علي محمد شريف
دون إرادة من أمّه وبرغبة ملحّة من أبيه يكبر ثائر، يقفز الطفل الوسيم فوق سنيّه السبع بخفة مدهشة ويكاد بأطراف أصابعه الطويلة الناحلة يلامس الدلو المتدلّي من رأس عمود خيمتهم، لقد بات يعرف جميع الخيم المجاورة عن يسارهم ويمينهم، ويمكنه أن يعدد أسماء قاطنيها في الصفّ الطويل المتعرّج بدءاً من تلّة الشوك وأبي حميد الغوطاني وانتهاءاً بحفرة الشيطان، تلك الحفرة الغائرة التي أحدثتها الطائرة الحربية الروسيّة في القصف الأخير، محرقة عدداً من الأسر وراسمة حدوداً جديدة للمخيّم العنيد.
يستطيع ثائر وكذلك رفاقه ملهم وفاطمة وحسن وأحمد التمييز بين هدير طائرات الميغ والسوخوي واللام وبين الهليكوبتر، وبين صوت رصاص الكلاشنكوف والبي كي سي وبين قذائف الراجمات والمدافع، يمكنهم أن يعلموا بقرب حدوث القصف الجويّ بعد ملاحظتهم لتحليق طائرت الاستطلاع، يمكنهم أيضاً أن يحددوا الجهة التي تأتي منها القذائف وفيما إذا كانت من طرف نظام الأسد أم الإيرانيين أو الروس أم من فصائل البي يه دي وأخواتها.
ثائر ونظراؤه باتوا يدركون ما ينتظرهم عند حلول الشتاء من أمطار وسيول وثلوج وجليد، سيمنعهم البرد القارس والوحول القذرة من التجمع وسيعوّقهم عن اللعب، وعن تأمين الماء وحطب التدفئة وبقية احتياجات أسرهم، كذلك أصبحوا يعرفون ما يعنيه قيظ الصيف وعجاجه الخانق وشمسه اللاهبة التي تسوط رؤوسهم وأجسادهم الطرية، وما يحيق بهم وبعائلاتهم في هذه الظروف القاسية من أخطار الأمراض والجوع والعواصف، ومن غرق خيامهم وانجرافها أو تهتكها وتمزّقها..
جميع أطفال المخيّم لن ينسوا مشهد حنين الرضيعة في حضن أختها هاجر وقد تجمّدتا من البرد في الثلجة الأخيرة بينما أمهما التائهة في الليل الجليديّ تتوسل السماء، وتبحث عن مصدر للدفء في جحيم أرضٍ لا تعرف العدالة ولا الرحمة..
في خيمته وبين أزقة المخيّم اكتسب ثائر معرفة مبكرة بالعقارب والأفاعي وبكثير من الحشرات الطائرة والزاحفة، وشاهد بعينيه الواسعتين الثعلب في القفص الحديدي بعد إمساك جارهم حازم به، ورأى عضّة الكلب على ساق صديق والده العاجز، بل وسمع من المخيّم الغربيّ المجاور حيث تقطن عمته، عن الضبع الذي كاد أن يفتك بالطفلة قبل أن يتمكن والدها وأخوتها من النيل منه وقتله.
يكبر ثائر بالرغم من إرادة أمّه ومن بطء الوقت، قريباً سيتمكن من معرفة العديد من أنواع الفطور والحشائش والنباتات البرية، وسيساعد والدته في جمع ما يصلح منها للأكل أو العلاج، وسيكون بمقدوره التمييز بين الحيوانات التي يمكن ترويضها والتعايش مع وجودها، وبين تلك التي ينبغي التخلص منها وإلى الأبد.
يدرك ثائر وكثير من أطفال المخيّم أنّهم غرباء في أرضٍ ليست لهم، بيداء تكتظّ بالوحشة والقهر والخوف، وأن لا شيء حقيقيّ في هذا المستنقع البهيميّ سوى طفولتهم وأحلامهم التي يتناهبهما الوحوش، وأنّهم ضحايا هاربون من موتٍ يطارد وجودهم ومستقبلهم، موتٍ على هيئة غولٍ بمخالب فولاذية تنهش بيوتهم وبساتينهم الجميلة وشوارع قراهم ومدنهم الأليفة المشبعة بالطمأنينة والحبّ، يدركون أن لا سبيل للعودة إلى الحقيقة إلا بزوال هذا الموت المقنّع بصورة ذئب بشريّ يقطر من أنيابه القيح والسمّ، وأنّ هذا الكابوس الرهيب لن ينتهي إن بقي بشار الوحش وعائلة القتلة يحتلون أرضهم ويدمّرون بلادهم.
بكثير من اللهفة يستعجل ثائر ورفاقه الزمن، يريدون أن يغدوا رجالاً مثل آبائهم وأخوتهم الكبار، كي يحملوا عنهم ويتحملوا عبء المسؤولية ويخففوا من مشاقّ الحياة عن أحبّائهم، ربّما يفكرون في القبض على العدالة الهاربة والانتصاف لذويهم ولذواتهم المكلومة المعذبة، ولعلّهم يكنسون سجادة الحرية من الأوساخ، ومن العلّيق والقرّاد والطفيليات الماصّة لنقيّ الدمّ.
بالرغم مما تتمنّاه الأمّ يسيل الوقت في أوردة الصغار ويكبر ثائر، سيتعلّم عدداً من الدروس وسيعلم الكثير من الحقائق عن الإنسان والخير والشرّ، وسيعشق الحرية والجمال والبطولة، سيرفض أن يبقى وطنه خيمة يلتحف أسمالها، أو أرضاً لا يحمل ترابُها جيناته وتضاريس روحه، لكنّ ما تخشاه الأم أن يكبر ثائر دون أن يعرف المدرسة ويتنقل بين صفوفها، أن يبقى هائماً في بيداء لا تعرف الأبنية العالية والشوارع العريضة المخططة بالأبيض وإشارات المرور، والأرصفة المظللة بأشجار السنديان والدردار والزنزلخت.
المصدر: صحيفة اشراق