ترجمة: هدير عبد العظيم
مقدمة الترجمة:
تُشير التحركات الأخيرة بين المسؤولين الهنود وقادة حركة طالبان إلى تقارب واضح بين الطرفين، وتأتي هذه الخطوة في وقت تعاني فيه الحركة من عزلة دولية على خلفية سيطرتها على أفغانستان في أعقاب الانسحاب الأميركي من البلاد العام الماضي. حول ذلك التقارب التاريخي بين الحركة الجهادية والحكومة الهندية بقيادة حزب “بهارَتيا جَنَتا” القومي الهندوسي، نشرت مجلة “فورين أفيرز” الأميركية تحليلا أعدَّه كلٌّ من “تريشيا بَيكون”، الأستاذة المشاركة في كلية الشؤون العامة بالجامعة الأميركية، التي عملت سابقا في مكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية الأميركية، و”إسفنديار مير”، الخبير البارز في معهد الولايات المتحدة للسلام.
نص الترجمة:
منذ استيلاء حركة طالبان على السلطة في أفغانستان الصيف الماضي وحكومتها معزولة دوليا، وما من دولة واحدة اعترفت بها حتى الآن. بيد أنه في الأسابيع الأخيرة، أبدى مسؤولو طالبان سلسلة من البادرات العلنية تجاه شريك غير متوقَّع هو الهند. وقد بدا الاهتمام مُتبادلا بين الطرفين إلى حدٍّ ما، ففي قمة إقليمية حول الأمن في طاجيكستان في نهاية مايو/أيار الماضي، حثَّ “آجيت دوفال”، مستشار الأمن القومي الهندي، جيران أفغانستان على تقديم المساعدات لمكافحة الإرهاب في البلد الذي مزَّقته الحرب. وفي 2 يونيو/حزيران، سافر وفد من كبار المسؤولين الهنود إلى كابول للقاء قادة طالبان، وفي 23 من الشهر ذاته، استأنفت الهند نشاط بعثتها الدبلوماسية في أفغانستان.
في مقابل هذا الاعتراف الهندي الضمني بطالبان، أبدت الحركة استعدادها للعمل استخباراتيا ضد عدد من كبرى الجماعات الجهادية، بما فيها “لَشْكَر طَيبة” و”جيش محمد” وفرع القاعدة في شبه القارة الهندية، التي لطالما وَجدت ملاذا لها في أفغانستان. وإذا صدَقَت طالبان في تصريحاتها للحكومة الهندية، فقد يُمثِّل ذلك تحوُّلا كبيرا في نهج الحركة القديم تجاه حلفائها من الميليشيات الأجنبية.
يتناقض تقارب طالبان الوليد مع نيودلهي تناقضا صارخا مع مصالح باكستان، حليف الحركة القديم، إذ قامت الرعاية الباكستانية لطالبان طيلة ثلاثة عقود تقريبا على الإيمان بأنه يمكن الاعتماد على طالبان لتحجيم النفوذ الهندي في أفغانستان. ويُنذِر ذلك بتحوُّل مُذهِل في الديناميات الإقليمية، حيث يُمكِن أن تؤدي تقوية العلاقات مع الهند إلى ابتعاد الحكومة الأفغانية بقيادة طالبان عن باكستان في نهاية المطاف.
تحوُّل مفاجئ في السياسة الهندية
يُعَدُّ تغيير الهند لنظرتها تجاه طالبان تحوُّلا مفاجئا. فحينما صعدت الحركة إلى السلطة أول مرة عام 1996، دعمت الهند الفصائل المُناهِضة لطالبان والمعروفة بـ”التحالف الشمالي”. وبعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لأفغانستان عام 2001، كانت الهند داعما ثابتا للجمهورية الأفغانية الوليدة التي حلَّت محل طالبان. وعلى مدار العقدين التاليين، اعترضت الهند باستمرار على المفاوضات الأميركية مع طالبان، خشية أن يؤدي أي اتفاق إلى تقويض الحكم الديمقراطي الناشئ في أفغانستان، وتشجيع إسلام آباد على “زيادة دعمها للانفصاليين” في ولاية كشمير الحدودية.
من جهة أخرى، تُمثِّل رغبة طالبان في العمل مع الهند تحوُّلا جذريا. فعلى مدار عقدين، تذمَّرت طالبان من الدعم الهندي للجمهورية الأفغانية (ما بعد الاحتلال الأميركي)*، واستهدفت الحركة -بصورة مباشرة وعن طريق حلفائها- موظفين هنود، وأضرَّت بالمصالح الهندية في أفغانستان. والمثال الأشهر على ذلك هو تفجير السفارة الهندية في كابول عام 2008، الذي نفَّذته شبكة “حقاني” التابعة لطالبان، التي تحظى بالدعم الباكستاني حسب تقدير الولايات المتحدة.
في ضوء هذا الماضي، يبدو مُدهِشا ما جرى تداوله من أن التواصل الأخير بين طالبان والهند تضمَّن نقاشات جدية بشأن مكافحة الإرهاب، حيث إن كُل الجماعات التي يريد الهنود من طالبان أن تتحرَّك ضدها هي جماعات متحالفة منذ زمن مع طالبان، حتى وإن تباينت أهدافها وعلاقاتها مع الحركة. فمن بعض النواحي، يُعَدُّ تحالف طالبان مع جماعتَيْ “لَشكَر طَيبة” و”جيش محمد” امتدادا لعلاقة طالبان بالمؤسسة الأمنية الباكستانية منذ التسعينيات. وقد دَعَمت كلتا الجماعتين تمرُّد طالبان، بيد أنهما أعطتا الأولوية لمخططاتهما ضد الهند، لا سيما في كشمير. وفي المقابل، استهدف فرع القاعدة في شبه القارة الهندية كلًّا من الهند وباكستان، وهو الذي حاز علاقة وثيقة بطالبان منذ تَشَكُّله، كما ساعد طالبان في تمرُّدها العام، وفي حملتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان.
بيد أن الحكومة الهندية تُلمِّح الآن بأن حكومة طالبان مستعدة لإبعاد نفسها عن حلفائها القدامى، على الأقل عندما يتعلَّق الأمر بالهند. فمثلا، تعهَّد “مُلَّا يعقوب”، وزير الدفاع بحكومة طالبان، في مقابلة مع قناة إخبارية هندية، بألَّا تسمح طالبان بتعرُّض الهند للهجوم من الأراضي الأفغانية، كما أعرب عن اهتمامه بإرسال كوادر الحركة إلى الهند من أجل التدريب العسكري.
منطق التقارب بين دلهي وطالبان
من المُرجَّح أن تكون رغبة طالبان الجديدة في طي صفحة العداء مع الهند نابعة من عزلتها الدولية، حيث لم تعترف أي دولة بحكومة بطالبان حتى الآن، ونتيجة لوضعها المنبوذ تفاقمت التحديات والصعوبات الاقتصادية التي تواجهها للحصول على المساعدات الإنسانية. هذا وتتصاعد التوترات بين الحركة وباكستان بسبب “خط ديورَند” (وهو الخط الحدودي الذي يفصل بين أفغانستان وباكستان، وصرَّح الرئيس الأفغاني السابق “حامد كرزاي” بأنه لن يعترف به أبدا، ودوما ما شكَّل نقطة خلاف بين البلدين)*، وكذلك بسبب دعم طالبان لجماعة “طالبان باكستان” المناهضة للنظام في إسلام آباد. وتُشير طالبان إلى استقلال موقفها عن جارها الجنوبي الآن لأسباب سياسية داخلية مُقنِعة بالنظر إلى مدى انخفاض شعبية باكستان داخل أفغانستان.
لربما خَلص القائمون على السياسة الهندية، رغم تقديراتهم السابقة، إلى وجود مسافة بين باكستان وطالبان تكفي لإقامة علاقة تعاون مع الأخيرة. ولعل ما طمأن الهنود هو قلق إسلام آباد المتزايد بشأن استمرار التزام طالبان بحماية “طالبان باكستان”. علاوة على ذلك، قد تحسب الهند أن طالبان تستطيع حمايتها من تزايد العنف في كشمير، وخاصة من قِبَل تنظيمَيْ “لَشكَر طَيبة” و”جيش محمد”، وحمايتها أيضا من تهديد الجهاديين الدوليين، لا سيما في وقت صعَّد فيه تنظيما “القاعدة” و”الدولة الإسلامية في خراسان” خطابهما المناهض للهند.
قد تساعد إقامة علاقة مع الهند في تخفيف العزلة الدبلوماسية لحكومة طالبان، وقد تفتح الأبواب أمام المساعدات الاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها في أفغانستان. على سبيل المثال، قد توفِّر الهند المساعدات لضحايا الزلازل، وتزيد مساعداتها الغذائية، وتُحيي مشروعات البنية التحتية التي كانت قيد التنفيذ في عهد الجمهورية الأفغانية السابقة. وبالنظر إلى الثقل الجيوسياسي المتزايد للهند، فإنها قد تُشجِّع دولا أخرى مثل روسيا وإيران والولايات المتحدة على العمل مع طالبان. ومن المُحتمَل أن طالبان تأمل في إقناع الهند بالتراجع عن دعمها للمقاومة المسلحة المؤثرة المناهضة لطالبان، لا سيما أن الهند واحدة من عدد قليل من الأطراف الخارجية التي يُنتَظَر منها أن تُعزِّز المعارضة السياسية في أفغانستان.
ومع ذلك، فإن التقارب مع الهند يحمل مخاطر لطالبان. أولا وقبل كل شيء، يُرجَّح أن يؤدي تواصل طالبان مع الهند إلى استفزاز باكستان. وإذا نظرت باكستان إلى الأمر نظرة براغماتية، فقد ترى التقارب بين طالبان والهند على أنه يصب في الأخير في مصلحة إسلام آباد، وهي إضفاء الشرعية على نظام طالبان. ولكن باكستان تنظر دوما إلى الانخراط الهندي في أفغانستان بوصفه صراعا صِفريا؛ حيث أي مكاسب للهند هي بالضرورة خسائر لباكستان. ولعل إسلام آباد ترى أن نيودلهي تحاول حماية طالبان من الضغط الباكستاني، لا سيما فيما يتعلق بدعم طالبان لـ”طالبان باكستان”، وهي الجماعة التي لطالما أصرَّت باكستان -رغم قلَّة الأدلة الموثوقة- على أنها مدعومة من الهند. وقد تنظر المؤسسة الأمنية الباكستانية إلى قمع طالبان لجماعتَيْ “لَشكَر طَيبة” و”جيش محمد” باعتباره عملا ضد باكستان، وتدميرا لسياسة الإنكار الباكستانية تجاه عمليات هاتين الجماعتين. ومن جانبها، قد تحسب الهند أن باكستان واقعة تحت الضغط نتيجة المشكلات الاقتصادية والعُزلة الدولية، ومن غير المُرجَّح أنها ستعارض التقارب بين الهند وطالبان.
علاوة على ذلك، ستواجه طالبان مخاطر خسارة سُمعتها على خلفية تعاونها مع الحزب الحاكم في الهند، حزب “بهارَتيا جَنَتا” القومي الهندوسي، صاحب السجل الطويل من المتاجرة بالخطاب المُعادي للمسلمين. كما أن إقامة علاقة أقوى مع الهند يُمكِن أن تُثير ردود أفعال سلبية من المُتشدِّدين داخل طالبان أو غيرهم من الجهاديين، ما قد يُشكِّل ضغوطا على تماسك طالبان.
طريق الثقة الصعب
بالنسبة إلى الهند، فإن السؤال الرئيسي هو مدى الثقة التي يجب أن تتحلَّى بها إزاء تعهُّدات طالبان بمحاربة الإرهاب. فعلى غرار ما جرى خلال مفاوضات الحركة السابقة مع واشنطن، على الأرجح أن طالبان حاولت طمأنة نيودلهي بأن الأراضي الأفغانية لن تُستخدَم في هجمات ضد الهند. لكن هذه التعهُّدات غالبا ما تصاحبها محاذير تسمح عمليا للميليشيات المتحالفة مع طالبان -وخاصة تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية- بتنفيذ عمليات من أفغانستان بطرق تمنح طالبان فرصا لممارسة سياسة الإنكار. فحين واجهت الحركة ضغوطات هائلة في الماضي بهذا الخصوص، برهنت دوما على أن انقلابها على “الميليشيات الأجنبية” المتحالفة معها أمر غير مُرجَّح.
وحتى إن أمكن الوثوق في نِيَّات الحركة، فإن قدرة طالبان الفعلية على كبح جماح الميليشيات الأجنبية ما زالت محل شك. وفيما يتعلَّق بحملة طالبان المستمرة لمكافحة “تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان”، التي فشلت في تحقيق أي نتائج ملموسة حتى الآن، يُرجَّح أن الحركة ستظل تكافح من أجل تنفيذ عمليات ذات أهداف مُحدَّدة. وقد شكَّل “تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية”، على وجه الخصوص، علاقات قوية مع عدد من أعضاء طالبان، وتعاون معهم في عمليات ضد الجيش الأميركي والحكومة الأفغانية السابقة وتنظيم الدولة الإسلامية في خراسان. ويفرض هذا الماضي أسئلة حول قدرة طالبان على حماية الوجود الهندي في أفغانستان.
يَظهر الانخراط الهندي في وقت يحتاج فيه المجتمع الدولي إلى مصدر جديد للنفوذ في مواجهة طالبان لتحقيق عدد من الأولويات، وإذا استجابت طالبان للهند نسبيا، فسيُمثِّل ذلك نبأ سارا. بالإضافة إلى ذلك، إذا استطاعت الهند فعلا التوسُّط في اتفاق مع طالبان من أجل مكافحة الإرهاب، فستُمثِّل تلك خطوة إيجابية كبيرة يُمكِنها فتح قناة للولايات المتحدة كي تمارس الضغط على طالبان لمكافحة الجماعات التي تُعَدُّ مصدر قلق لواشنطن. بيد أن عودة الهند إلى كابول تُعرِّضها أيضا إلى مجموعة جديدة هائلة من المخاطر الأمنية، سواء تلك التي تتعلَّق بالهجمات المباشرة على مصالحها في أفغانستان، أو التي تتعلَّق بالتعقيد المُحتَمل للتنافس الأمني الهندي-الباكستاني في كابول. أما الولايات المتحدة فسيجب عليها أن تُنسِّق مع الهند للاستفادة القصوى من مكاسب مكافحة الإرهاب الناتجة عن الانخراط الهندي في أفغانستان، إلى جانب التحكُّم في مخاطر التوترات الإقليمية التي قد تصرف النظر عن الأجندة الأمنية المُلِحَّة بالنسبة إلى واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
—————————————————————————————
هذا المقال مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
المصدر: الجزيرة. نت/ Foreign Affairs