معقل زهور عدي
أصبح واضحا اليوم أن قرار شن الحرب على أوكرانيا الذي يرتبط بصورة مباشرة بالرئيس بوتين لم يكن يتصف بالحكمة وبعد النظر، وأنه افتقر إلى تقدير سليم لدرجة مقاومة الجيش الأوكراني ، واستعداد الشعب الأوكراني لتحمل أعباء المقاومة والقتال ، ومدى تماسك هذا الشعب وتصميمه ووقوفه خلف حكومته المنتخبة . كما اتصف أيضا بالخطأ في تقدير رد فعل الغرب , ومايمكن له أن يقدم للدولة الأوكرانية من دعم عسكري واقتصادي , ومايمكن أن يفرض على روسيا من عقوبات لم يسبق لها مثيل , وأخيرا حاجة أوربة للغاز الروسي التي يمكن أن تجبرها على الابتعاد عن الولايات المتحدة والوقوف على الحياد أو مسايرة الولايات المتحدة دون الانخراط الجدي في دعم مقاومة أوكرانيا وتطبيق العقوبات الاقتصادية على روسيا . وأخيرا فقد أخطأ في تقدير حماس الشباب الروسي للحرب في أوكرانيا واستعدادهم للتضحية في سبيل الأهداف السياسية المعلنة ومدى قناعتهم بضرورة الحرب التي جرى تصويرها باعتبارها حربا وقائية لحماية أمن روسيا وإبعاد الخطر عنها . كل ذلك أثبتت وقائع الستة أشهر ونيف خطأه , كما أثبتت أن الجيش الروسي لم يكن بذلك الجبروت والهالة الأسطورية التي كانت تحيط بها قبل الحرب , وأنه يعاني ضعفا في الإمداد والتنسيق بين عمل مختلف الوحدات . ولكي نستطيع فهم مغزى الهزيمة الأخيرة للجيش الروسي في خاركيف ربما يتوجب علينا وضعها ضمن التسلسل الزمني للسياق الذي سارت به الحرب منذ بدء الهجوم الروسي في شهر شباط/فبراير من العام الحالي . فالمحور الرئيسي للهجوم كان موجها لمحاصرة العاصمة كييف وتحطيم الدفاعات الأوكرانية حولها ثم الاندفاع لاحتلال العاصمة واسقاط حكومة زيلنسكي بالقوة وتنصيب حكومة حليفة لموسكو كما هو حال بيلاروسيا اليوم . وقد كان الفشل في تحقيق ذلك الهدف والخسائر الفادحة التي تكبدها الجيش الروسي هناك صدمة كبيرة للقيادة الروسية دفعها لإعادة النظر باستراتيجية الحرب , وجرى استبدال هدف الحرب المعلن وهو إسقاط الحكومة الأوكرانية بالقوة بهدف احتلال اقليم الدونباس شرق أوكرانيا وتركيز كامل القوة العسكرية الروسية في هذا الاقليم وحسب سير الحرب يمكن توسعة مساحة الاحتلال نحو الجنوب باتجاه أوديسا أو الاكتفاء بإقلييم الدونباس ثم ضمه لروسيا بمسرحية استفتاء , وبذلك تكون الحرب قد وجدت التبرير والمكافأة للخسائر الكبيرة التي تكبدتها روسيا . لكن تلك الاستراتيجية كانت تقتضي إنهاء المقاومة الأوكرانية , وتحطيم الجيش الأوكراني وإخراجه من المعركة , ليتم الانتقال بعد ذلك للتفاوض على صلح أشبه بالاستسلام مع الحكومة الأوكرانية , حين تقتنع أوكرانيا أنه ما من سبيل لمقاومة الجيش الروسي , وأن احتلال الدونباس قد أصبح أمرا واقعا, وأن استمرار المقاومة قد يفضي إلى تدمير ماتبقى من المدن الأوكرانية والمنشآت الاقتتصادية وخروج موجات هجرة جديدة , ومقتل عشرات الألوف ( ربما مئات الألوف ) بدون تحقيق أي هدف . لكن وبعد عدة أشهر , ومع إعادة تشكيل الجيش الأوكراني وتدفق سيل من الدعم العسكري والاقتصادي على أوكرانيا , ومع ظهور تصميم واضح لدى الشعب الأوكراني على استمرار المقاومة , بدأ الخلل يتسرب للاستراتيجية الروسية الجديدة . فتلك الاستراتيجية لاتقبل إطلاقا بتحول الحرب إلى حرب استنزاف طويلة الأمد . ومثل ذلك التحول يعني نهايتها وفشلها بتحقيق الهدف الذي صممت من أجله . ويبدو أن نتائج ذلك التحول قد بدأت منذ فترة تهدم أسس تلك الاستراتيجية , ومن أهم تلك النتائج تحسن أساليب قتال الأوكرانيين , وبروز أثر الأسلحة الحديثة التي تم تزويدهم بها , وارتفاع معنوياتهم مع تيقنهم من قوة الدعم الغربي واستمراره , وأخيرا هبوط معنويات الجنود الروس الذي ظهر بوضوح في طريقة انسحابهم من حول خاركيف وتركهم أسلحتهم وآلياتهم سليمة فقط ليسرعوا بالنجاة بأنفسهم . هكذا جاءت الهزيمة الروسية كإعلان مدو لفشل الاستراتيجية الروسية الثانية , فماهي الخيارات المتاحة اليوم أمام روسيا ؟ لايقدر بوتين أن ينسحب من أوكرانيا بين ليلة وضحاها مثلما انسحبت أمريكا من أفغانستان , فقرارات الحرب والسلم لاتؤخذ هناك دون أن تمر بدراسة معمقة وموافقة لعدة مؤسسات , بالتالي فمسؤولية تلك القرارات لاتتمركز عادة بشخص الرئيس سوى بقدر الصلاحيات الدستورية الممنوحة له , وباب المحاسبة والمراجعة مفتوح دائما .أما في روسيا فالرئيس بوتين هو أقرب فعليا للقيصر الذي تجتمع عنده كل خيوط القرار السياسي , والاعتراض عليه من قبل القيادات العسكرية والسياسية مغامرة غير محمودة النتائج , بالتالي فهو في النهاية يتحمل المسؤوولية التامة لقرار الحرب , والفشل أو الهزيمة في الحرب يمسه بصورة شخصية إلى أبعد حد . من أجل ذلك فطريق الرجوع مقطوع على بوتين , لكن إلى أين يسير في الاتجاه الاجباري نحو الأمام . ليس لديه سوى خياران : الأول أن يستعيد ما أخذه الأوكرانيون منه مؤخرا على الأقل . أو أن يقوم بهجوم يحتل فيه مايكافىء خسارته مثل احتلال أوديسا . والثاني : وهو يأتي في حال عدم تمكنه من تحقيق الخيار الأول , استخدام أسلحة نووية أو كيميائية تكتيكية مثلما هدد به اليوم . بحيث يقلب الطاولة على أوكرانيا والناتو ويضع الجميع أمام خيار حرب عالمية نووية مقابل تركه يحتل الدونباس وإجبار أوكرانيا على صلح يشبه الاستسلام . في حال تمكنه من تنفيذ الخيار الأول يكون قد أعاد بعض التوازن العسكري الذي اختل ضده مؤقتا , وهو بذلك يكسب فقط بعض الوقت ولا يكسب الحرب . أما الخيار الثاني فيعتمد على رد الغرب خاصة حلف الناتو بزعامة الولايات المتحدة . فإذا لم يكن لدى الناتو استعداد للرد وهناك شك كبير في استعداده لدخول مواجهة مباشرة مع روسيا قد تفضي لحرب نووية , فسوف يعيد بوتين الضربة مرة ثانية وربما ثالثة حتى لايعود لدى الدولة الأوكرانية خيار سوى الاستسلام . من الآن وحتى يسدل الستار على مسرح الحرب الأوكرانية سوف يبقى العالم واقفا على أصابع قدميه ويده على قلبه من هول القادم .