راغدة درغام
تتعرقل رؤية إدارة جو بايدن للشرق الأوسط بالدرجة الأولى في محطة انطلاقها، أي في تصوّرها أن في وسعها حياكة منظومة أمنية واقتصادية وسياسية، تضم حليفها الإسرائيلي ودولاً عربية خليجية وشرق أوسطية بموازاة، استثمارها في المفاوضات النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية لإبرام صفقة أميركية – إيرانية تؤدّي إلى رفع العقوبات الشاملة عن طهران.
إذا كان أركان إدارة بايدن يعملون ببالغ السريّة والدّقة على تفاهمات إيرانية – إسرائيلية استراتيجية خفيّة، توافق بموجبها طهران على مثل هذه المنظومة وتقبل بموجبها إسرائيل بأن تكون إيران ركناً في نظام أمني جديد يضمّها إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي واليمن والعراق، عندئذٍ يمكن الانحناء أمام براعة الرئيس جو بايدن وفريقه.
يمكن أيضاً الحلم بشرق أوسط جديد تتصالح فيه الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل اليهودية علناً، بدلاً من تلك الرقصة التهادنية التاريخية بينهما، فيما حروبهما بالنيابة تنهش الدول والشعوب العربية. لكن الواقعية السياسية تفيد بأن مشروع النظام في طهران لا يسمح لإيران بأن تتخلى عن عقيدتها، ولذلك لا يمكنها أن تقبل علناً بإسرائيل ولا أن تكفّ عن تصدير نموذج “الحرس الثوري” إلى الدول العربية، ليس فقط لتسيطر على هذه الدول، بل أيضاً لمنعها من سلوك مسار مستقلّ عن طهران في علاقاتها الثنائية مع إسرائيل. وكما يفيد إيران كثيراً أن تكون إسرائيل بكل جشعها وبرفضها حل الدولتين مع الشعب الفلسطيني، ترى إسرائيل في مشروع إيران النووي ذلك الوقود الذي تحتاجه للتّأجيج عندما تشاء وللحصاد عندما ترتئي. كلتاهما حكم ثيوقراطي، مهما تظاهرت إسرائيل بأنها ديموقراطية، أقلّه لأنها تصرّ أولاً وأخيراً على أنها دولة يهودية.
النقص في رؤية بايدن وفريقه هو التظاهر بغير هذا الواقع وبلا واقعية وبكثير من الفوقيّة، بالذات مع الدول العربية، ومن جهل بالعقلية والعقائدية في إسرائيل وإيران على السواء. وبالتالي، إن الرئيس الأميركي الرقم 46، جو بايدن، لن يتمكّن من بناء عالم جديد أو شرق أوسط جديد أوّلاً، لأنه بدأ البناء متأخّراً فيما كانت إسرائيل وإيران قد شيّدتا الحصن الذي تريده كل منهما، وثانياً، لأن الدول العربية، الخليجية منها بالذات، صاغت نهجها وخياراتها على وتيرة تحررها من التوقعات الأميركية بعدما فاجأها الرئيس الأميركي الرقم 44، باراك أوباما ونائبه عند ذاك جو بايدن، بسياسة الاستغناء والاستهتار المريرة. فماذا الآن؟
زيارة الرئيس بايدن الشرق الأوسط كانت مُستَعجَلة، دفعت بها الحرب الأوكرانية واحتياجات أوروبا إلى النفط والغاز تعويضاً عن انقطاعها من روسيا. لو لم يقم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باجتياح أوكرانيا وتغيير المعادلة الدولية الاقتصادية والنفطية منها بالذات، لما أسرع الرئيس الأميركي إلى السعودية للقاء قادتها وللمشاركة في قمّة جدّة مع الدول الخليجية الست الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي زائداً مصر والعراق والأردن. فالرئيس جو بايدن كان منصبّاً تماماً على المفاوضات في فيينا مع إيران لإحياء الصفقة النووية JCPOA وإبرام صفقة ثنائية كتلك التي أبرمتها إدارة أوباما التي خدم بايدن وفريقه فيها.
زيارة بايدن السعودية أتت في إطار الاعتذار والاعتراف غير المباشر بالأخطاء والإهمال، زيارة الـ”مياكولبا” تقريباً وليست زيارة للبناء. كان لا بد للرئيس الأميركي من أن يكون مكبّلاً بإيران طوال محادثاته في المحطة الإسرائيلية كما في المحطة السعودية. ذلك لأنه لم يكن قد انتهى من مفاوضات فيينا، ولم يكن قد أنهى التزامه وإصراره على صفقة مع إيران. فالخلل في ترتيب الزيارة كان بنيوياً، افتقد أدوات بناء العلاقات الطويلة الأمد وصقل الاستراتيجيات.
بكلام آخر، يصطدم تصوّر الرئيس بايدن وفريقه لشرق أوسطٍ مستقر بالعقدة الإيرانية – الإسرائيلية، وبالسلوك الإيراني في المنطقة العربية كما ترتئيها العقيدة الإيرانية، وإلى درجة أكبر يصطدم بالعداء الإيراني نحو الوجود الأميركي في المنطقة. بكلام آخر، إن الخلل هو في اعتقاد بايدن وفريقه أن لديه العصا السحرية لتغيير سلوك إيران وفكرها وعقيدتها. الخلل أيضاً هو في افتراض هذا الفريق أن “ترقيع” المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية كافٍ للقفز إلى واقع جديد، وأن مجرد اللفظ بـ”حل الدولتين” وقيام الرئيس بايدن بزيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس مسكِّنٌ فعّال لجبهة المقاومة التي لإيران ذراع طويلة فيها. الخلل هو في عزم إدارة بايدن، كما الإدارات الأميركية التي سبقتها، على حجب العدالة عن الفلسطينيين وسحق حقِّهم بدولة مستقلة لأن إسرائيل في صميمها لا تريد قيام تلك الدولة.
بالأمس، كان السياسيون الأميركيون يخشون أن يُغضِبوا إسرائيل بسبب نفوذها في ساحة الانتخابات الأميركية. اليوم، الخوف يبقى من نفوذ إسرائيل وغضبها، لكنه يتفاقم عند التفكير بغضب إيران إذا ما فشلت المفاوضات النووية.
الى حد ما، أوقع الرئيس جو بايدن نفسه في مصيدة مفاوضات فيينا الرامية إلى إحياء الاتفاقية النووية مع إيران، والتي مزّقها سلفه دونالد ترامب احتجاجاً على النقص فيها. بات سجيناً لها في الوقت الذي عليه أن يُبحِر بين الشروط الإيرانية التعجيزية والمسيرة الإيرانية المستمرة نحو اقتناء السلاح النووي. يجد الرئيس بايدن نفسه غير قادر على استئناف سياسة ترامب القائمة على مبدأ “الضغوط القصوى” على إيران، لأن الفكرة تثير اشمئزازه مع أنه لم يتردّد في تبنّي سياسة ترامب التي أطلقت “اتفاقيات أبرامز” للتطبيع بين العرب وإسرائيل.
فريق بايدن أراد إنشاء وضع جديد في الشرق الأوسط استطراداً لسياسة ترامب المعنية بإسرائيل، لكنه وجد أن انغماسه في تمزيق ما مزّقه ترامب مع إيران بات العرقلة الكبرى التي تحول دون بناء ما تصوّره.
فطهران لن تسمح بقيام نظام أمني إقليمي يضم العرب وإسرائيل تبقى هي خارجه. قدراتها التخريبية ضخمة وهي لن تتردد في استخدامها. الثمن الذي تطالب إيران به هو أن تنفّذ إدارة بايدن التزامات رفع كامل العقوبات عنها طبقاً لشروطها في إطار مفاوضات فيينا. وإدارة بايدن في مأزق.
إدارة بايدن في مأزق لأنها تحاول إحياء الوجود الأميركي والعلاقات المتينة مع الدول الخليجية العربية، وبناء منظومة تعايش وتطبيع مع إسرائيل بسرعة من أمرها، وهي تعتقد أن ما تبنيه دائم بغضّ النظر عما يحدث في المفاوضات مع إيران والتي تثق بأنها ستؤدّي إلى نتيجة في نهاية المطاف.
مثل هذا التفكير هو رهان وليس سياسة. مثل هذا التصوّر والتصرّف يوحي بأن فريق بايدن يرتجل سياساته، ويفتقد رؤية البناء، ويقع في تخبّط وارتباك استراتيجيين يثيران القلق.
ما تحتاجه الولايات المتحدة اليوم هو إعادة بناء نفسها في منطقة الشرق الأوسط بوضوح وبراغماتية. اليوم تبدو صبيانية بعض الشيء وهي تتبنّى سياستين شبه متضاربتين، إحداهما تهادنية مع إيران توحي بالعزم على تلبية شروطها ورفع العقوبات عنها، وأخرى استفزازية توحي بأن إيران مُستَبعَدة من الشبكة الأمنية والاقتصادية الشرق أوسطية التي تضم دولاً خليجية عربية وإسرائيل.
صوغ دور جديد للولايات المتحدة في منطقة الخليج أمر في غاية الأهمية والخطورة إذا ارتكبت إدارة بايدن أخطاءً استراتيجية. لقد تأخرت إدارة بايدن في إيضاح معالم سياساتها نحو الدول الخليجية ونحو المنطقة العربية ككل. وذلك بسبب انهماكها بإيران. في هذه الأثناء، صاغت الدول العربية نهجها واعتمدت سياسات مستقلة عن تقاليد العلاقات الأميركية – الخليجية لكن من دون طلاق منها. هناك مجال لإصلاح ما أفسده العطّار، ولكن الثقة القاطعة والاعتماد التام ولّى عهدهما. وبالتالي ستكون مهمّة إدارة بايدن صعبة، ليس فقط مع إيران وإسرائيل بل أيضاً مع الدول العربية.
بناء المحاور لم يعد كما كان في زمن الحرب الباردة، وعملية الاستقطاب باتت أكثر تعقيداً. هذا لا ينفي أن المحور الثلاثي الذي يضم الصين وروسيا وإيران يراقب عن كثب ما تحاول أن تقوم به إدارة بايدن في إطار بناء محورها. في رأي روسيا، لن تتمكن الولايات المتحدة من بناء محور جدّي لأنها أخطأت في الفحوى وفي التوقيت. رأي الكرملين هو أن الاستقرار ليس المهم اليوم بل الأهم هو عملية تشييد المحاور والاستراتيجيات والهياكل الأمنية ذات الجذور القوية.
المصدر: النهار العربي