بورزو درغاهي
قلة من يرغبون باندلاع حرب جديدة في دمشق أو توسع رقعة أي من الصراعات التي خمدت جذوتها. تدور حلقة الأحداث التالية في إحدى النقاط البعيدة من شمال شرقي سوريا التي تتنازع عليها كل من القوات الأميركية والميليشيات المدعومة من إيران وقوات النظام السوري وفلول داعش. إذ قامت المروحيات العسكرية الأميركية بشن غارات جوية يوم الأربعاء الماضي، رداً على هجوم شنته الميليشيات المدعومة من إيران، التي كانت بدورها ترد على هجوم قامت به القوات الأميركية يوم الثلاثاء جاء هو الآخر انتقاماً لهجوم مزعوم نفذته جماعات مرتبطة بإيران على أميركيين بتاريخ الـ15 من أغسطس (آب)، رداً على غارة جوية إسرائيلية في مكان آخر.
ثم أفادت تقارير يوم السبت بوقوع غارة جوية إسرائيلية استهدفت مستودعاً للأسلحة في غرب سوريا، مئات الصواريخ الإيرانية الصنع التي يزعم أنها كانت مخزنة داخل المنشأة قيل بأنها قد دمرت، وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان. الغارة أسفرت أيضاً عن مصرع شخص واحد على الأقل، وأعقب ذلك نشوب حريق دام ساعات طويلة.
تضاف كل هذه التطورات إلى التهديد والوعيد التركي المستمر بشن غزو بري جديد في الشمال السوري، والهدف هم شركاء أميركا الذين يقودهم الأكراد في الصراع ضد داعش.
في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا وما جلبته من مأساة إنسانية واضطراب اقتصادي عالمي، فإن آخر ما يحتاج إليه العالم حالياً هو صراع مسلح جديد في قلب يوراسيا، ولذا فإنه من الضروري أن تكف القوى الإقليمية والدولية عن ممارسة ألأعيبها الخطرة في سوريا، التي ما تزال إلى جانب جارتها العراق أشبه ببرميل بارود على أهبة الاشتعال وبؤرة توتر محتملة.
خلافاً للوضع في أوكرانيا، حيث شن الرئيس فلاديمير بوتين عدواناً أشبه بحروب الغزو الإمبريالي من القرن الـ19، قلة هم من يرغبون حقاً باندلاع حرب جديدة في سوريا أو بتوسع رقعة أي من الصراعات التي خمدت جذوتها، لكن كما أظهر التاريخ مراراً وتكراراً، فقد تبدأ الحروب في معزل عن رغبة أي أحد.
في حالة الشرق الأوسط الوضع أسوأ من هذا، لأن قوى فاعلة داخل حكومات الولايات المتحدة وإيران وتركيا وإسرائيل وغيرها من الأماكن سترحب باندلاع الحرب، والأسباب متعددة فالصراع المسلح سيجبر أميركا على خوض الحرب عنهم، تحويل أنظار الغرب عن أوكرانيا، تحطيم أي أمل بالعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني أو حشد الشعوب المستاءة حول راية الوطن [مفهوم يستخدم لشرح الدعم الشعبي المتزايد على المدى القصير لحكومة دولة ما خلال الأزمات أو الحروب، نظراً لأن التأثير يمكن أن يقلل من انتقاد السياسات الحكومية].
أما بالنسبة لسوريا فقلة هم اللاعبون الذين يستحقون الثناء، هذا إن وجدوا أساساً، في ميدان متنازع عليه، يتضمن دكتاتورية بشار الأسد الوحشية ورعاتها الفاسدين في موسكو، إلى جانب جهات متخاصمة لا تتوقف عن بث الفوضى مثل تركيا وإسرائيل وإيران.
لكن من الممكن مطالبة بعض الدول بالتصرف بمسؤولية أكثر من غيرها، فلقد نفذت القيادة المركزية للجيش الأميركي “سنتكوم”، التي تتخذ من الدوحة مقراً لها، آخر غاراتها الجوية في وقت مريب، فالولايات المتحدة وإيران وقوى عالمية أخرى تخوض مفاوضات حساسة بشأن احتمال إعادة إحياء خطة العمل المشتركة الشاملة، وهو الاتفاق المبرم في عام 2015 الذي يكبح جماح طموحات طهران النووية مقابل تخفيف حدة العقوبات الأميركية عليها.
سابقاً، غضت أميركا الطرف عن هجمات الميليشيات [المدعومة من إيران] على قواتها البالغ عديدها نحو 900 عنصر في سوريا، لكن بعضهم يتوقع بأنه مع اقتراب إعادة إحياء خطة العمل المحتمل، تريد إدارة الرئيس جو بايدن أن تحمي نفسها من منتقديها الشرسين داخل مراكز القوى الرئيسة في واشنطن، عبر تفادي إعطاء أي انطباع بأنها تتعامل بوداعة مع إيران.
لكن لن تقدر أية خطوة لا ترتقي إلى مستوى تبني سياسة تفرض تغييراً للنظام في طهران بالقوة أن ترضي القسم الأكبر من الزمرة المناهضة لإيران داخل واشنطن، ولذلك يعتبر هذا التفكير مضللاً على أحسن تقدير، وخطيراً في أسوأ الأحوال. وفي هذا الإطار كتب إريك سبيرلينغ المدير التنفيذي لمركز الأبحاث ذي الميول اليسارية جست فورين بوليسي (Just Foreign Policy)، “أضحت غارات سنتكوم في سوريا الآن جزءاً من دورة تصعيد من شأنها أن تشكل خطراً على القوات الأميركية”.
وعلى الرغم من وصف المسؤولين الأميركيين ومسؤولي الأمن السابقين الهجمات بأنها استهداف لقوات مدعومة من إيران، تنفي طهران على الدوام أية علاقة بهذه المجموعات، وهذا خداع. فقد عملت إيران طيلة أكثر من عقد كامل على تدريب وتسليح وتنظيم ميليشيات كهذه، وحتى وإن لم تمارس سيطرة يومية مباشرة عليها، فلا شك بأنها قادرة على التأثير فيها ووضع خطوط حمراء واضحة، ومطالبتها على سبيل المثال بالتوقف عن الاعتداء على الثكنات الصغيرة للقوات الأميركية.
لا شك في أن إيران لا تمانع بأن تبقي ميليشياتها الحليفة القوات الأميركية في حالة ترقب دائم في سوريا، إذ يسمح لها هذا بمواصلة استخدام البلد من أجل نقل الصواريخ ونشرها حول إسرائيل التي ترد بدورها بشن هجمات جوية منتظمة على المواقع العسكرية المشتبه بها. لكن إسرائيل تلعب أيضاً لعبة خطرة بتأجيجها لحدة الوضع في وقت تضاعف فيه روسيا، الكفيل الرئيس لنظام دمشق، تلميحاتها بأنها لن تتساهل مع التوغل الإسرائيلي المستمر الفصول.
ثم تأتي تركيا، التي تضغط على واشنطن وموسكو وطهران منذ أشهر لإعطائها الضوء الأخضر على خطتها الجريئة بشن عملية عسكرية لإزاحة الأكراد السوريين المرتبطين بحزب العمال الكردستاني من منطقة حكمهم الذاتي في شمال شرق البلاد.
من شأن أي تصعيد تركي في مدن مثل منبج وكوباني أن يسفر عن تهجير مئات آلاف الأشخاص ويحتمل أن يفتح أي تحرك مثل هذا الباب واسعاً لعودة داعش وتجديد نشاطه باعتبار أن مناصري حزب العمل الكردستاني الأكراد هم القوة الوحيدة الموجودة في الميدان التي تحارب هذه الجماعة الجهادية، فإعلان القوات السورية الكردية يوم الجمعة الماضي اعتقال 27 عنصراً من داعش شمال شرقي البلاد، يؤكد أهمية هذه القوات في إطار جهود القضاء على مسلحي ذلك التنظيم.
تسعى أميركا وحلفاؤها الغربيون إلى إخراج أنفسهم من حروب طال أمدها لعقود في الشرق الأوسط، إلا أن الاحتمال الكبير لتفاقم التفكك في سوريا [والتشظي]، قد يعيدهم من جديد.
© The Independent
المصدر: اندبندنت عربية