها بالدماء لا يمكن أن تكون جزءاً من النقاش العامّ”.
يضغط الغرب لدخول الإخوان الحوار، وربّما سيعتبر الغرب ذلك شرطاً أساسيّاً للإشادة بالحوار، لكنّ الغرب لا يمكنه فعل الكثير في هذا السياق، ولا يبدو أنّ في القاهرة أيّ تردّد بهذا الصدد. وعلى الرغم من تكرار نداءات القيادي الإخواني في أوروبا يوسف ندا بشأن الحوار إلاّ أنّه لم يجد آذاناً صاغية في مصر.
الاقتصاد مرّة أخرى
لا يمكن إغفال أهميّة الجوانب السياسية والثقافية في الحوار، لكنّ التحدّي الأكبر الذي يواجه مصر الآن هو التحدّي الاقتصادي، وربّما كانت مصر في حاجة إلى مؤتمر اقتصادي، يشارك فيه متخصّصون من جميع المدارس والاتّجاهات، أكثر ممّا تحتاج إلى أيّ شيء آخر.
يمكن أن ينبثق من الحوار الوطني ذلك المؤتمر، ويمكن ألّا ينبثق. لكنّ الأمر كان، وسيظلّ، كما قال إبراهيم عويس لبيل كلينتون قبل ثلاثين عاماً: إنّه الاقتصاد.. ثمّ الاقتصاد.. ثمّ الاقتصاد.
المصدر: أساس ميديا