راشد عيسى
يندرج المقال في ملف “تحت العريشة” من إعداد وتحرير زينة قنواتي
تحتفظ الذاكرة بمشهد مألوف ومكرر في الأفلام، رجل (أو امرأة) يعمل في حديقة البيت، عندما يأتي ضيف ما من بعيد، على الخيل، أو في سيارة جبلية تحيطها زوبعة من الغبار.
ذكرى لا تستعاد إلا وتأتي معها عبارة من السينما أيضاً، ظلت في البال طويلاً، وجعلتني أتطلع على الدوام لأن أكون ذلك الفلاح: “الأرض هي روح الرجل”.
ولم تكن العبارة لتكون مؤثرة على أي نحو لو كانت ترمي إلى المعنى الذي نعرفه في الخطابات وفي الأغاني الوطنية، عنت لي شيئاً آخر واضحاً، وعصياً على التفسير في آن، لنقل إنني احتجت ثلاثين عاماً كي أعبّر. وها قد جاءت الساعة.
في دمشق لم أكن مزارعاً، غير أن عيني كانت دائماً، كأي فلاح، إلى السماء، أترجّى منها مطراً: “الله يبعث الخير”. أستمطرُها، ثم تروح عيناي تزرعان كل مساحة فارغة بالشجر، في الجُزر، أعني تلك المساحة الفاصلة بين طريق ذهاب وآخر إياب، وعلى الدوّار، والجبال الجرداء، القطع العسكرية على التلال في محيط دمشق، المساحات المتروكة على طريق دمشق- حمص.. لقد زرعت المخيلةُ هناك أصنافاً شتى من الأشجار.
وجدت على يوتيوب، أثناء البحث عمَّ أزرع وكيف، فيديوهات عديدة لفرنسيين يعرّفون عن أنفسهم كـ “فلاح- كاتب”، والأمر لم يكن على سبيل المجاز، فليس أمراً نادراً أن تجد كاتباً فرنسياً ومثقفاً يعمل كفلاح خبير.
لكن في الواقع لم أزرع شيئاً يذكر.
عندما أتيح لي زرعتُ في حديقة عامة صغيرة أمام بيتي بضع شجيرات، من بينها زيتونة زرعتها مع صغيرتي في عيد ميلادها.
لكني ظللت أحلم ببيت في جبل الشيخ، فيه حاكورة على قدّ الحال. أحلم بالشجر فيما أراقب كيف تطلع عشوائيات الإسمنت والصفيح كل صباح كالفطر، كيف تقتلع ما تبقى من الخضار، حتى اختفت غوطة دمشق وبساتينها التي نعرف.
ثم ضجّ الهجيج، وأُلقيتُ على بعد ثلاثة آلاف وتسعمئة وثمانية عشر كيلو متراً، في سكن اجتماعي مخصص للمهاجرين واللاجئين، والذين بلا حول، وقد ألحقت به قطعة
أرض صغيرة غصّت بالقريص والأعشاب المهملة المتوحشة. وكان لا بدّ من تهذيبها، على الأقل.
أول مشاعر داهمتني إزاء الحديقة هي الخجل، من المعيب أن يكون لديك قطعة أرض وتتركها مهملة هكذا، تهذيبها واجب من أجل الجيران والعابرين، جزء من تهذيب الفضاء العام، أما زراعتها فواجب أمام أحلامي القديمة.
الأرض حيواننا الأليف
هنا تعرفت على عبارة فولتير: “Il faut cultiver notre jardin” (لا بد أن نزرع حديقتنا الخاصة)، عبارة قد تبدو سهلة ولا تستلزم فيلسوفاً أو روائياً لينطق بها، ليسير خلفها ملايين البشر، خصوصاً إنْ حوّلتها إلى العامية: “لازم نزرع جنينتنا”.
عبارة اعتُبرت خلاصة وفحوى قصته “كانديد” التي سَخِرَ فيها الأديب الفرنسي من تسليم الناس أمورهم إلى الأيام، ومن خمولهم وكسلهم، بحجة أن “ليس في الإمكان أبدع مما كان”.
قد تعجبك أكثر عبارة الشاعر عباس بيضون، مع أنها مبنية على جملة فولتير نفسها: “لم أعد بستانيَّ حياتي”.
أما أنا، فقد اتخذت قراري: أريد أن أكون، ولو متأخراً، ولو في ربع الساعة الأخير، بستانيَّ حياتي الوحيد.
البديع في عبارة فولتير يأتي من المعنى المزدوج الذي يحمله الفعل cultiver، فهو يعني الزراعة la culture، كما يعني الثقافة.
هذا ما أبطل العجب لاحقاً بالنسبة لي، عندما وجدت على يوتيوب، أثناء البحث عمَّ أزرع وكيف، فيديوهات عديدة لفرنسيين يعرّفون عن أنفسهم كـ “فلاح- كاتب”، والأمر لم يكن على سبيل المجاز، فليس أمراً نادراً أن تجد كاتباً فرنسياً ومثقفاً يعمل كفلاح خبير، على الأقل، في حديقة منزله، ومن أجل طبقه اليومي.
سيدة فرنسية تملك مزرعة للخيل قريباً من بيتي، قالت لي، فيما نتحدث فوق كومة من القش في مزرعتها: “حسناً أنك تزرع حاكورتك، فالفرنسي الحق لا بدّ أن يكون لديه حاكورة وقنّ دجاج”.
قلبتُ الأرض، وكنت أتهجّاها كمن يقرأ في كتاب عسير، تحتاج كل فقرة منه، كل سطر، إلى تفكيك، وإعادة محاولة، واستعانة بصديق،.. تعذبت كثيراً وخصوصاً أثناء التخلّص من الجذور.
رحت أقرأ في كتاب الأرض معنى وضرورات الكائنات الصغيرة، صرت حذراً من التفريط حتى بدودة من ديدان الأرض.
المزارعون العارفون يشترون الديدان من المخازن المختصة، فهي من جهة تساعد على تهوية التربة، ومن جهة أخرى تساعد على إنتاج الكومبوست، أي ذلك التراب الأكثر خصوبة ونشتريه بالشيء الفلاني لنزرع فيها.
استهدينا على صناعة الكومبوست، كل ما في الأمر نضع بقايا المطبخ، من طعام وخضروات تالفة، وكذلك أعشاب الحاكورة نفسها، في صندوق مهوى ستهتدي الديدان إليها بنفسها، يتحوّل بعد شهور، بفعل التخمر والديدان ومختلف التأثيرات، إلى تربة خصبة جداً وسماد للزراعة. لكن بدلاً من الصندوق الخشبي، وبسبب التأثيرات الجانبية المحتملة، فكرنا بحفرة في الأرض نضع الأشياء فيها، ثم نلقي عليها قليلاً من التراب. شيئاً فشيئاً صار الإحساس الطاغي في بيتنا أننا نحضّر تلك البقايا لإطعام حيواناتنا الأليفة.
لم يخطر لي مرة أنني سأهدر جزءاً كبيراً من انشغالي ووقتي لمطاردة جرذ الحقل، هذا الذي يأكل الأخضر واليابس. أبحث عن أول النفق، ثم أشعل أصابع دخانية ستتكفل بخنقه حيث يختبئ.
لمَ لا! ألم تكن العلاقة مع الأرض هكذا على الدوام، الأرض الأم، الأرض المرأة.. هذه المرة، الأرض باتت هي حيواننا الأليف.
ما تسقيه الذاكرة
إذن لقد كسبت أصدقاء وأعداء جدداً في عالم الفلاحة، لم يخطر لي مرة أنني سأهدر جزءاً كبيراً من انشغالي ووقتي لمطاردة جرذ الحقل، هذا الذي يأكل الأخضر واليابس، أبحث عن أول النفق، ثم أشعل أصابع دخانية ستتكفل بخنقه حيث يختبئ، كان هذا الخسيس الأكثر أذية وصعوبة، ولن تجد له حلاً نهائياً.
المطاردة ستستمر ما دمت تثابر على زراعة حاكورتك.
مؤخراً لم تعد المخازن تبيع تلك الأصابع الدخانية، ربما كجزء من حملات لمصادقة البيئة. علينا إذن أن نذهب إلى المصائد المعدنية، نضعها في فتحة النفق، ونموهها جيداً، وننتظر، يحدث أحياناً أن ننسى أين وضعنا الفخ، سنرى بعدها كيف حفر الجرذ نفقاً جديداً باتجاه آخر. يدهشك بصبره ومثابرته واجتهاده الشرير.
أعدائي الجدد، إلى جانب الخلد، كثر، فهناك الحلزونات، والبزاقات المثيرة للقرف، وهناك كلاب الآخرين، التي يفلتها أصحابها لتجدها وتجد نفسها فجأة في قلب مسكبة مزروعة.
وفي وقت كان يجب على القطط أن تكون إلى صف الأصدقاء، يدهشك أنها لا تقوم بالواجب كما ينبغي في التخلص من الجرذ، أذاها أكبر من فائدتها، تدوس الزرع، وتفعل فعلتها أينما يحلو لها.
رغم الداء والأعداء نَبَتَ الزرع، نبتت سعادة صغيرة مع كل لحظة من عمر الحاكورة، من لحظة بزوغ اللون الأخضر من البذرة، وحتى جني الثمار. تقول لنفسك: “وما الجديد في ما يحدث منذ بدء الخليقة ويتكرر في كل يوم!” مع ذلك، لا شيء يخفف من وقع معجزة الولادة والحياة.
السعادة أنك تهيئ هذه الأشياء بيديك، وأنها تحدث تحت عينيك.
استقبلنْا مختلف المزروعات بما يستحق من الاحتفال، بالصيحات، واللفتات، بالهمس أحياناً، إذ بتنا نظن أن الصوت العالي قد يزعجها، بعدما شاهدنا حلقات من برنامج فرنسي عن الزراعة: «Silence, ça pousse» (صمتاً، إنها تنمو!)، وبالطبع كانت الكاميرا حاضرة على الدوام لتلتقط مختلف لحظات الولادة.
تعلمنا كيف نزرع النباتات التي يزرعها الناس هنا، وأضفنا أشياء نفتقدها، لم نصدق نحن أنفسنا كيف زرعنا الملوخية، هذه التي تحتاج إلى طقس حار مفتقد، ولا يعرفها من سكان هذه البلاد إلا المهاجرون.
تعلمنا كيف نزرع النباتات التي يزرعها الناس هنا، وأضفنا أشياء نفتقدها، لم نصدق نحن أنفسنا كيف زرعنا الملوخية، هذه التي تحتاج إلى طقس حار مفتقد، ولا يعرفها من سكان هذه البلاد إلا المهاجرون.
زرعنا الخيار البلدي، وأنواعاً من البندورة. بتنا نهتم بأصول النباتات، ونعرف بأن هذه جاءت أصلاً من جبال الأنديز في أمريكا اللاتينية، وتلك من بلد آخر وأن قصتها كيت وكيت.
بدأنا نفكر بالفصول وما يمكن أن يناسب كل فصل، وأسعفنا الثوم (الذي يزرع لموسمين صيفي وشتوي)، والفول الذي يزرع في شهر ديسمبر ، لنستمتع بأزهاره الرائعة ورائحته الخاصة مع الربيع، أي أنه يملأ الفترة التي ننتظر فيها عملاً حقيقياً في الربيع والصيف، عدا عن أنه سماد طبيعي للأرض.
هنا فقط عرفنا أن القرّيص (بالفرنسية L’Ortie) يؤكل ويستخدم في مستحضرات تجميل، وكسماد طبيعي للزرع.
أن يزرع المرء لا يعني أن يلقي بذرة في الأرض ويمضي، هي تلك العملية برمتها، بدءاً من التفكير بالسماء (حتى أن هناك من يزرع وفق حركة القمر) وبالأرض ونوع التربة، وبالطبع بالذاكرة، ما اختزنتْ من خبرات، وما تملي على المرء.
وواضح أن جلّ ما نزرع يُسقى أولاً من نبع الذاكرة، لا يعني ذلك بالضرورة أن الفلاحة في هذا البلد هي مد جذور في أرضه، فبطبيعة الحال ستجد أن الزيتون شجرتك الأثيرة، ولأنك مؤقت غالباً، فقد تطمئن بأن للزيتون من القوة ما يؤهله للاستمرار من دون عناية تذكر.
زرعت في الحاكورة الصغيرة خمس زيتونات، وشجرة كرز، وأكثر من سبع عرائش عنب، والحبل على الجرار.
حتى لو تركت المكان، وهذا هو الأرجح، ستظل الأشجار التي زرعتها نقاط ارتكاز في الذاكرة، تماماً كشجرات التين الثلاث على طريق زيتون صحنايا، وأشجار الكينا الطوال قبيل موقف أبو عارف، وأشجار الحور على ضفاف بردى، عند ربوة دمشق.
المصدر: رصيف 22