د- عبدالله تركماني
لم يعد يخفى على أحد أنّ حراك الشعب السوري، منذ ما يزيد عن أحد عشر عاماً، قد تحول من صراع داخل سورية على تغيير قواعد الحكم ونظام السيطرة السياسية، إلى حرب على سورية لتقرير مصير الهيمنة الإقليمية، وأنّ السمة الأبرز لهذا الصراع هو الغياب الكبير للفعل العربي. في حين لا نرى على الأرض السورية، التي كان يُتغنى بها بأنها ” قلب العروبة النابض “، سوى آثار الاحتلالات الأجنبية والمليشيات الدولية والإقليمية، تزرع الموت والدمار، بينما لا يكفّ دور العرب فيها عن التراجع.
لقد تأثر الموقف العربي تجاه الانتفاضة السورية بمجموعة من المحددات الخاصة بتوجهات كل دولة، لذلك لم يلاحَظ تنسيق عربي مشترك، بما في ذلك الزيارة التي قام بها الأمين العام للجامعة، نبيل العربي، في 15 تموز/ يوليو 2011، حيث طالب رأس النظام بإيقاف الحلّ الأمني لمواجهة مطالب الشعب السوري والبدء في إصلاحات سياسية شاملة. ونتيجة للتعاطي السلبي مع جهد الأمانة العامة، بدأت مجموعة من المواقف العربية المتقدمة تظهر، كان لها أثر في تبنّي الجامعة لقرار تعليق عضوية سورية في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2011.
لكنّ مبادرة جامعة الدول العربية، بما فيها بعثة المراقبة التابعة لها، فشلت بسبب تسويف أهل السلطة السورية في 28 كانون الثاني/ يناير 2012، وبذلك وصل جهد الجامعة إلى طريق مسدود. ومنذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا، تبيّن أنّ جامعة الدول العربية لم تقطع علاقاتها مع نظام بشار الأسد عندما علَّقت عضوية سورية فيها فحسب، بل قطعتها مع الشعب السوري نفسه، حين تقاعست عن تقديم العون له في دول اللجوء التي لجأ إليها. ولم يُسمَع للجامعة صوت حين أوقفت أغلبية دول العالم منح السوريين تأشيرات دخول إلى أراضيها. أما من قُدِّر له النزوح إلى المدن والبلدات السورية الأخرى، أو اللجوء إلى الدول المجاورة، فقد تركته الجامعة يلاقي الذلّ والعوز والموت برداً أو جوعاً أو مرضاً. كما لم تهتم بأجيال كاملة، حُرمت من التعليم الذي يقيها التخلف والفقر، وحُرمت من امتهان الحِرَف التي تمنعها من أن تصبح فريسة للبطالة وآثارها مستقبلا.ً
وفي الواقع، مع جردة حساب لمواقف العرب، خلال ما يزيد على السنوات الماضية، وتضخُّم مأساة الشعب السوري، ليس من الصعب التأكد أنّ دوراً عربياً سيكون قاصراً، وربما مؤدياً إلى عكس المرجوّ منه، نظراً إلى كثرة الفاعلين على الساحة السورية، والذين سبقوا العرب في التجذر في تربة الكارثة السورية، واقتسام الأرض والشعب السوريين فيما بينهم. كذلك لا مستند لأية دعوة عربية، كون العرب ألفوا الغياب عن جميع قضاياهم التي سبقت القضية السورية أو رافقتها، بل وأدمنوه.
الآن، ونحن على أبواب القمة العربية القادمة في الجزائر، لن نلحظ آلية عمل من أجل إنهاء الكارثة السورية، وإنما تكرار الصيغة القديمة ” تكثيفنا العمل على إيجاد حلّ سلمي ينهي الأزمة السورية، بما يحقق طموحات الشعب السوري “.
إنّ ما يجرى في سورية سيترك أثره البعيد، سلباً، في مجمل الدول العربية، فسورية بوابة الاستقرار وبوابة الفوضى في الآن نفسه. وهي مصدر قوة للعالم العربي عندما تكون مستقرة ومتماسكة وشعبها هو السيد على سلطته، ومصدر ضعف له عندما تسودها الفوضى، هذا هو تاريخ سورية منذ استقلالها. وسيكتشف العرب سريعاً النتائج السلبية لانهيار الموقع السوري في معادلة التضامن العربي، كما لن يكون بعيداً انعكاس التفتت السوري، الجغرافي والبشري والاجتماعي، على مجمل الدول العربية، غير المحصّنة من انتقال العدوى السورية إلى مجتمعاتها.
لقد بات ضرورياً إعادة النظر في ميثاق جامعة الدول العربية، وفي نظامها القانوني، وتعديل ميثاقها على نحو يكفل لها القدرة المناسبة على تحقيق أغراضها وتخويلها السلطات والصلاحيات اللازمة من أجل تدعيم أجهزتها ومؤسّساتها لكي يتلاءم دورها مع التطورات الحادثة على الساحتين العربية والدولية، وهي تحولات تُنذر بفيضٍ من التفاعلات التي من شأنها التأثير في المنطقة العربية بما يتطلّب أن نتحسّب لها.
لذلك، تغدو الحاجة إلى تغيير النظام السياسي العربي مصيرية، وهي مسألة حياة أو موت، إذا ما فكّرنا في التحديات الإقليمية الرئيسية التي تواجه الإقليم العربي، وأولها، بكل تأكيد، إعادة الأمن والاستقرار ونهاية خطر الإرهاب، وضمان الانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، وبناء نظام إقليمي عربي يعكس الطموحات الكبرى للمواطنين.
وحتى لا تجرفنا غبطة بيانات الإصلاح في القمة العربية القادمة، تجدر الإشارة إلى ضرورة إحداث تغييرات حقيقية، وليس مجرد ديكورات شكلية، إذ إنّ الوصاية على شعوبنا والنظر إلى التغيير بوصفه منّة أو هبة يمنحها الحاكم لرعاياه جعلت من التغيير ضرباً من الخيال، مما يتطلب ضرورة الانعتاق من هذا النهج السلطوي حتى يصبح للإصلاح معنى وقيمة.
إنّ المرحلة المقبلة تقتضي من دون شك شحذ الوعي الاستراتيجي العربي بمفاهيم وأساليب وآليات جديدة للتعامل مع الكارثة السورية وغيرها من الكوارث العربية، بما يؤدي إلى تحوّلات نوعية متسارعة، وتحديات غير مألوفة، ذلك أنّ الأمر لا يتعلق بترميم نظام متداعٍ، وإنما بالاستعداد للانتقال المتأخّر من مناخ المعادلة الدولية المندثرة إلى آفاق معادلة دولية أخرى قيد التكوين.
وتبقى الأسئلة: هل ينجح العرب في صوغ رؤية متجانسة، أو حتى توافقية، لمستقبل النظام الإقليمي بما يُحقق الحد الأدنى المشترك من مصالحهم؟ أم يتركون الساحة للأطراف الإقليمية الأخرى والأطراف الخارجية لتُملي ما يلبي مطامحها وتتوصّل إلى تفاهمات في ما بينها، قد تكون على حساب المصالح العربية؟
وإذا كان لمآلات الثورات، التي شهدتها بعض الدول العربية خلال موجتي الربيع، تداعياتها على الخريطة الجيو – سياسية في الإقليم، فإنّ ما جرى في سورية من حراك شعبي، وطريقة تفاعل النظام السوري معه، يفرضان حسابات أعمق في المعادلة الإقليمية. ليس في المحيط المجاور لسورية فقط، وإنما في مجلس التعاون الخليجي ومصر، وكلها أطراف سوف تتأثر بما سيؤول إليه الوضع السوري من نتائج.