د. معتز زين
” قليلة هي أحداث العالم التي تضاهي دراما الانتشار المبكر للإسلام. “تمخضت جولة توسع غير مسبوقة عن تحويل صعود الإسلام إلى أحد أكثر الأحداث خطورة في التاريخ، ففي القرن التالي لوفاة محمد صلى الله عليه وسلم تمكنت الجيوش العربية من إيصال الدين حتى الشواطئ الأطلسية لأفريقيا، حتى الجزء الأكبر من أسبانيا، حتى قلب فرنسا، حتى شمال الهند شرقًا، ومساحات واسعة من آسيا الوسطى وروسيا، وأجزاء من الصين. “
” أن تستطيع مجموعة صغيرة من الاتحادات العربية بعث حركة مؤهلة لكسر شوكة امبراطوريتين عظيمتين كانتا قد سيطرتا على الإقليم قرونًا من الزمن كان من شأنه أن يبدو بعيدًا عن العقل وغير قابل للتصور قبل عقود قليلة “.
” في قرن من الجهود اللافتة قلب هذا العالم رأسًا على عقب. لم يكن الإسلام التوسعي والتسووي جذريًا من نواح معينة شبيهًا بأي مجتمع آخر في التاريخ. اشتراطه لصلوات يومية متكررة جعل الدين أسلوب حياة، وتأكيده لتماهي السلطة الدينية مع نظيرتها السياسية أدى إلى قلب توسع الإسلام من مشروع امبراطوري إلى واجب مقدس ” .
” كان الإسلام دينًا أولًا، ودولة متعددة الأثنيات ثانيًا، ونظامًا عالميًا جديدًا ثالثًا قي الوقت عينه “. هذه مقتطفات من كتاب ” النظام العالمي ” لوزير الخارجية الأميركي الأسبق والأشهر هنري كيسنجر. لم ينس الغرب يومًا ما حققه الإسلام من سيطرة – ناعمة في كثير من المناطق – على قسم كبير من الكرة الأرضية في وقت قياسي.
لم ينس الغرب يومًا كيف استطاع هذا الدين أن يحول قبائل متناحرة لا مشروع لها إلى دولة قوية ذات مشروع عالمي طموح في وقت قياسي.
لم ينس الغرب يومًا كيف سقطت أعظم امبراطوريتين أمام مجموعة من القبائل العربية التي كانت منذ فترة وجيزة (هباء كغبار الصحراء لا قيمة له) وخلال وقت قياسي.
لم ينس الغرب يومًا كيف استطاع العرب من خلال هذا الدين فرض نظام عالمي جديد على أساس من العدالة والمساواة بين مختلف الأعراق والألوان والمشارب والقوميات وأن يصهر كل الثقافات في مجتمع واحد أنتج حضارة كانت الجسر الأهم للعبور الأوروبي نحو بناء حضارته الحديثة.
لم ينس الغرب يومًا تلك المفارقة الأخلاقية التي أحرج بها الإسلام الغرب وحضارته القديمة والحديثة، والتي وضعت سلوكه الوحشي والاستعماري والاستبدادي مع الدول التي احتلها والحروب التي خاضها والشعوب التي استعبدها والأديان التي اضطهدها، مقابل النموذج الإنساني والأخلاقي الذي قدمه الإسلام خلال حروبه وفتوحاته وقبوله للآخر وحفاظه على حقوق الشعوب التي فتح بلادها ومقدساتهم.
يدرك الغرب تمامًا أن انبعاث الروح الإسلامية من جديد يعني دورة تاريخية جديدة، ونموذج أخلاقي وحضاري فريد يفقد الغرب حياله تفوقه، ويغير من الصورة التي يحاول أن يرسمها لنفسه عبر الإعلام والأفلام والأقلام التي تعمل بأمره ولصالحه، ومن ثم يفقده السيطرة والتحكم بقرارات ومقدرات العديد من الدول التي تنازلت مضطرة عن قراراتها السيادية للغرب.
من أجل ذلك لم يترك الغرب وسيلة إلا واستخدمها من أجل تقييد الفكر والثقافة الإسلامية والحؤول دون حدوث نهضة إسلامية جديدة بأي شكل وتحت أي مسمى ومنع وصول الأحزاب الإسلامية إلى الحكم أو منع استقرارها فيه بأي ثمن ودعم كيانات وأفكار بديلة وتقديمها كممثل حضاري لشعوب المنطقة( تحريك النزعة القومية . دعم الأقليات وتحريضها وتخويفها من الأكثرية المسلمة .. العلمانية .. الشعارات الديمقراطية دون السماح بإكمال تجربة ديمقراطية حقيقية ..الإلحاد .. تفخيخ الحركات الإسلامية وصناعة بعضها.. الخ ) والهدف واحد .. تشويش الرؤية وخلط الأوراق وصرف النظر عن مصدر القوة ومحرك الطاقة في هذه الأمة باتجاهات أخرى وخلق العداء بين هذه الاتجاهات وبين الإسلام لإضعافه وإشغاله بحروب جانبية غير مجدية منعًا لبعث الروح الإسلامية في هذه الأمة من جديد .
يمسك الغرب بلجام المنطقة بإحكام عبر أدواته الكثيرة، ويشد الخناق ساعة يريد. ولهذا أسباب كثيرة من ضمنها تفكك دول المنطقة وضعف قادتها وهزيمتهم النفسية والحضارية أمام الغرب القوي، ومن ضمنها خوف الغرب الدائم من استيقاظ المارد الإسلامي الذي يشكل للغرب هاجسًا حضاريًا كما تشكل الصين بالنسبة لهم هاجسًا اقتصاديًا وكما تشكل روسيا هاجسًا عسكريًا وهذا ما عبر عنه عبر كيسنجر في كتابه المذكور.
من حق الغرب أن ينظر للإسلام بهذا التوجس ويتعامل معه بهذا الحذر، إنهم يدركون تمامًا أنه – كان وسيبقى – الروح القادرة على بعث الحياة من جديد وتدفق الدماء في عروق الأمة الجافة ومن أجل ذلك يتربصون به ويكيدون له، لكن مشكلتنا الكبرى تكمن في طريقة تعامل قادة الدول العربية والإسلامية مع الإسلام الحركي. فبعض أصحاب القرار يتجاهلون هذه القوة الكامنة كأداة من أدوات النهضة والتنافس الحضاري بين الأمم، وبعضهم وضع نفسه وقدرات بلده في حالة عداء استراتيجي مع المؤسسات والفعاليات الإسلامية الاجتماعية والثقافية والسياسية بما يخدم حفاظه على موقعه القيادي من جهة ويرضي الغرب المتوجس من الإسلام من جهة ثانية. لا مجال بالطبع ولا جدوى من مخاطبة أو مناشدة القادة الوظيفيين فهم يؤدون مهامهم التي تحمي عروشهم وكراسيهم ، أما القادة الذين يمتلكون درجة معقولة من القبول الشعبي والشرعية الجماهيرية وحد أدنى من استقلالية القرار، والذين يعتقدون أن التضييق على الإسلاميين يفيدهم في كسب رضى الغرب فعليهم أن يدركوا أنهم مهما فعلوا، ومهما قدموا من تنازلات على مستوى الهوية والثقافة والسياسة والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا فإن الغرب ينظر اليهم باحتقار ويعتبر بلادهم مستعمرات يجب أن تبقى مفككة وضعيفة وفي حالة قطيعة وصراع مع الإسلام الحضاري، وعليهم أن يفهموا أن تفعيل الإسلام الحركي وتوظيفه في خدمة بلادهم هو عامل قوة لهم لا العكس، وأنه يعزز قدراتهم التفاوضية والتنافسية مع الغرب. ولهؤلاء نقول: أن القادة التاريخيين الذين يصنعون فارقًا لا بد أن يمتلكوا قدرًا كبيرًا من الشجاعة وقدرًا لا بأس به من المغامرة، وخاصة في الظروف العالمية الراهنة التي تنشغل فيها القوى الكبرى بالصراع فيما بينها، والذي تتربص فيه إيران بالمنطقة لافتراسها. ربما يكون هذا الوقت هو المناسب لإحياء الإسلام الحركي من جديد والبدء بمشروع نهضوي إسلامي جديد يعيد الروح للجسد المنهك ويوقظ المارد من جديد. لكن هذه المغامرة بحاجة إلى قائد فدائي استثنائي يمتلك من الشجاعة والحكمة ما يكفي لتجنب الصدام المباشر مع الغرب دون أن يتنازل لهم عن القرارات الاستراتيجية اللازمة لنهضة بلده والتي على رأسها عودة الدماء الإسلامية إلى شرايين الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية وحتى العسكرية ، فهل تفاجئنا الأعوام القادمة بمثله ؟؟!!
” لم يكن الإسلام شبيهًا بأي مجتمع آخر في التاريخ “. قالها كيسنجر، هكذا بكل وضوح وبساطة، وهي حقيقة أصيلة في الوعي السياسي الغربي، لكنها غائبة في الوعي السياسي العربي. وهنا أصل المشكلة.
المصدر: إشراق