صبحي حديدي
ليس جزافاً أنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي تكشف، بين حين وآخر، بعض أسرار عملياتها العسكرية الخاصة أو ذات الصفة النوعية، أو الاستباقية التي تحسم مقتضى ستراتيجياً أو تغلق ملفاً حساساً؛ كما أنها لا تفعل ذلك على منوال منطق أمني واستخباراتي مفهوم تماماً، وشائع لدى قوى أخرى عديدة. ثمة، في أغلب الحالات، توقيت محدد يُحسب توظيفه على أكثر من نحو واحد: كأن يتخذ صفة الإنذار والوعيد تارة، أو يُسخّر لأغراض داخلية وخارجية تتنوّع بين اعتبارات تتطلبها المؤسسة الأمنية والعسكرية واعتبارات أخرى سياسية تخدم سياقات هذا التكتل الحاكم أو تلك الحال الانتخابية، واعتبارات ثالثة قد تذهب إلى درجة تذكير كبار الحلفاء (الولايات المتحدة في المقام الأوّل) بما قد يتعمّد الحليف إغفاله حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الذراع العسكرية الإسرائيلية.
غير بعيد عن هذا كلّه، وسواه أغلب الظنّ، أنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي رفعت مؤخراً غطاء السرية عن «وثيقة استخباراتية» تكشف بعض ملابسات قصف موقع الكبر، في محافظة دير الزور السورية يوم 6 أيلول (سبتمبر) 2007، استناداً إلى معلومات تجمعت لدى الاستخبارات الإسرائيلية بأنّ المنشأة كانت نواة مشروع «ستراتيجي» يعتزم النظام السوري المضيّ فيه، بالتعاون مع كوريا الشمالية، «يثير شكوكاً حول اهتمام في مجال إنتاج تهديد نووي، من الجبهة الشمالية»؛ طبقاً لبيان جيش الاحتلال، الذي تقصد اقتباس التفصيل التالي من الوثيقة إياها: «لا تشير المعلومات إلى وجود خطة نووية فعالة، وإنما تشهد على اهتمام عملي في مجالات قد تؤدي إلى تطوير خطة كهذه». لكنّ هذا «الكشف» لا يكشف أيّ جديد غير معروف حول المسارات التي سبقت قصف موقع الكبر، التي فضّل الاحتلال تسميتها «عملية البيّارة» لاحقاً، بعد تسمية أولى استقرت على «عملية خارج الصندوق»؛ وتلك وقائع أقرب إلى نسخة جيمس بوندية تشويقية تلمّع الاستخبارات الإسرائيلية بقدر ما تؤكد مجدداً أنّ استخبارات النظام السوري لا تملك أية «شطارة» أخرى غير ممارسة الاستبداد والفساد.
بين الأطرف في مسلسل التشويق ذاك أنّ إبراهيم عثمان، المدير العام لهيئة الطاقة الذرية التي أنشأها النظام السوري سنة 1976، وصل إلى لندن في آذار (مارس) 2007 بجواز سفر يحمل اسماً مختلفاً (وهنا أقصى شطارة استخبارات النظام!)؛ لكن 10 من عملاء الاستخبارات الإسرائيلية كانوا قد سبقوه إلى مطار هيثرو، ونجح فريق منهم في التسلل إلى غرفة الفندق الذي كان ينزل فيه، وفتحوا كومبيوتره الشخصي، ونقلوا محتوياته كافة وخاصة ما يتعلق بموقع الكبر شمال مدينة دير الزور، كما زرعوا برنامج تجسس متطوّراً تولى نقل المعلومات اللاحقة أوّلاً بأوّل. ليست أقلّ طرافة، كذلك، أنّ إيران، حليف النظام السوري الأكبر يومذاك وراعيه اليوم بالتضافر مع روسيا فلاديمير بوتين، كانت وراء موافاة الاستخبارات الأمريكية بأوّل الخيوط حول برنامج النظام النووي مع كوريا الشمالية؛ وذلك عن طريق الجنرال علي رضا عسكري، نائب وزير الدفاع الأسبق الذي انشقّ وفرّ إلى الولايات المتحدة في شباط (فبراير) 2007.
ولن تمرّ سوى بضعة أشهر حتى استكملت دولة الاحتلال «عملية البيّارة» في مطلع آب (لأغسطس) 2008، حين اغتالت العميد محمد سليمان أحد أفراد الحلقة الضيقة المقربة من رأس النظام بشار الأسد، وأحد أبرز مستشاريه في ملفات واسعة النطاق، قد تبدأ من خيارات فنية محضة تخص تسليح وإعادة تحديث أسلحة جيش النظام، ولكنها تمرّ أيضاً بقضايا أمنية ذات حساسية عالية تتعلق بالحلقة العليا الأضيق في السلطة، ولا تنتهي عند ما بات يُعرف باسم «الملف النووي السوري» الذي يكتسب حساسية خاصة عالية لدى دولة الاحتلال.
وكان اتهام أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية باغتيال سليمان قد نهض أولاً على صلة الأخير بما تبقى من تعاون نووي بين النظام وكوريا الشمالية، لكنه ترسّخ أكثر في ضوء ما اقترن بالعملية من مستويات احتراف عالية، في طليعتها تنفيذ الاغتيال ببندقية قنّاص، من عرض البحر، في رابعة النهار، وحين كان العميد يتشمس أمام شاليه الاستجمام على شواطئ طرطوس.
لكنّ النظام السوري كان يبعث برسائل أيضاً، على طريقته وبما وسعته الوسائل بالطبع، كما في اللقاء الثلاثي الذي شهدته دمشق أواخر شباط (فبراير) 2010 وضمّ بشار الأسد والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وحسن نصر الله الأمين العام لـ«حزب الله»؛ وحرص على إشاعة أجواء الصداقة المطلقة والتفاهم التامّ والمناخات الوردية، من دون أن يفلح في إخفاء التباينات التي ظلت تعتمل خلف الكواليس، حول مسائل شتى: المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، العلاقات السورية ـ الأمريكية الآخذة (يومذاك) في التسخين، العلاقات السورية ـ السعودية واحتمالات المصالحة مع القاهرة، التزام النظام بضبط الحدود مع العراق، تحجيم أنشطة «حماس» الإعلامية والتنظيمية على الساحة السورية، الانفتاح المتبادل بين النظام والبيت الحريري في لبنان، وسواها من ملفات.
لم يكن خافياً، كذلك، أنّ حضور نصر الله على هذا النحو العلني يبعث بدوره رسالة إلى بريد أمريكي وإسرائيلي، يشترك في تسطيرها النظام السوري وإيران معاً، كلٌّ بما يحسّن موقعه التفاوضي والدبلوماسي، ويرفع قيمة ما يمتلك من أوراق، أو يكشف عنها ويلوّح بها. ومن جانب طهران، كان في الرسالة بُعد خاصّ يذكّر الحليف السوري بأنّ «حزب الله» هو ركن التحالف الأكبر والأهمّ، وأنه رقم يتوجب احتسابه في كلّ تقارب للمصالح بين دمشق وطهران، وفي كلّ تنافر لتلك المصالح أيضاً. وإذا كان النظام السوري قد احتسب هذا جيداً، لأنه يدخل في صلب موازناته مع واشنطن والغرب عموماً، فإنّ مبادرة طهران إلى التذكير به بين الحين والآخر كانت تنفع دمشق، ولا تضرّ سواها!
غير أنّ الثابت الذي رسم قواعد الاشتباك، مثل الانفكاك عنها، لم يتغيّر لجهة الخطوط الحمراء الإسرائيلية بصدد أيّ برنامج نووي عربي، أو إيراني من باب أولى؛ بل حدث أنه ازداد تشدداً مع مرور الزمن، كما حين بلغت الحال اليوم إقدام القاذفات الإسرائيلية على إخراج مطارات دمشق وحلب ودير الزور من الخدمة عموماً، ومن إمكانية استقبال طائرات الشحن الإيرانية خصوصاً. وفي قلب هذا الثابت تتواصل العربدة الإسرائيلية في أجواء سوريا وأراضيها ومياهها، فتُقصف أهداف «الحرس الثوري» الإيراني وميليشياته المختلفة وضمنها «حزب الله» بالطبع، ولا يُستثنى على وجه التحديد سوى مطار حميميم الذي يعتبره الاحتلال الإسرائيلي قاعدة روسية مخصصة وحصرية في كلّ حال.
ليس جزافاً الإعلان الإسرائيلي الأخير، إذن، بمعزل عن حقيقة أنّ «الكشف» الذي يُوصف اليوم بـ«الجديد» ليس البتة جديداً إلا في جانب واحد ربما؛ هو التأكيد الإسرائيلي الرسمي، العسكري والاستخباراتي، حول مضمون الوثيقة الأخيرة. ففي ربيع 2018 رُفعت السرية عن بعض وثائق «عملية البيارة» ونُشرت بعض الصور الفوتوغرافية والفيديو من داخل قمرة قيادة الطائرات التي نفذت القصف؛ ويومها صرّح غادي آيزنكوت رئيس أركان جيش الاحتلال بأنّ «الرسالة من وراء قصف المفاعل في 2007 هي أنّ دولة إسرائيل لن تسمح بتأسيس قدرات تهدد وجود إسرائيل. تلك كانت رسالتنا في 2007، وهي تبقى رسالتنا اليوم، وستبقى رسالتنا في المستقبل القريب والبعيد». يومها كان آيزنكوت يخاطب إيران، مثلما أنّ كشوفات اليوم تراسل البريد ذاته أيضاً، وتُعلم الحلفاء في واشنطن وباريس ولندن، وكذلك رهط المهرولين إلى التطبيع هنا وهناك في أنظمة العرب، أنّ ذراع الاحتلال كانت طويلة؛ وهكذا تظلّ.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
المصدر: القدس العربي