د. مخلص الصيادي
في صحيفة المصري اليوم مقال للدكتور سعد الدين إبراهيم بعنوان الكبوة الكبرى لثورة يوليو إهمالها هدفها السادس، والقصد هنا هدف “إقامة حياة ديموقراطية سليمة”.
وللرجل رؤيته الخاصة لثورة 23 يوليو وقيادتها، أين نجحت، وأين أخفقت، وهذا أمر خاص به، ينبع من الأرض التي يقف عليها، ومن زاوية التي النظر التي التزمها، وليس مهما أن نتفق معه في هذه الرؤية أو نختلف، ثم إنه في هذا المقال أسند كثيرا مما اعتبره اخفاقا كارثيا في مسيرة الثورة إلى فقدانها أو فشلها في تحقيق الهدف السادس الخاص بإقامة حياة ديموقراطية سليمة، واعتبر أن فشل الوحدة السورية المصرية، وحرب اليمن، ونكسة حزيران كلها توضع في خانة الفشل في تحقيق هذا الهدف السادس من أهداف الثورة.
لا شك أن في هذا العرض تبسيط مخل لمسار الثورة وما أحاط بها من ظروف وملابسات، وما واجهته ودخلت فيه من معارك وصراعات، وابتسار للعوامل المختلفة التي نسجت كل حدث من الأحداث الثلاثة المشار اليها، لكن التعليق الذي أنا بصدده لا يستهدف هذه المسائل، وإنما يستهدف قضية واحدة طرحها لا تقوم على الرأي والموقف، وإنما على دقة المعلومة والمعرفة، وتوظيفها في استخلاص الحكم، وما أثارني ودفعني الى هذا التعليق أن الأمر يتصل بالشعب السوري، بتاريخه نضاله ومواقفه، الثابتة، والواضحة، والتي بات انكارها أو التلاعب في عرضها نوع من العدوان على الشعب وذاكرته وتاريخه، مما لا يجوز معه السكوت أو التغاضي.
هذه القضية هي قضية “الوحدة والانفصال”، فقد عرض الدكتور إبراهيم موقف الشعب السوري من هذه القضية في حكمين اثنين:
الأول: أن السوريين شعروا في عهد الوحدة أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
الثاني: انه حينما قام الانفصاليون بحركتهم لم تحدث ردود فعل شعبية رافضة داخل القطر السوري.
هنا الرجل لا يتحدث عن موقفه من الوحدة وتقييمه لها، هل كانت صحيحة أم كان قيامها خاطئا، الحديث هنا عن الموقف الشعبي، موقف الشعب السوري، داخل دولة الوحدة قائلا إن المواطن السوري شعر أنه مواطن درجة ثانية، وأنه لم يواجه الانفصال، لم يرفضه، أو بالأحرى نتيجة العامل الأول لم يتصد للانفصال، ولم يقاومه.
ووقفتنا هنا، وهنا فقط، أما ما عدا ذلك مما عرضه في مختلف الموضوعات فلن نأتي عليه، وليس مهما أن نأتي عليه في هذا التعليق.
والحق أن الحكمين / الوصفين يناقضان حقيقة ما كان تناقضا جوهريا، ويمثلان افتئاتا على الشعب السوري لا يجوز قبولهـ ولا السكوت عليه، ولا يقبل تفسيره أو التغاضي عنه بزعم جهل الرجل الذي يتصدر علماء الاجتماع والمهتمين بالشأن العام في مصر.
هل فعلا لم يكن للسوريين رد فعل على جريمة الانفصال؟
غريب هذا الكلام ولا يقوله إلا شخص لم يعرف شيئا عن الوضع الشعبي في سوريا منذ يوم ٢٨ / ٢٩ ايلول ١٩٦١، وحتى يوم ٨ / ٣ / ١٩٦٣.
على مدى عام ونصف العام عمر الانفصال الرجعي، لم تكن هناك حياة سياسية في سورية إلا الاضرابات، والاعتصامات، والتمردات العسكرية. ومحاولات الانقلاب التي تجاوز عددها الثلاثة ـ وقد تصل بتفصيلاتها إلى خمس محاولات ـ نجحت المحاولة الأخيرة منها.
لقد انتفضت سوريا ضد الانفصال، في العام الدراسي ١٩٦١/ ١٩٦٢، والعام الدراسي ١٩٦٢ / ١٩٦٣، ولعله لم يمر أسبوع على المدارس دون إضراب وتظاهر، وشاركت، بل وقادت التجمعات العمالية في دمشق وحلب: الشركة الخماسية. ومعامل الغزل والنسيج، الإضرابات، وغطت التظاهرات والاحتجاجات كل كدن سوريا من القامشلي ـ حيث كنت وقتها ـ حتى درعا، واشتهرت أحياء العمال كما الثانويات والاعداديات بالمظاهرات المتتالية، وفي حلب عُرفت أحياء الكلاسة، وقاضي عسكر، وباب الحديد، والهلك، وعين التل، ووسط المدينة بالتظاهرات. وسميت ساحة رئيسية في الكلاسة بساحة الأحرار لكثرة ما شهدت من مواجهات وما سقط فيها من الشهداء.
كانت ثانويات حلب الرئيسية: المأمون والكواكبي، وهنانو، وكذلك الاعداديات مراكز للتظاهر، ومن عجب أن تلاميذ المدارس الابتدائية شاركوا في هذه التظاهرات.
خطأ، وخطيئة، أن نعتبر الشعب السوري سكت على الانفصال، أو أنه لم يرد عليه الرد المناسب من أول يوم.
على مستوى الفكر السياسي، ومنذ اليوم الأول للانفصال غابت التقسيمات السياسية والاجتماعية التي وسمت الحياة السياسية السورية: تقدمي، رجعي، يميني، رأسمالي، شيوعي، يساري، إخواني، … الخ، وحضر وبرز تقسيم جديد عم الساحة السورية وهو: وحدوي أو انفصالي.
** فالوحدوي هو من كان مع إعادة الجمهورية العربية المتحدة، وإسقاط الانفصال.
** والانفصالي هو المؤيد للانفصال أيا ما كان توجهه وأيديولوجيته، وحزبه. وتاريخه.
لم يكن في سوريا منذ ٢٨ /٩ / ١٩٦١ إلا هذا التقسيم.
وقد وضع البعث حينها مع القوى الانفصالية، لأن القوى الوحدوية فيه انشقت عنه وخرجت عليه، وساهمت أو شكلت أحزابا وحدوية مستقلة.
الحديث عن الحريات ـ التي نؤيدها بدون حدود أو حرج، وندين كل تجاوز عليها ـ، لا يجوز أن يغفل تآمر البعث على الوحدة، ولم يكن قد مضى إلا عاما وثمانية أشهر على إقامتها حين قدم وزراء البعث استقالتهم الجماعية من حكومة الوحدة في 24 / 12 / 1959، وكان البعثيون يريدون الاستئثار بحكم سوريا.
كذلك لا يجوز أن نغفل معركة دولة الوحدة، وحركة القومية العربية، مع الحركة الشيوعية في سوريا، في العراق، وما فعله هؤلاء بالقوميين في العراق.
إن ما نقوله هنا بحق البعثيين اعترف به البعثيون في محاضر محادثات الوحدة الثلاثية عام ١٩٦٣.
وما نقوله بحق الشيوعيين، هو موقف سجله تاريخ الحزب، واعترف به قادة الحزب لاحقا، وذلك في مداخلاتهم حينما انقسم هذا الحزب في نهاية الستينات وبداية السبعينات وطبعت كل هذه المداخلات في كتاب واحد تحت اسم ” قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري”.
كل ما قلناه سابقا لا صلة له بتقييم مرحلة الوحدة، ما أنجزته، وما أخفقت في انجازه، لكن صلته العضوية في تفسير جريمة الانفصال، وهل كان الشعب السوري مؤيدا لهذه الجريمة. أو ساكتا عليها، أو كان يشعر بالقهر والذل في دولة الوحدة. أو يشعر بأنه فيها كان مواطنا من الدرجة الثانية؟
كان السوري في دولة الوحدة يشعر بأنه في دولة “عز وكرامة ومواطنة ونهوض”. وبأن الأمة تتجه إلى طريق الخلاص.
لو كان هناك شيئا حقيقيا مما ذكره الدكتور إبراهيم لما جاء رد فعل الشعب السوري فوريا وشاملا ومستمرا.
إن اللجوء إلى هذه التوصيفات للموقف الشعبي من جريمة الانفصال فيه إهانة للشعب السوري ولشهدائه الذين قضوا وهم يواجهون دبابات الانفصاليين ومدرعاتهم. وقواتهم التي ما كانت تسحب من الشوارع حتى تعود إليه.
خلال فترة الانفصال الممتدة لسنة ونصف السنة، شهدت سوريا تشكيل خمس حكومات إحداها لم يصل عمرها إلى الشهر (وهي الحكومة الثانية، حكومة عزت النص)، وثانية لم يتجاوز عمرها الشهر إلا قليلا ( وهي الحكومة الأولى، حكومة مأمون الكزبري)، وثالثة لم يصل عمرها الى ثلاثة شهور ( الحكومة الثالثة ، حكومة معروف الدواليبي)، ورابعة خمسة أشهر ( حكومة بشير العظمة)، وخامسة ستة أشهر، (وهي الأخيرة وتراسها خالد العظم).
إن هذا كله دليل على أن الانفصال مؤامرة صنعت في ليل بهيم، وعملت عليه قوى ظلامية غاشمة، وأنه ليس هناك أي أساس موضوعي للانفصال. لا على مستوى الشارع، ولا على مستوى الجيش، ولا على مستوى الاقتصاد.
أعود للتأكيد مجددا أني لا أهدف إلى نفي وجود تقصير، أو أخطاء، أو تجاوزات، أو حتى فساد، هذا كله تحدده دراسات جادة لتجربة الوحدة وليس مقالات سيارة ـ وهناك العديد من الدراسات تناولت تجربة الجمهورية العربية المتحدة ـ لكن من المؤكد أن كل تلك الحجج لم تكن، فعلا “مصريا”، في مواجهة “السوريين”، ومن المؤكد أن أيا من تلك المآخذ ـ بالحجم الذي وجدت فيه ـ ليست سببا للانفصال.
لقد كان الانفصال انقلابا عسكريا قهريا ضد إرادة الشعب السوري، فيما كانت الوحدة كانت عملا شعبيا ديموقراطيا واعيا لا غبار عليه.
ولقد تصدى الشعب السوري للانفصال من يومه الأول، واستمر في موقفه حتى انقلاب ٨ آذار ١٩٦٣، ثم استمر يقاوم “الانفصاليين الجدد” لسنوات طويلة، وما زال هذا الشعب يعيش أصداء وتداعيات تلك الجريمة وما استجرته بعد ذلك من سلطات طائفية واستبدادية لا نظير لها.