محمود الوهب
انتصرت روسيا في حربها على أوكرانيا.. لا لم تنتصر.. هما عبارتان مثار جدل بين ممن تابعوا ويتابعون تلك الحرب، فهناك من يقول انتهت الحرب، وحققت روسيا ما تريده إذ أخذت معظم إقليم الدونباس وأسدلت، في الوقت نفسه، الستارة على شبه جزيرة القرم، وقريبًا ستأخذ ميناء أوديسا، وتغلق موانئ البحر الأسود أهم المنافذ البحرية لجهة صادرات أوكرانيا ووارداتها.. وكل ذلك صحيح، لكن هناك من يرى أن الحرب لم تنته مستندًا إلى تصريحات سابقة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي بأنَّ الوضع سيكون صعبًا حتى نهاية تموز 2022 وأن بلاده سوف تدْحَر العدوان رغم أنَّ الواقع على الأرض اليوم يشير إلى انتصارات حققتها روسيا لا يمكن اعتبارها جزئية، وذلك أمر طبيعي ومتوقع إذا ما نُظِر إلى البون الشاسع بين قدرات الجيشين، والزمن الذي جاوز الأشهر الخمسة، والأسلوب الوحشي الذي اتبعه الجيش الروسي، وهو ما يعرفه العلم العسكري بالأرض المحروقة، إضافة إلى خسارة نحو خمسة عشر ألف قتيل من الجانب الروسي.. وهكذا بدأت بعض الآراء واستناداً إلى الواقع تشير إلى أن روسيا ربحت الحرب..
ولكن إذا كان الاقتصاد، في النهاية، يقرر كل شيء (بحسب ماركس) فإن الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون لا يؤكد ذلك فحسب بل يشير إلى دور التكنولوجيا المتقدمة في سباق التنافس الاقتصادي أو إن شئنا في الحرب الاقتصادية الدائرة في عالم اليوم إذ يقول: “إنه مع انتهاء الحرب الباردة، أصبحت القوة الاقتصادية والجيو/اقتصادية أكثر أهمية من القوة العسكرية والجيوسياسية، ويرى أنه “على أميركا ألا “تضرب السيوف إلى محاريث”، كما يقول الكتاب المقدس، بل إلى رقائق إلكترونية”. (القول في أصله رسالة من الإله السوري بعل قبل 5000 عام.. (حطم سيفك وتناول معولك واتبعني لنزرع السلام والمحبة في كبد الأرض). وعلى ما تقدم، وإذا ما افترضنا أن الحرب ليست مع أوكرانيا وحدها، يمكن قراءة الواقع الاقتصادي في روسيا، وما يمكن أن تجرَّه خسائر الحرب على أوكرانيا إضافة إلى العقوبات الاقتصادية التي لمَّا تفعل فعلها بعد..
فالناتج القومي الروسي وصل إلى1،7 تريليون دولار ما يعادل ثلث الدخل القومي لولاية كاليفورنيا الأمريكية وحصة الفرد الروسي من الدخل القومي 10 مليون دولار يقابله في الولايات المتحدة الوسطي 60 ألف دولار وأنَّ الاستثمارات في روسيا في العام 2008 كانت 74 مليون لكنها انخفضت إلى 9،4 مليون دولار، وهذا يعني أن روسيا لم تعد جاذبة للاستثمار، وقد انخفض الروبل على نحو مريع قبل الحرب، وبعدها انسحبت أكثر من ألف شركة استثمارية من روسيا وهي لا تشغل مئات ألوف العاملين الروس، بل إنها تدخل التكنولوجيا المتطورة إلى روسيا التي لاتزال تفتقر إليها، وتنتج أدوات إليكترونية وسوفتوير وسيارات وأشياء أخرى.. وجرى انخفاض في أسعار الأسهم إلى ما بين 30 – 50%، كما انخفضت الواردات بنسبة 30.9 % أما الاحتياط النقدي الروسي فيبلغ 600 مليار دولار لكن الموجود تحت اليد هو 21% من الذهب ومن الأصول الأخرى وما تبقى موجود لدى الصين 13% وما تبقى لدى بعض الدول الأوربية: ألمانيا، إيطاليا، فرنسا، إضافة إلى كندا والولايات المتحدة واليابان.. وتصدر روسيا من 7 إلى 7.5 مليون برميل نفط بعد استهلاك حاجتها، وقد أحدث ذلك خللًا في السوق العالمية فارتفعت الأسعار، لكن ثمة محاولات تسعى لتعويضها.. وبالنسبة للغاز سوف تتأثر أوروبا لمدة سنة أو أكثر، لكن الأمور سوف تستقر على نحو آخر جديد.. وتستورد الدول الأوروبية التي تقاطع روسيا 80% من الذهب الروسي بأسعار مخفضة تصل إلى النصف أو أقل، وقد انخفض الإنتاج الصناعي في روسيا إلى نسب تراوحت بين 49 و96 % وخاصة في مجال إنتاج السيارات والشاحنات على نحو خاص وقاطرات الديزل، وينسحب ذلك، وإن بنسب متفاوتة، على سلع استهلاكية أخرى.. كل ذلك شكَّل عبئاً على الاقتصاد الروسي بسبب التضخم الذي وصل إلى 17% وتصدِّر روسيا الغاز والنفط والذهب بـ 400 مليار دولار وتستورد بـ 300 مليار.. أما عن الموازنة فالمفترض أن تكون 200 تريليون روبل ولكن من أين الموارد للموازنة؟! وقد انخفض الروبل فعليًا، والتثبيت المزعوم مجرد وهم لا يتطابق مع الواقع في السوق العالمية، وهي عادة تتبعها بعض الدول لتحافظ على عملتها بحدود معينة داخل البلاد. (الأرقام للاقتصادي السوري د. أسامة القاضي..).
وإذا كان ثمة علاقة بين النمو الاقتصادي أساس كل تنمية اجتماعية والحريات العامة التي تنعكس في معايير الشفافية، ونسب الفساد المالي فإن روسيا هي الأقرب إلى الدول النامية لجهة تلك الأمراض الإدارية في الدولة الحديثة فقد جاءت درجة روسيا عام 2021، في ترتيب سلم الفساد العالمي 136 من أصل 180 دولة. أما في معيار الشفافية وسيادة القانون فهي أسوأ 38 دولة في العالم، كما احتلت في مشروع العدالة العالمية المرتبة 101 من 139 دولة.. وتعدُّ أسوأ عشر دول في تقييد سلطات الدولة إذ جاء ترتيبها 129 من 139 دولة.
وعلى ذلك فقد تنتصر روسيا بهذه الطريقة الوحشية في التدمير عن بعد، ولكنها لن تستطيع إنهاء الحرب كما أشعلتها، كما أنها لن تحقق ما تصبو إليه من عودة إلى المسرح الدولي قوة عظمى، بل ستبقى دولة مارقة شأنها شأن الدول التي تتحالف معها، وسوف يتحول الصراع، كما هو في جوهره، بين الديكتاتورية والاستبداد وبين الحريات العامة ومبادئ الديمقراطية.. والداخل الروسي ليس خارج هذا الصراع، فالحاكم الروسي لايزال يعيش ظلال الاستبدادين القيصري والسوفييتي، بينما شعبه يحلم بديمقراطية حقيقية ينشدها، منذ وقت طويل. ولن تتخلى أوكرانيا عن أراضيها ومناطقها التي احتلت مهما طال أمد الحرب، ولن يعترف العالم بضم الأراضي الأوكرانية إلى روسيا بحسب تصريح أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكية..
مما تقدَّم نستنتج أن الحروب بهدف السيطرة وضم الأراضي وإركاع الشعوب قد ولّى أوانها، وأن جوهر حروب اليوم هو اقتصادي محض، يخضع لقانون الربح والخسارة، ومحتواه السلعة المتقنة تكنولوجيًا.. كما أن الاقتصاد الروسي هو أقرب إلى “الريعي” الذي يساهم في تنمية الاقتصاد، لكنه ينفق على السلاح أولًا.. وأما الحرب على أوكرانيا فليست خارجة عن هذا المحتوى ولا يمكن لنتائجها أن تكون خارج إطاره..!
المصدر: أورينت نت