معقل زهور عدي
حضارة الأندلس
في بداية النهضة الحضارية الأندلسية كانت الكتب تحمل على ظهر الجمال في القوافل من بغداد ودمشق إلى الأندلس , وكان الأندلسيون يسافرون إلى المشرق لطلب العلم , كما أن كثيرا من علماء وأدباء المشرق هاجروا للأندلس لأسباب مختلفة , ومما امتاز به الأندلسيون إقبالهم على الثقافة العربية – الاسلامية بشغف غير معهود , وانتشار ذلك الشغف لدى الطبقات الوسطى المدنية انتشارا واسعا . وفي عصر لاحق ظهر تفوق العلماء والأدباء والفلاسفة والفقهاء الأندلسيين وأصبحوا أساتذة وأندادا لأقرانهم المشرقيين .
أما الطبقات الوسطى الأندلسية من تجار وحرفيين ومزارعين وممن شغلوا الوظائف الحكومية والدينية – الشرعية فقد تفوقوا بالتأكيد بحبهم للثقافة والكتب على نظرائهم المشرقيين , فلم يكن يخلو منزل من مكتبة عامرة بمئات الكتب , وكان الأندلسيون يتفاخرون بمكتباتهم كما يتفاخر بعض الناس هذه الأيام بسياراتهم الحديثة .
” إلى جانب صقلية أصبحت الأندلس قناة فكرية بين العالم المسيحي ( الأوربي) والعالم العربي مكنت أوربة من إعادة بناء ارتباطاتها المنقطعة بتراثها الكلاسيكي , فكانت قوافل الأمتعة من بغداد ودمشق تأتي بالكتب والمخطوطات العربية من المكتبات العامة ( والوراقين ) إلى أسبانيا , جنبا الى جنب مع ترجمات النصوص اليونانية واللاتينية الكلاسيكية التي اختفت من أوربة منذ انهيار الامبراطورية الرومانية , كما قطع سلسلة من العلماء المسيحيين ( الأوربيين ) من أمثال أبيلارد البائي وروبرت الشيستري وجيرالد الكريموني الرحلة الشاقة جنوب جبال البيرينيه لزيارة المكتبات العامة ومدارس الترجمة التي ازدهرت في ايبريا الأندلسية, وترجمت هذه النصوص إلى اللغة اللاتينية , إلى جانب ترجمات الأعمال العربية في مجال الكيمياء واللاهوت والرياضيات والفلك والطب , وقد شكلت هذه اللقاءات جزءا مما سماه المؤرخ ريتشارد بوليت ” النقل الهائل للثقافة والعلم والتقنية” من العالم الاسلامي إلى أوربة , وهو النقل الذي أسهم في وضع الأساس لعصر النهضة الأوربي .”
” كانت قرطبة في أوجها إبان القرن العاشر , مدينة لانظير لها في العالم المسيحي ( الأوربي ) ( في الحقيقة لانظير لها حتى في العالم الاسلامي أيضا ) فزهت بطرقها المعبدة وشوارعها المضاءة ومستشفياتها ومدارسها وحماماتها العامة , ومكتباتها العامة , وفي الوقت الذي كانت فيه أكبر مكتبة في أوربة المسيحية تضم ستمئة مجلد على الأكثر , كانت الصناعة المنزلية للخطاطين العرب في قرطبة تنتج زهاء ستين ألف كتاب مكتوب باليد في العام , ويقال إن المكتبات العامة في عهد الخليفة الأموي الحكم ” المهيب والمثقف والاداري ” المولع بالكتب كانت تضم نحو أربعمئة ألف مخطوطة في مختلف المواضيع من الشعر واللاهوت إلى الفلسفة والطب والزراعة .”(32) .
يقول ابن عذارى في كتابه “البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب :” ومما قيل في آثار قرطبة وعظمتها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية – رحمهم الله – إن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكابر أهل الخدمة ( 113000) مئة وثلاثة عشر ألف دار , ومساجدها ثلاثة آلاف مسجد ….وعدد حماماتها ثلاثمئة حمام ” (33)
ووصف ابن حوقل النصيبي الرخاء والثروة لأهالي الأندلس فقال : ” وأما جزيرة الأندلس ….تغلب عليها المياه الجارية والشجر والثمر والرخص والسعة في الأحوال ..من الرقيق الفاخر والخصب الظاهر إلى أسباب التملك الفاشية فيها , ولما هي به من أسباب رغد العيش وسعته وكثرته , يملك ذلك منهم مهينهم وأرباب صنائعهم , لقلة مؤنتهم وصلاح معاشهم وبلادهم ” . (34)
فإذا تذكرنا وصف ستانلي بول للمحاربين في حروب ” الاسترداد ” بالوحشية والجهل فربما يصبح مبررا وصف حروب ” الاسترداد ” بأنها في جانب من جوانبها حرب برابرة ضد مجتمع حضاري مترف , تحدوهم الرغبة القوية في النهب والسلب والتملك أكثر من رغبتهم في خدمة الكنيسة . والشبه كبير بينهم وبين قبائل الجرمان التي اجتاحت روما وأعملت فيها سلبا ونهبا وحرقا , وتسببت في انهيار الامبراطورية الرومانية بكل ماكانت تحمله من معالم حضارية ورجوع أوربة نحو الغرق في ظلام القرون الوسطى .
يقول المقري عن حال العلم في الأندلس : ” وأما حال أهل الأندلس في فنون العلوم فتحقيق الانصاف في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميز …..والعالم عندهم معظم من الخاصة والعامة , يشار اليه ويحال عليه , وينبه(يعلو) قدره وذكره عند الناس , ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة وما أشبه ذلك ….فالعالم عندهم بارع لأنه يطلب العلم بباعث من نفسه يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه , وينفق من عنده حتى يتعلم , وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء , إلا الفلسفة والتنجيم فإن لها حظا عظيما عند خواصهم “
كتب ليفي بروفنسال : ” إن الإشعاع الذي كانت تعكسه قرطبة على المسيحية الغربية لايمارى فيه ….وهذا الاشعاع آخذ في تأكيد ذاته , وفي بعض الوثائق النادرة جدا مع الأسف أن الشاعرة الألمانية روزيثا التي نظمت أبيات شعرها في منتصف القرن العاشر تدعو العاصمة الأموية قرطبة ب” زينة الدنيا ” ويرسل أوتون الأول امبراطور جرمانيا السفير جان دي غورتس في عام 956 م الى عبد الرحمن الثالث فينقل الينا مترجم حياة ذلك السفير ماشعر به إزاء حضارة كان مع ذلك يعرف عنها من قبل أنها رقيقة وناعمة ” .(35)
أما النص الآتي لبروفنسال أيضا فهو يلقي بضوئين في آن واحد , أحدها على ماسبق أن تعرضنا له من انخراط أوربة خلف حروب ” الاسترداد ” والطبيعة الصليبية لتلك الحروب أما الآخر فيبين أحد عوامل التأثير الحضاري الأندلسي في فرنسا القرون الوسطى .
” على الرغم من أن فرنسا كانت في العصور الوسطى في عزلة عميقة بسبب وضعها الجغرافي , الا أن ذلك لم يحل دون وصول المؤثرات الحضارية من الأندلس اليها عبر الممالك المسيحية في شمال الأندلس , ذلك أن الحملة الصليبية الفرنسية ( ليفي بروفنسال يصفها بالصليبية بوضوح ) التي استهدفت عام 1064 م مدينة برباسترو الواقعة ضمن اقليم اراغون كانت تضم في صفوفها فرسانا من أغلب مقاطعات المملكة بقيادة أمير نورماندي فلما فاجأت المدينة وانتهت من نهبها , عادت عبر جبال البيرينيه ومعها أعداد هائلة من الأسرى المسلمين , وليس مايمنع هنا من الظن بأن هؤلاء الأسرى قد عملوا في المدن التي سيقوا اليها على نشر المعرفة بالفنون والأساليب التي لم تكن قد خطرت ببال أسيادهم قبل أن يذوبوا بين السكان وقد رأينا أن غالبية الكلمات الفرنسية المشتقة من العربية قد جاءت عبر اللغة الأسبانية .”(36)
واذا ربطنا بين النص السابق الذي تحدث عن توطين الفرنسيين في مملكة أراغون بعد طرد العرب والمسلمين منها والفراغ السكاني الذي أحدثه ذلك الطرد , وبين هذا النص الذي يخبرنا عن حملة عسكرية كبيرة منظمة من المملكة الفرنكية لاجتياح المدن الاسلامية في اراغون ونهبها وسوق سكانها أسرى لأصبح لدينا رؤية أفضل لسبب اختلال ميزان القوى لصالح الممالك الاسبانية , ولطبيعة الموارد البشرية القادمة من أوربة سواء منها المشاركة بالمجهود الحربي او بالاستيطان والاستيلاء على ممتلكات وأراضي أهل الأندلس الذين طردوا من ديارهم وسلبوا جميع أملاكهم .
أما التأثيرات الحضارية التي يتحدث عنها بروفنسال والتي انتقلت الى فرنسا عبر الأندلس فنادرا مايرد ذكرها لدى المؤرخين الغربيين , وفي حين تبقى محصورة ضمن بعض الكتب والأبحاث الأكاديمية المعمقة فأن الثقافة المتداولة على نطاق أوسع تسقطها إلى حد كبير .
تذكر بعض التقديرات أن السكان المسلمين في ايبريا بداية القرن الثاني عشر بما في ذلك الأمازيغ والعرب والأيبريين الأصليين الذين اعتنقوا الاسلام كان عددهم جميعا زهاء خمسة ملايين ونصف المليون , وفي نهاية القرن الخامس عشر كان عدد المسلمين في اسبانيا يتراوح بين خمسمئة الف وستمئة الف من أصل إجمالي سكان أسبانيا الذين كان عددهم يتراوح بين سبعة الى ثمانية مليون نسمة .
ومما سبق يمكن استنتاج أن الغالبية العظمى لسكان ايبريا في القرن الثاني عشر كانت من الأندلسيين المسلمين الذين انصهروا في بوتقة الحضارة العربية – الاسلامية فلو افترضنا جدلا عدم زيادة عدد المسلمين من القرن الثاني عشر حتى القرن الخامس عشر لكانت نسبتهم حوالي 73% من اجمالي السكان.
وقد تم طرد وتهجيرقسم كبير منهم خلال مئتين وخمسين عاما تقريبا قبل سقوط غرناطة أما القسم الآخر فقد وجد نفسه مجبرا على التحول نحو المسيحية بدل الهجرة أو التعرض للاضطهاد . أما الذين بقوا بعد سقوط غرناطة فقد كان ينتظرهم سيف محاكم التفتيش .
لقد تم التهجير بحملات منظمة كان فيها الأندلسيون مخيرين بين الهجرة أو الموت أو الاستعباد , فلايعقل أن يهاجر شعب بكامله من أرض آبائه وأجداده ويترك بيته وأرضه لسبب أقل من القتل أو الاستعباد.
ههنا تم اقتلاع شعبٍ هو صاحب أرقى حضارة عرفتها أوربة حتى ذلك الوقت , دون رحمة ودون شفقة , واعتبرت تلك الجريمة الكبرى بحق الإنسانية مبررة بل وممجدة في أوربة كلها لوقت طويل وجرى إضفاء الشرعية عليها على المستوى العالمي بجعل هذه الأفعال مرادفة لمصالح الدين .