حسن النيفي
يبدو أن مسألتي ( الكيمياوي – إيران ) أصبحتا تحتاجان إلى حيّزٍ تأويلي خاص في قاموس السياسة الأمريكية، وذلك لفرط ما بنتْ عليهما واشنطن من سياسات، إذ يمكن الذهاب إلى أن مجمل الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط منذ الثمانينيات وحتى الوقت الحاضر، إنما تندرج ضمن مقولة التصدّي لهذين الخطرين الداهمين على الأمن القومي الأمريكي وفقاً للإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض. ففي أعقاب حرب الكويت 1991 ، أصدر مجلس الأمن القرار ( 687 لعام 1991 ) والذي ينص على تدمير أسلحة الدمار الشامل لدى العراق، بما في ذلك ترسانته الكيمياوية، ويندرج القرار الآنف الذكر ضمن عقوبات ما بعد الانسحاب من الكويت، وبناءً عليه أرسلت الأمم المتحدة لجنة مختصة( أونسكوم ) للقيام بتلك المهمة التي استمرت حتى شهر كانون الأول عام 1998 ، وعلى الرغم ممّا أكدته مجمل التقارير الصادرة عن لجان التفتيش بأنها قامت بتدمير ما يمتلكه العراق من أسلحة تدمير شامل، وأن بغداد لم تعد تمتلك أسلحة غير تقليدية من شأنها أن تشكل خطراً على المنطقة، إلّا أن إدارة بوش الأبن وحكومة طوني بلير كانتا تسيران في اتجاه التحضير للحرب، بذريعة حيازة العراق لأسلحة كيمياوية لم يكشف عنها، وذلك اعتماداً على تقارير إستخباراتية تبيّن فيما بعد أنها كاذبة، وذلك باعتراف قادة البيت الأبيض أنفسهم، فضلاً عن الاعتذار الذي قدّمه طوني بلير للشعب البريطاني لاحقاً، معترفاً بأن التقارير بالفعل كانت مُضلّلة. ولكن زيف التقارير الاستخباراتية أو كذبها لم يحل دون إصرار إدارة بوش على اتخاذ قرار الحرب بعيداً عن مجلس الأمن أو أي موافقة أممية، بل وبتحدٍّ فاضح للرأي العام العالمي الذي رفع صوته عالياً آنذاك معبراً عن رفضه للحرب التي انتهت باحتلال العراق في نيسان عام 2003 ، وتعيين ( بول بريمر) كحاكم للعراق، والذي سرعان ما بادر إلى تفكيك جميع مؤسسات الدولة العراقية ( باستثناء وزارة النفط)، ومن ثم تسليم العراق كاملاً لإيران ليكون تحت وصايتها المطلقة، وما يزال كذلك حتى الوقت الراهن.
بعد مرور عقد من الزمن على احتلال العراق، تواجه واشنطن مرةً أخرى مسألة ( الكيمياوي) ولكن هذه المرة في سورية وليس العراق، وليس من خلال الاعتماد على لجان المفتشين وخبراء الأمم المتحدة، ولكن من خلال تجسيد ميداني على الأرض، إذ أقدم نظام الأسد على ارتكاب مجزرة الكيمياوي في الغوطة الشرقية ( يوم الأربعاء 21 آب 2013 ) و راح ضحية تلك المجزرة ما يزيد عن ( 1466 ) ضحية، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، نتيجة اختناقهم بغاز السارين، وقد أحدثت تلك المجزرة البشعة ردود أفعال دولية و محلية دفعت حكومة باراك أوباما آنذاك إلى إرسال البوارج الأمريكية إلى البحر المتوسط، تمهيداً لتوجيه ضربة عسكرية عقابية لنظام الأسد، وقد ذهبت معظم التوقعات آنذاك إلى أن ردّة الفعل الأمريكية ستكون شديدة الأثر على نظام دمشق، بل ربما مال البعض إلى أن تلك الضربة المتوقعة ربما ستطال رأس النظام أو أعوانه المقربين، إلّا أن الرئيس الروسي فلادمير بوتين سارع إلى احتواء الحنق الأمريكي، من خلال مبادرة عرضها على الإدارة الأمريكية، تقضي بتجريد نظام الأسد من ترسانته الكيمياوية، مقابل إلغاء الضربة العقابية، أي الاكتفاء بنزع أداة الجريمة وترْك المجرم طليقاً، فوافقت الحكومة الأمريكية آنذاك، بل ربما وجدت في مبادرة بوتين مخرجاً مناسباً لتتنصّل من مسؤوليتها كدولة عظمى حيال جريمة كبرى بحق المدنيين السوريين، فضلاً عن أن إدارة أوباما كانت مشغولةً آنذاك بالملف النووي الإيراني، إذ كان يسعى أوباما إلى إنجاز اتفاق مع إيران بخصوص ملفها النووي، وبهذا يكون نظام دمشق قد اجتاز أول اختبار لردّة الفعل الأمريكية، بل ربما كان عدول أوباما عن معاقبة الأسد بمثابة ضوء أخضر لاستمرار الجريمة، بدليل أن نظام الأسد قام بتكرار مجازره الكيمياوية عدة مرات بعد مجزرة الغوطة، ولعل أشهرها ( مجزرة خان شيخون – 4 نيسان 2017 ) التي أفضت إلى موت مئة مواطن وإصابة أربعمئة آخرين، وبغاز السارين ذاته الذي استخدمته قوات النظام في هجومها على الغوطة الشرقية، ولم تكن ردّة فعل إدارة ترامب في حينها بأقل بهاتةً من سلفه أوباما، إذ اكتفى باستهداف هنكارات أو حظائر فارغة للطائرات في السابع من نيسان 2017 ، بعد أن أخبر الروس مسبقاً بموعد استهدافها.
تؤكّد الطريقة التي تتعاطى من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية مع مسألة ( خطر السلاح الكيمياوي) من خلال تجربتي العراق وسورية، أن مواجهتها لهذا السلاح الفتّاك، وكذلك مواجهتها لمجمل القضايا الأخرى في العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً، لا تنبثق من معايير قيمية ثابتة ذات صلة بمسعى جدّي وصادق لمواجهة التداعيات الكارثية لخطر السلاح الكيمياوي، بقدر ما تنبثق من أهداف أخرى قد تكون ( مواجهة الخطر الكيمياوي) غطاء مناسباً لها، بل لعل المفارقة تبلغ ذروتها حين تؤكّد نتائج الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 أن الأسلحة التي استخدمها الجيش الأمريكي في العراق، والتي أودت بحياة مئات الآلاف من المواطنين العراقيين، لم تكن أقلّ فتكاً وقذارة من السلاح الكيمياوي.
السلاح الكيمياوي والشر الإيراني هما شعاران أمريكيان، إلّا أن سبل التعاطي معهما مختلف دون أدنى ريب، ولئن كانت التجربة الأولى لإدارة جورج دبليو بوش، ومن خلال توظيفها واستثمارها لادعاءات باطلة ومزيّفة، أفضت إلى احتلال العراق وتفكيك مؤسساته وتحويلة إلى دولة فاشلة، بل ربما إلى محميّة إيرانية، فإن الإدارات الأمريكية الثلاث المتعاقبة منذ العام 2013 ما تزال حريصة على بقاء نظام الأسد، باعتباره الضامن لاستمرار مؤسسات الدولة السورية، وذلك على الرغم من إقرار الحكومة الأمريكية ذاتها بضلوع حاكم دمشق ليس بمجازر الكيمياوي فحسب، بل بفظائع شتى لا تقل شناعةً، ولم تكن عقوبات قانون قيصر التي فرضتها واشنطن ذاتها، هي الدليل الوحيد على دموية نظام الأسد وإجرامه.
في سورية الأسد تبدو تجليات الشعارين الأمريكيين ( الكيمياوي وإيران ) شديدة الحضور، إلّا أن حضورهما لا يثير استفزاز واشنطن التي تدرك جيداً مدى الترابط العضوي الوثيق بين الأسد وإيران، كما تدرك أيضاً أن محاربة النفوذ الإيراني في سورية مع استمرار نظام الأسد في السلطة لا تعدو كونها أكثر من خديعة، ولكن على الرغم من ذلك، فإن واشنطن لمّا تزل تراهن على ( تغيير سلوك النظام)، وليس من المستغرب أن يكون هذا التغيير الذي تنتظره الحكومة الأمريكية يتجلى بإتاحة المجال لتعويم نظام الأسد عربياً من خلال عودته إلى الجامعة العربية، وإقليمياً ودولياً من خلال مصالحات بينية مع خصوم الأمس، في حين يبقى الشعب السوري هو الخصم الأول والأخير له.
المصدر: موقع تلفزيون سورية