باري ر. بوزن
فيما تزيد القوات الروسية سيطرتها على الأراضي الأوكرانية، لا يزال الرئيس الأوكراني وحلفاؤه متفقين على مواصلة أوكرانيا القتال حتى النصر وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل بدء الاجتياح الروسي. ويقوم التصور على أن روسيا ستتخلى عما احتلته من أراضٍ منذ فبراير (شباط) الماضي، ولن تعترف أوكرانيا لا بضم شبه جزيرة القرم ولا بصيغة الدويلات الانفصالية بمنطقة الدونباس، وسوف تمضي في طريقها لاكتساب عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. بالنسبة إلى روسيا حصيلة كهذه ستمثل هزيمة واضحة، إذ إزاء الكلف الكبرى التي دفعتها حتى الآن، توازياً مع استبعاد رفع العقوبات الاقتصادية الغربية عنها قريباً، تبقى مكتسبات موسكو من هذه الحرب بلا أي قيمة. وهي من دون شك ستعاني حالة إنهاك ثابتة – أو وفق كلام وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ستغدو “واهنة لدرجة تعجزها عن القيام بأمور مشابهة لاجتياح أوكرانيا”.
وقد اقترح داعمو أوكرانيا مسارين لتحقيق النصر. المسار الأول يعبر أوكرانيا نفسها. ويشير المقترح المذكور إلى أن أوكرانيا بمساعدة من الغرب يمكنها إلحاق الهزيمة بروسيا في أرض المعركة من خلال استنزاف قواتها عبر إنهاكها أو مقارعتها بأساليب ذكية. أما المسار الثاني فيعبر موسكو، إذ بمزيج من ضغوط اقتصادية وبعض المكاسب المحققة على أرض المعركة يمكن للغرب أن يقنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإنهاء الحرب – أو إقناع شخص ما في دائرته بإزاحته بالقوة وخلافته.
بيد أن كلتا النظريتين شيدتا على أسس هشة، إذ يرجح أن الجيش الروسي الموجود في أوكرانيا قوي بما يكفي للدفاع عن مكاسبه هناك، فيما في المقابل يتمتع الاقتصاد الروسي باستقلالية كافية [إزاء العقوبات الغربية]، وقبضة بوتين أقوى حتى من أن يتم إجباره على التخلي عن مكاسبه فيها. من هنا فإن الحصيلة الأكثر ترجيحاً من الاستراتيجية الراهنة لا تتمثل في انتصار أوكراني، بل بحرب طويلة الأمد، دموية، وغير حاسمة أبداً. والصراع الطويل الأمد في هذا السياق لن يكون مكلفاً على صعيد الخسائر البشرية والأضرار الاقتصادية وحسب، بل أيضاً من ناحية تفاقم الأمور وتصاعد التوترات – وذاك يتضمن احتمال استخدام أسلحة نووية.
يتحدث قادة أوكرانيا وداعموها كأن النصر متاح أمامهم وفي متناول اليد، بيد أن هذا الأمر يبقى وهماً، لذا على أوكرانيا والغرب إعادة النظر بطموحاتهم، والتحول من استراتيجية الانتصار في الحرب إلى مقاربة أكثر واقعية تتمثل بالتوصل إلى تسوية دبلوماسية تنهي القتال.
انتصار في الميدان
يرى كثيرون في الغرب أنه يمكن الانتصار بالحرب في أرض المعركة. وفق هذا السيناريو ستقوم أوكرانيا بتدمير قوة الجيش الروسي القتالية، مجبرةً القوات الروسية على التقهقر أو الانهيار. في المراحل الأولى للحرب رأى داعمو أوكرانيا أنه يمكن إلحاق الهزيمة بروسيا عن طريق استنزافها. وجاءت المقاربات السريعة في هذا الإطار راسمةً صورة لجيش روسيا وهو على شفير الانهيار. وزارة الدفاع البريطانية قدرت في أبريل (نيسان) الماضي أن يكون 15 ألف جندي روسي قتلوا في أوكرانيا. ومع افتراض أن عدد الجرحى أكبر بثلاث مرات، وفق المعدل الوسطي المسجل خلال الحرب العالمية الثانية، فقد عنى ذلك أنه جرى تحييد قرابة 60 ألف جندي روسي وإخراجهم من العمليات. وكانت التقديرات الغربية الأولية أشارت إلى أن حجم القوى الروسية على خطوط القتال يبلغ 120 كتيبة من المجموعات التكتيكية، التي قد يبلغ مجمل عديدها 120 ألف جندي. لو أن تلك التقديرات صحيحة لكانت القوة القتالية الروسية انخفضت بمعدل أدنى من 50 في المئة، وذاك معدل يراه الخبراء مؤشراً لتعطل كفاءة وفاعلية القوى القتالية، مؤقتاً في الأقل.
تلك التقديرات التي أشير إليها سابقاً تبدو اليوم مفرطة في التفاؤل، إذ لو كانت دقيقة لكان الجيش الروسي قد انهار الآن. غير أنه بدل انهياره المفترض تمكن من تحقيق مكاسب بطيئة لكن متواصلة في منطقة الدونباس. وعلى الرغم من إمكانية إثبات نظرية الاستنزاف [استنزاف الجيش الروسي] صحتها في يوم من الأيام، فإنها تبقى غير مرجحة في الوقت الراهن. الخسائر التي تكبدها الروس تبدو أقل مما قدره كثيرون، أو أن الروس على الرغم من الخسائر المزعومة وجدوا طريقة للحفاظ على طاقة قواهم القتالية. وإنهم، بشكل أو بآخر، يجدون ما يكفي من قوات احتياط، على الرغم من إعلانهم السابق عن عدم نيتهم إرسال مجندين جدد أو تحريك قوات احتياطية إلى الجبهة. وهم في هذا الإطار، إن دعت الحاجة وتفاقمت الأمور، يمكنهم التخلي عن سياسة الإحجام عن إرسال مزيد من القوات.
إن بدا أن نظرية انهيار الروس عن طريق الاستنزاف قد أخفقت سلفاً في امتحان المعركة، ثمة خيار آخر يتمثل باحتمال تمكن الأوكرانيين من التفوق على الروس. فالقوات الأوكرانية يمكنها إلحاق الهزيمة بالعدو في “حرب المدرعات”، أي بالدبابات وما يرافقها من سلاح مشاة ومدفعية، مثلما تمكنت إسرائيل من إلحاق الهزيمة بأعدائها العرب في حربي “الأيام الستة” سنة 1967 و”يوم الغفران” سنة 1973، لكن لا روسيا ولا أوكرانيا تملكان ما يكفي من وحدات الحرب المدرعة المطلوبة للدفاع بكثافة عن حدودهما الممتدة، وذاك يعني في المبدأ أن الطرفين، على حد سواء، يمكن أن يعانيا الضعف إزاء الهجمات المدرعة العنيفة، لكن إلى الآن لم يظهر أي منهما أنه يعتمد على تكتيكات كهذه. وربما اكتشفت روسيا تعذر تخصيص قوات لهجمات كهذه من دون انكشافها أمام الاستخبارات الغربية، كما يمكن لأوكرانيا في الوقت عينه أن تعاني الانكشاف ذاته أمام الاستخبارات الروسية. من هنا، فإن أوكرانيا من موقعها كمدافع حذر يمكنها استدراج عدوها لاستنزاف نفسه والتوسع أكثر من الحاجة. فالقوات الروسية قد تجد أجنحتها وخطوط إمدادها عرضة للهجمات المضادة – كما حصل على ما يبدو، لكن على نطاق أصغر، حول كييف خلال المعارك الأولى للحرب.
لكن تماماً كما يستبعد تعرض الجيش الروسي للانهيار بفعل الاستنزاف، فإن من المستبعد أيضاً أن يخسر جراء المواجهة والإنهاك، إذ يبدو الروس الآن متيقظين تجاه المناورات التي جربها الأوكرانيون في مرحلة سابقة. وعلى الرغم من ندرة التفاصيل المنشورة، فإن الهجمات المضادة الأحدث التي نفذها الأوكرانيون في منطقة خيرسون لم توحِ بمفاجآت أو أبعاد مناوراتية كبيرة، بل إن تلك الهجمات بدت بطيئة إلى حد ما وطاحنة كتلك التي شنها الروس أنفسهم في منطقة الدونباس. ومن غير المرجح أن يؤدي هذا النمط من العمليات إلى تغيير كبير على أرض الواقع، إذ على الرغم من تمتع الأوكرانيين بمعنويات أفضل من الروس، كونهم يدافعون عن أرضهم، فإنه ما من سبب للاعتقاد أنهم متقدمون أصلاً في حرب الآليات. فالتفوق بهذه الأخيرة يتطلب بالدرجة الأولى كثيراً من التخطيط والتدريب. أجل، لقد استفاد الأوكرانيون من المشورة الغربية، بيد أن الغرب نفسه قد يكون مفتقراً إلى الخبرة العملياتية في عمليات كهذه، كونه لم يخض حرباً من هذا النوع منذ سنة 2003، حين اجتاحت الولايات المتحدة العراق. وكان الأوكرانيون منذ سنة 2014 ركزوا جهودهم على مسألة إعداد القوات للدفاع عن الخطوط الحصينة في منطقة الدونباس، لا على الحرب المتنقلة.
والأهم من هذا، فإن قدرة أي بلد على خوض حرب مدعمة بالآليات ترتبط بمدى تطوره من الناحية الاجتماعية-الاقتصادية، إذ إن المهارات والقدرات التقنية والإدارية على حد سواء مطلوبة في هذه الحالة لإبقاء آلاف الآليات والأجهزة الإلكترونية في وضعية سليمة وللتنسيق المباشر بين الوحدات القتالية المنتشرة في المناطق النائية. ولكل من أوكرانيا وروسيا مجتمع مؤهل يزودهما بالجنود، لذا فإنه من غير المرجح أن تتفوق أوكرانيا في مجال الحرب المدرعة والآلية.
الحجة المضادة المحتملة في هذا الإطار تقول إن الغرب قادر على تزويد أوكرانيا بتكنولوجيا شديدة التطور تمكنها من التفوق على ما يملكه الروس وتساعد كييف على إلحاق الهزيمة بالعدو من خلال استنزافه أو عبر الحرب المتحركة (المتنقلة). بيد أن هذه النظرية تبقى خيالية أيضاً، فروسيا تتمتع بتفوق من ناحية الكثافة السكانية والإنتاج الاقتصادي بمعدل ثلاثة إلى واحد، وذاك يمثل فارقاً تعجز حتى أشد الأجهزة والآلات تطوراً عن تعويضه. فالأسلحة الغربية المتطورة، مثل (صواريخ) “جافلين” و”أنلو” (الجيل المقبل من الأسلحة الخفيفة المضادة للدبابات) (NLAW) الموجهة والمضادة للمدرعات، ساعدت أوكرانيا على الأرجح في تكبيد الروس ثمناً باهظاً لاجتياحهم، لكن هذه التكنولوجيا إلى الآن تستخدم بالدرجة الأولى لتعزيز الميزات التكتيكية التي يتمتع بها المدافعون سلفاً – من نواحي التغطية والتمويه والقدرة على إعاقة العدو بواسطة وسائل طبيعية ومصطنعة. وإنه أمر أصعب بكثير أن يجري استغلال التكنولوجيا المتطورة لتنفيذ الهجمات ضد عدو يتمتع بأرجحية واضحة من ناحية الكم، لأن القيام بذلك يتطلب تجاوز التفوق العددي الكبير والأرجحية التكتيكية في الدفاع. وفي حالة أوكرانيا من غير الواضح ما التكنولوجيا المتميزة التي يملكها الغرب التي ستعطي أرجحية للجيش الأوكراني كي يتمكن من اختراق الدفاعات الروسية.
ولإيضاح الصعوبات التي يواجهها الأوكرانيون في هذا الإطار ينبغي التفكر بالفشل الذي منيت به ألمانيا النازية في هجومها الرئيس الأخير خلال الحرب العالمية الثانية، هجوم “الأردين”. ففي شهر ديسمبر (كانون الأول) 1944، قام الألمان بمفاجأة الحلفاء في غابة الأردين (عند الحدود الألمانية – البلجيكية) بتركيز وحداتهم المدرعة والمشاة هناك عند جبهة رخوة وغير حصينة تمتد لخمسين ميلاً (80 كلم). وقد أمل الألمان في التمكن من تدمير دفاعات الحلفاء في بلجيكا، وفصل الجيش الأميركي عن الجيش البريطاني، والسيطرة على ميناء أنتويرب ذي الأهمية البالغة، وتعطيل جهود الحلفاء الحربية. وقد راهن الجيش الألماني على قدرته ومهارته في الحرب الآلية والمدرعة وعلى تفوقه العددي الذي تطلب بناؤه في تلك المنطقة جهداً كبيراً، وعلى تمكن التقنيات المتطورة لقواه المدرعة من التفوق على الميزات المشتركة التي يتمتع بها الجيشان الأميركي والبريطاني من نواحي العديد والمدفعية والقوة الجوية. وعلى الرغم من تمكن الألمان من مفاجأة العدو والتمتع بالنجاح لبضعة أيام، فإن تلك العملية ما لبثت أن تعثرت، إذ استطاع القادة الميدانيون الغربيون سريعاً إدراك ما يحصل، وتمكنوا بكفاءة عالية من استخدام تفوقهم المادي لصد التقدم الألماني. اليوم يبدو أن البعض يقترح على الأوكرانيين أن يجربوا استراتيجية تحاكي تلك التي اعتمدها الألمان (في غابة الأردين) لتجاوز عقبات مماثلة، لكن ليس ثمة من سبب مقنع يجعلنا نصدق أن الأوكرانيين سيحققون نتائج أفضل من الألمان في الميدان.
الانتصار في موسكو
إن لم تتمكن كييف من الانتصار في أرض المعركة بأوكرانيا، ربما تستطيع تحقيق ذلك النصر في موسكو. هذه النظرية الأساسية الأخرى للنصر تتخيل أن مزيجاً من الضغوط الاقتصادية والاستنزاف في أرض المعركة من شأنه أن ينتزع من روسيا قراراً لإنهاء الحرب والتخلي عن المكتسبات التي حققتها.
وفق هذه النظرية فإن الاستنزاف في أرض المعركة يحشد عائلات الجنود القتلى والجرحى ضد بوتين، فيما تؤدي الضغوط الاقتصادية إلى إغراق حياة الروس العاديين بمزيد من القتامة. وإزاء ذلك يتابع بوتين تهاوي شعبيته، فيبدأ بالقلق تجاه احتمال انتهاء مسيرته السياسية قريباً إن لم يوقف الحرب. أو بدل هذا، لا يتمكن بوتين من ملاحظة مدى السرعة التي يقوم بها الاستنزاف في أرض المعركة والشح الاقتصادي، بتقويض شعبيته، لكن آخرون في دائرته يلاحظون ذلك، فيبادرون، بناءً على مصالحهم الذاتية الخالصة، بعزله أو ربما حتى إعدامه. وحين يغدو أولئك في السلطة يجنحون إلى السلم. وفي كلتتا الحالتين تقر روسيا بالهزيمة.
بيد أن هذا الطريق نحو النصر الأوكراني مليء أيضاً بالعثرات. إحدى هذه العثرات تتمثل بأن بوتين هو رجل استخبارات محترف سابق، ويفترض أنه يعرف كثيراً في مضمار المؤامرات، ومعرفته تلك تتضمن كيفية التصدي لها، هذا الأمر بمفرده يضعف الاستراتيجية القائلة بتغيير النظام، حتى إن كان هناك في موسكو أشخاص مستعدون للمخاطرة في حياتهم لمحاولة ذلك. وثمة أمر آخر في هذا الإطار، إذ من غير المرجح أن يسهم التضييق على الاقتصاد الروسي في خلق حالة شح كافية لإرساء ضغوط سياسية مؤثرة في بوتين. فالغرب قد يتمكن من إلحاق المزيد من الرتابة في حياة الروس، ويمكنه حرمان مصنعي الأسلحة الروس من الشرائح الإلكترونية الدقيقة المستوردة، لكن من المستبعد أن تتمكن هذه الأمور من زعزعة بوتين وحكمه. فروسيا بلد ضخم، عدد سكانه مرتفع، ولديه أراضٍ شاسعة صالحة للزراعة، ووفرة في إمدادات الطاقة، وغيرها كثير من المصادر الطبيعية، وقاعدة صناعية كبيرة إن جرى تجديدها. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب حاول وفشل في مقارعة إيران، البلد الأصغر من روسيا والأقل تطوراً منها لكن المستقل مثلها من ناحية الطاقة. ومن الصعب هنا رؤية هذه الاستراتيجية نفسها تنجح في مقارعة روسيا.
أما تأثير الخسائر على حسابات بوتين المتعلقة بمصالحه الخاصة فتبقى أصعب للتقييم، لكن مرة أخرى، ثمة سبب للشك في أن يكون هذا العامل المذكور قادراً على إقناعه بالانسحاب. فالقوى العظمى في العادة تتحمل خسائر كبيرة في الحروب لسنوات، وهي تفعل ذلك حتى لأسباب واهية. الولايات المتحدة فعلت ذلك في فيتنام، وأفغانستان، والعراق، والاتحاد السوفياتي فعل ذلك في أفغانستان. وقبل الاجتياح الروسي في فبراير (شباط) الماضي أصر كثيرون في الغرب على قيام الأوكرانيين بتنظيم وإطلاق حرب عصابات ضد روسيا. وكان يؤمل أن تؤدي تلك الفرضية إلى كبح الهجوم الروسي بالدرجة الأولى، وفي حال الفشل، إلى فرض ثمن باهظ على القوات الروسية سرعان ما يجعلها تنسحب. إحدى المشكلات في هذه الاستراتيجية تتمثل بأن المقاتلين أنفسهم الذين يخوضون حرب العصابات سيكابدون خسائر كبيرة في سياق مسعاهم لفرض ثمن باهظ على المحتلين. وقد يكون الأوكرانيون مستعدين لتحمل خسائر مؤلمة في حرب استنزاف تقليدية ضد روسيا، لكن من غير الواضح إن كان بوسعهم إلحاق ألم كافٍ بالروس، يمنحهم النصر الذي يريدونه.
ومن غير الواضح أيضاً إن كان بوسعهم تحمل خسائر كهذه لوقت طويل، إذ حتى الجنود الأكثر اندفاعاً قد ينفد صبرهم إن بدا القتال عقيماً. ولو اضطرت أوكرانيا أمام تزايد الخسائر إلى زج الجنود الأقل خبرة في المعركة اليائسة، فإن فكرة حرب الاستنزاف المفتوحة ستخسر مزيداً من التأييد. في المقابل من المرجح أن يكون الروس أكثر قدرة على تحمل الألم، إذ إن بوتين يتحكم بالسردية المحلية الروسية المتعلقة بهذه الحرب، وذاك يجعل كثيراً من المواطنين الروس يتفقون معه في نظرته إلى الحرب الراهنة – واعتبارها معركة أساسية لصالح الأمن القومي الروسي، كما أن عدد سكان روسيا أكبر من عدد سكان أوكرانيا.
إلى طاولة المفاوضات
لن يكون بوسع أحد الجزم بأن الجيش الروسي منيع تجاه ضربات شديدة أو ذكية كفاية تؤدي إلى انهياره، أو أن روسيا بمنأى عن ضرر كافٍ يجبر بوتين على الاستسلام. إلا أن هذه الأمور تبقى مستبعدة جداً الآن. فالنتيجة الأكثر ترجيحاً في الوقت الراهن، بعد أشهر أو سنوات من القتال، تتمثل بجمود في خطوط المواجهة الحالية. ستكون أوكرانيا قادرة على وقف التقدم الروسي، بفضل المعنويات المرتفعة لقواتها، وبفضل تدفق الدعم الغربي والمزايا التكتيكية للوضعية الدفاعية، لكن روسيا على الرغم من ذلك تتمتع بتفوق كبير من ناحية عديد الجيش، وذاك يعطف على المزايا التكتيكية للدفاع، فيسمح لها بإحباط الهجمات الأوكرانية المضادة المصممة لعكس ما حققته من مكاسب. أما داخل روسيا فستؤدي العقوبات الغربية إلى إزعاج السكان وإبطاء النمو الاقتصادي، لكن الاكتفاء الذاتي لهذا البلد من ناحية إمدادات الطاقة والمواد الأولية ينبغي أن يحول دون أن تؤدي هذه العقوبات إلى أكثر من ذلك. وفي الدول الغربية، في هذه الأثناء، فإن المواطنين المستائين من الأضرار المصاحبة للعقوبات الغربية على روسيا قد يفقدون صبرهم تجاه الحرب. وقد يصبح الدعم الغربي لأوكرانيا أقل سخاءً. وإذا ما قرئت هذه العوامل كلها في سياق واحد فإنها قد تؤدي إلى نتيجة واحدة: تعادل في أرض المعركة.
ومع مرور الأشهر والأعوام ستكون كل من روسيا وأوكرانيا قد تكبدتا خسائر كبيرة لتحقيق ما لا يزيد كثيراً على ما أنجزته سلفاً كل منهما – مكاسب جغرافية محدودة وباهظة الثمن بالنسبة إلى روسيا، وحكومة سيادية قوية ومستقلة تسيطر على معظم أراضي البلاد ما قبل الحرب بالنسبة إلى أوكرانيا. ثم، في مرحلة ما، يرجح أن يرى البلدان أنه من المناسب القيام بالتفاوض. وعلى كل منهما الحرص على أن تكون المفاوضات حقيقية، فيتخلى كل منهما عن أمر ذي قيمة.
وإن كان هذا يمثل النتيجة الأكثر ترجيحاً لكل ما يجري، فإنه من غير المنطق للدول الغربية الاستمرار في ضخ المزيد من الأسلحة والمال في حرب تؤدي مع كل أسبوع إلى مزيد من القتلى والدمار. على حلفاء أوكرانيا الاستمرار في تأمين المصادر التي يحتاج إليها هذا البلد للدفاع عن نفسه ضد مزيد من الهجمات الروسية، لكن عليهم ألا يشجعوا أوكرانيا على إنفاق تلك المصادر على الهجمات المضادة التي يرجح أن تثبت عقمها، بل على الغرب بدل ذلك، الانتقال فوراً إلى طاولة المفاوضات.
لا شك أن الدبلوماسية ستمثل تجربة ذات نتائج غير مؤكدة، بيد أن الأمر عينه ينطبق على استمرار القتال، هذا القتال الضروري لامتحان نظريات النصر الأوكرانية والغربية. الفارق بين التجربتين يتمثل في زهد تكلفة الدبلوماسية، إذ إن هذه التكلفة، إضافة إلى الوقت ونفقات السفر والقهوة، ليست سوى تكلفة سياسية، إذ قد يسرب، مثلاً، مشاركون في المفاوضات تفاصيل عن النقاشات الدائرة بهدف الطعن بهذا الطرف أو ذاك، أو للقضاء على مقترح ما ومحاولة إلحاق العار بطرف من الأطراف، لكن هذه الكلف السياسية تتهافت مقارنة بكلف استمرار الحرب.
على أن الكلف الأخيرة قد تتعاظم بسهولة، إذ من شأن الحرب في أوكرانيا أن تتفاقم لتتضمن مزيداً من الهجمات التدميرية التي يشنها كل طرف. فوحدات القوات الروسية ووحدات حلف الناتو تقوم بعملياتها في البحر والجو على مسافات قريبة جداً، والحوادث ممكنة، كما أن دولاً أخرى، مثل بيلاروس ومولدوفا، قد تتورط بالحرب مع ما يمثله هذا من مخاطر غير مباشرة على دول الناتو المجاورة. والمخيف أكثر في هذا الإطار فيتمثل في امتلاك روسيا أسلحة نووية قوية ومتنوعة، والانهيار الوشيك للجهود الروسية في أوكرانيا قد يدفع بوتين إلى استخدامها.
مما لا شك فيه سيكون إيقاف الحرب عن طريق التفاوض أمراً صعباً، بيد أن الخطوط العريضة للتسوية باتت ظاهرة سلفاً. كل طرف عليه تقديم تنازلات مؤلمة. سيكون على أوكرانيا التخلي عن مساحة معتبرة من أراضيها وأن تقر بذلك كتابة. في المقابل على روسيا التخلي عن بعض المكاسب المحققة في الميدان، والكف عن المطالبة بمزيد من الأراضي في المستقبل. ولتلافي أي هجوم روسي مستقبلاً ستحتاج أوكرانيا بالتأكيد لضمانات أميركية قوية ولدعم عسكري أوروبي، إضافة إلى مساعدات عسكرية مستمرة (تتضمن بالدرجة الأولى أسلحة دفاعية، لا هجومية). وستحتاج روسيا إلى الاعتراف بشرعية هذه التدابير. وسينبغي للغرب الموافقة على تخفيف عديد من العقوبات الاقتصادية التي فرضها على روسيا. وسيتوجب على الناتو وروسيا إطلاق اجتماعات تفاوض بغية تخفيف التوترات الناتجة من الانتشار العسكري والاحتكاك على طول حدود انتشارهما. والقيادة الأميركية هنا لها دور أساسي في الحل السياسي، لأن الولايات المتحدة هي الداعم الرئيس لأوكرانيا والناظم لحملة الضغوط الاقتصادية الغربية ضد روسيا، وهي تتمتع بالنفوذ الأعظم تجاه الطرفين.
إيراد هذه المبادئ يبقى أسهل من تثبيتها بنوداً ضمن أحكام اتفاق عتيد، لكن هذا بالضبط السبب الذي يستدعي المباشرة بالمفاوضات عاجلاً وليس آجلاً. فنظريات الانتصار الغربية والأوكرانية بنيت على منطق واهٍ. وهي في أحسن الأحوال تتطلب ثمناً باهظاً لجمود مؤلم في جبهات القتال يترك كثيراً من الأراضي الأوكرانية تحت السيطرة الروسية. وإن كان هذا يمثل أفضل النتائج المرتجاة بعد أشهر أو سنوات إضافية من القتال، فلن يكون أمامنا سوى أمر عقلاني واحد القيام به: السعي فوراً إلى إنهاء الحرب بالطرق الدبلوماسية.
باري ر. بوسين أستاذ في مقعد فورد للعلوم السياسية في جامعة “أم أي تي”.
مترجم عن فورين أفيرز – يوليو (تموز) 2022
المصدر: اندبندنت عربية