د- عبدالله تركماني
بعد أن سالت دماء سوريين من أجل التغيير الوطني الديمقراطي أضحى هذا التغيير على جدول الأعمال السوري، لذلك من المهم محاولة رؤية محتوى ومضامين ومستويات هذا التغيير وصوغ أسئلته. إذ يمكن تلخيص قصة سورية المعاصرة في التحوّل المؤسسي القائم على مجموعة قيم: الحرية والكرامة والشفافية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
فبعد أحد عشر عاماً من الحراك الشعبي بلغت سورية نقطة مفصلية حاسمة، بعد أن أقدمت سلطة الاستبداد على قتل واعتقال وتهجير الآلاف من نشطاء الحراك، بهدف إدامة ثقافة الخوف وإسكات أي صوت معارض وإعادة المجتمع السوري إلى زمن مملكة الصمت؟
إننا أحوج ما نكون إلى مقاربة جديدة تقوم على القرار الأممي 2254، الذي يقتضي تشكيل هيئة حكم انتقالي، تقطع الطريق على الأخطار وتعيد تحديد المشكلات التي يجب أن تعالجها سورية بجهود أبنائها، الذين لن يتمكنوا من التعاطي المجدي مع هذه الأخطار بغير تحوّل نظامهم من نظام أمني إلى نظام سياسي، يعترف بحقهم في الحرية والكرامة، وبحق أحزابهم ومنظمات مجتمعهم المدني في الشرعية والعلنية، ويقوم على نمط من الإدارة والتنظيم يستند على مشاركة المواطن في الشأن العام، دون قيود تبطل حريته أو تتعارض معها، وبتحويل الدولة من دولة حزب إلى دولة حق وقانون تخص كل واحد من مواطنيها؟
إنّ الحالة التي وصلت إليها سورية، تحت سيطرة قوى الأمر الواقع، يضعها أمام خيار هو الأسلم، بل الأفضل لمستقبل أبنائها، لكنه الأصعب على أغلبية أهل النظام ومصالح بعض المتنفذين بينهم ممن لطخوا أياديهم بدماء الشعب السوري، وكذلك على مستفيدي قوى الأمر الواقع في شمالي غرب وشرق سورية، يقوم على تعاطٍ عقلاني مع الواقع القائم واتجاهات تطوره، باتخاذ قرار تاريخي وجريء بنقل مركز الثقل وبؤرة الاهتمام السياسيين صوب الداخل، والسير قدماً نحو الإصلاح الديمقراطي الحقيقي الشامل والانفتاح على المجتمع وقواه الحية، بما يعيد صياغة الشرعية السياسية على أسس جديدة: الحرية فوراً لجميع معتقلي الرأي والضمير في سورية من خلال تبييض السجون، وعودة المنفيين السوريين إلى وطنهم من بوابة المواطنية وليس من البوابة الأمنية، وفتح الملف الإنساني للمفقودين في السجون، وإقامة دولة الحق والقانون الديمقراطية الدستورية.
وفي كل الأحوال سوف يكتشف الداعون إلى المصالحة مع النظام أنّ بنيته الاستبدادية عصية على الانفتاح وفهم متغيّرات ومستجدات العصر، إذ إنّ مراكز القوى الأمنية فيه لا زالت أسيرة عقلية من مخلفات الماضي.
لقد نهض الحراك الشعبي السوري بفعل عوامل داخلية – أساساً – بسبب تفاقم معاناة الشباب الثائر في بحثه عن لقمة عيشه وكرامته وحريته، ربطاً بحالة غير مسبوقة من الاستبداد والقهر واستشراء الفساد، أفضت إلى تخريب البنى الوطنية وامتصاص طاقاتها لحساب مجموعة صغيرة من أصحاب النفوذ والامتيازات، وهذه الأخيرة يسكنها هاجس الخوف من مصير غير محمود في حال أُزيحت عن مواقعها.
لقد عقد الشعب السوري العزم على أن يخرج من حياة العبودية، التي تخبط في أوحالها وظلماتها أكثر من 50 سنة، ويعود حراً كما ولدته أمهاته. فما الذي ينبغي تغييره؟ وما الذي ينبغي الإبقاء عليه؟ وكيف نضمن التطورات المستقبلية؟ وماذا نفعل بالثقافة السلطوية القديمة؟ وهل التغيير يحدث من تلقاء نفسه أم لابدَّ من إدارته؟ وما الذي خسرته البلاد أثناء الحكم الشمولي ومنذ انطلاق الحراك؟ وما هي الفترة التي ستستغرقها عملية التحوّل؟ وهل يمكن لثقافة سياسية بكاملها أن تتغير لتحل محلها ثقافة أخرى؟
إنّ عملية التحوّل الديمقراطي تقتضي إعادة صياغة القيم السائدة، وتغيير أنماط السلوك من خلال مجموعة كبرى متكاملة من التحولات، من أهمها: التغيير من مناخ اليأس والقدرية إلى مناخ الثقة بالذات والقدرة على التحكم في المصير، والانتقال من القدرية التي يسيطر عليها الماضي إلى التوجهات المستقبلية.
وفي هذا السياق لا ينبغي توجيه طاقات الشعب السوري لتصفية الحساب مع الماضي وإهمال تحديات الحاضر وتأجيل التفكير في آفاق المستقبل، لأنّ تصفية الحساب مع الماضي ينبغي، استعانة بخبرات الدول الأخرى التي انتقلت من السلطوية إلى الديمقراطية، ألا تؤدي في النهاية إلى تفكيك الدولة ذاتها إلى مكوّناتها الفسيفسائية.
إنّ انتفاضة الشعب السوري حين رفعت شعارات تتصل بالحرية والمواطنة وحقوق الإنسان، وتطلعت إلى إرساء أرضية جديدة لنهوض سوري شامل ركيزته إرادة الشعب الحر، الذي قرر أن لا يقبل من جديد بالمهانة والذل، زادتها سنوات القتل والاعتقال والتهجير تمسكاً بتلك المطالب. إذ إنّ الحكم الديمقراطي القابل للمساءلة هو الضمان الوحيد للاستقرار السياسي الحقيقي، والتنمية المستدامة، والسياسات الاجتماعية المتوازنة.
المهم هو أن يتم إطلاق مسار جديد واضح وشفاف يراعي تلبية وتنفيذ الأولويات السورية في التغيير، على أن يتم ذلك بمشاركة فاعلة وحقيقية من كافة مكوّنات المجتمع السياسية والفكرية والقومية، فالشعوب لا تنتفض لمجرد الرغبة في الثورة، وإنما لتحقيق أهداف ومطالب مشروعة. المهم هو الجدية في التعامل مع هذه المطالب وعدم الالتفاف عليها من قبل ممثلي المعارضة الرسمية، فالشعب السوري أصبح واعياً ومدركاً ولا يمكن الالتفاف حول مطالبه.
والتحدي الكبير هنا لا يقتصر على إصلاح التخريب الإنساني والوطني الذي تسبب به الاستبداد، بل يتعداه إلى ظهور الإنسان الجديد، الفرد المستقل الضمير والعقل. فما هو قادم لا يزال كبيراً، ولا يقل عن ثورة دائمة في أشكال وتعبيرات سياسية وثقافية وإنسانية مختلفة. وما هو قادم أصعب من أن يُحتوى بتنازلات شكلية أو بحلول اقتصادية لمشكلات هي في الأساس سياسية. فالحكم الصالح اليوم يتطلب دستور جديد يؤكد قيم الحرية والعدالة، وينجح في إرساء تقاليد التداول على السلطة في ظل انتخابات حرة وشفافة وضمانات لكل مكوّنات المجتمع. ففي المرحلة الجديدة لن تكون مصادرة حرية الرأي مقبولة، ولن يكون سجن صاحب الرأي ممكناً بلا مقاومة، ولن يكون انتهاك حقوق الإنسان مقبولاً، ولن يكون السكوت عن الفساد والتسلط أمراً طبيعياً. وفي المرحلة الجديدة لن يقبل الناس بعدم المشاركة ولن يخضعوا لحالة الطوارئ، بل سيتصرفون انطلاقاً من حقهم الطبيعي في الكرامة والعدالة والمساواة التامة في وطنهم. وهذا سيعني اعتبار الوطن ملكاً لجميع مكوّناته وليس لفرد أو حزب أو أقلية.