محمود الريماوي
بنبرة واثقة وثابتة، تحدّث الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل أيام لقناة تلفزية أميركية، عن اعتقاده أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يريد إنهاء الحرب (على أوكرانيا) في أقرب وقت ممكن. وقد جاء الإعراب عن هذا الاعتقاد، بعد محادثات مكثفة بين الرجلين، على هامش قمة شنغهاي في مدينة سمرقند بأوزبكستان التي اختتمت السبت الماضي، 17 سبتمبر/ أيلول الجاري. وقد يبدو تصريح الرئيس التركي بشأن موقف الرئيس الروسي أمراً معهودا، إذ سبق لبوتين أن أعلن مراراً عن استعداده لإنهاء الحرب “اليوم قبل الغد شريطة تلبية المطالب الروسية”، غير أن أردوغان لم يربط تقديره بمطالب روسية، بل قَرن هذا الأمر، وهو الاستعداد لإنهاء الحرب بما سماه وجود “إشكالية كبيرة” لدى القيادة الروسية، في إشارة إلى تقهقر القوات الروسية، أخيرا، عن آلاف الكيلومترات داخل أوكرانيا، وهو ما لمسه لدى محادثاته مع نظيره الروسي. وقد دأب أردوغان على اللقاء ببوتين أو التواصل الهاتفي معه، مرّة على الأقل في الشهر، وهو ما واظب عليه بعد شنّ الحرب الروسية على أوكرانيا، ما يجعل أردوغان الأكثر تواصلاً مع بوتين من زعماء العالم (مع استثناء دول مثل إيران وبيلاروسيا). ويُذكر هنا أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز، أبقيا على قناة تواصل مع سيد الكرملين، ولكن بوتيرة أقل مما هي عليه لدى أردوغان الذي لا يُخفي عزم إدارة بلاده على أداء دور الوسيط لتنظيم مفاوضات روسية أوكرانية تؤدّي إلى وضع حد للحرب. ومن الواضح أن بوتين نفسه متمسّك بإدامة التواصل مع أردوغان لأسبابه، إذ يحتاجه كجسرٍ إلى الغرب.
يبدو التصريح عن السعي إلى إنهاء الحرب متناقضاً مع التحشيد الروسي بإعلان تعبئة عسكرية جزئية لإضافة 300 ألف جندي روسي إلى عديد الجيش الروسي (خطوة غير مُرحّب بها شعبيا). وكذلك مع التهديدات المتكرّرة بالسلاح النووي، والتذكير المتكرّر على ألسنة مسؤولين روس بـ”العقيدة الروسية” في هذا الشأن، غير أن رفع سقف السيناريوهات العسكرية قد لا يعني بالضرورة الاستعداد لاستخدامها، بل استثمارها ورقة ضغط على الطرف الآخر، وهو في الوعي الروسي الغرب أولاً، وأوكرانيا ثانياً، من أجل الدفع نحو حل تفاوضي. وأخيرا، وخلال قمة شنغهاي، أعرب بوتين عن استعداده للقاء الرئيس الأوكراني، فيما نقل عنه رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، الذي شارك في القمة، أنه يريد إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن. على أن ما سبق قابلٌ لأن يدخل في باب المناورات السياسية، أو لغايات تهدئة الرأي العام الروسي في ظرف استدعاء مئات الآلاف للالتحاق بالجيش. وبينما كانت أوكرانيا في ربيع هذا العام هي المندفعة نحو التفاوض، فإن روسيا باتت في التصريحات المتواترة هي التي تجنح إلى التفاوض.
وبالعودة إلى تصريحات سابقة لرئيس الدبلوماسية الروسية، سيرغي لافروف، عن الاستعداد الروسي للتواصل مع الغرب، والمقصود هنا أميركا، وأن بلاده لن تركض وراء واشنطن من أجل إجراء حوار، مع إضافة التصريحات المتكرّرة بأن واشنطن تُملي على كييف المواقف المتشدّدة في المفاوضات، وأن الحرب الجارية هي عموما بين روسيا والغرب، فإنه يتّضح من تلك المواقف مع ربطها بالاستعداد المعلن لإنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن، أن موسكو ترغب في حل تفاوضي مع الغرب، وبالذات مع الولايات المتحدة. وبهدف التعامل مع الحرب ومقدّماتها وذيولها (وعلى الأخص العقوبات) في رزمة واحدة، على أن الأطراف الأخرى: أوكرانيا وأوروبا وأميركا ترفض النظر في العقوبات قبل إنهاء الحرب. ولعل تسخين التصريحات النووية يرمي، بين ما يرمي إليه، إلى استدراج واشنطن للإسهام المباشر في حل تفاوضي.. إذ إن لقاء قمّة مع الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي يقلل من مكانة روسيا، وذلك وفق الخطاب السياسي والإعلامي الروسي الذي يرى في الرجل مجرّد دمية للغرب، وبحيث يكون الاستعداد الروسي للتفاوض معه في واقع الأمر كناية عن استعداد للتفاوض مع الغرب الذي “عيّنه في موقعه”، ويغدق عليه الأسلحة لإطالة أمد الحرب.
في تصريحاته لقناة “بي بي إس” الأميركية، لم يكتف أردوغان بالقول إنه “كوّن انطباعا ًبأن الرئيس الروسي يريد أن ينهي الحرب سريعا”، لكنه أضاف إلى ذلك قوله “إن خطوة مهمة سوف تُتخذ”. لم يكشف طبيعة هذه الخطوة (الروسية) أو فحواها، وإن كان مفهوما من السياق أن توقيتها سيكون قريبا. علما أنه، حتى لو كان هناك تفكير روسي بخطوةٍ مهمة، فإن من الممكن تعديلها أو التراجع عنها قبل اتخاذها، إذ إن قرارات الكرملين (الاستراتيجية) لا تصدر عن قرارات جماعية، ولا تحتاج إلى تصديق مؤسّسات تشريعية، غير أن الأكثر أهمية في تصريحات أردوغان هو ما سماها الإشكالية الكبيرة التي تواجه روسيا، فكلفة الحرب باهظة بشريا وعسكريا واقتصاديا وسياسيا (كمثال: رد الفعل الروسي الساخط على استثناء القيادة الروسية من الدعوة إلى المشاركة في جنازة الملكة إليزابيث الثانية)، والقوات لا تشقّ طريقها إلى الأمام، بل تتراجع، وأصدقاء موسكو في الصين والهند يتذمّرون من إطالة أمد الحرب وانعكاساتها، حتى أن مقالاً ظهر في صحيفة غلوبال تايم، الصينية الرسمية لرئيس التحرير السابق، هو شيجين، وصف كل من يحاول التغلب على الطرف الآخر في حرب أوكرانيا بأنه “مجنون”. في وقت صدر فيه بيان عن وزارة الخارجية الصينية يؤكّد على حل الخلافات بالحوار والالتزام بميثاق الأمم المتحدة.
في هذه الأجواء من المواقف المتضاربة، جاء خطاب الرئيس زيلينسكي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مساء الأربعاء متشدّدا، داعيا إلى إيقاع “عقاب عادل” بروسيا، ووردت كلمة عقاب في خطابه عبر الفيديو 15 مرّة، كما لاحظت تقارير إعلامية. وتجيء هذه النبرة المتشدّدة، ردّا على الإعلانات الروسية المتكرّرة بالاستعداد لإنهاء الحرب، وفي نبرةٍ لا تخلو من الشعور بنشوة النصر .. علماً أن من السابق لأوانه الحديث عن نصر أوكراني أو هزيمة روسية، وقد تندفع موسكو نحو إجراءات مدمّرة تطاول المدنيين أو البنية التحتية المدنية، على غرار ما فعلته وما زالت تفعله في سورية، وذلك لتبديد أية انطباعات عن نصر أوكراني، ومن أجل شقّ الطريق نحو حل تفاوضي، من الأفضل أن يجري التباحث فيه مع الغرب مباشرة، مع اختصار المطالب الروسية بتحرير منطقة دونباس حدّا أدنى.
المصدر: العربي الجديد