علي محمد شريف
قبل ساعات كان هنا. ما الذي أخّر عودته إلى المشفى؟ هل كانت باقة الورود ضرورية إلى الحدّ الذي يمنع شابّاً من حضور ولادة طفله الأوّل؟ مع ذلك فمحلّ الورود لا يبعد أكثر من شارعين وها قد مضى النهار ولم يعد. ما الذي عوّقك يا ولدي وماذا جرى لك؟ هل يعقل أن الحاجز الأمنيّ…
يمرّ الوقت وتتسع دوامات الحيرة واللوعة والقلق، تنكمش الأمّ كمضغة سائغة بين فكّي الشكّ والخوف، وتغدو الأسئلة مثل حبال خشنة من الشوك تنجدل وتلتف على عنقها، وكأفعى تغرز أنيابها في القلب وتنفث سمومها القاتلة. لا شيء، ولا أحد سوى ترياق المعرفة يمكن أن يكفكف حرقة السؤال ويبدّد حيرة السائل.
تتصدّر قضيّة المفقودين والمغيّبين والمخفيّين قسريّاً الملفّات الإنسانية في سورية، فهي جرح السوريين المفتوح الذي يبدو أنه في ظلّ تجاهل المجتمع الدولي وغياب العدالة والقيم الإنسانية لن يندمل، وهي القضيّة الأكثر إيلاماً ومأساويّة لما تنطوي عليه من غموض في مصائر ضحاياها، ولما هو معلوم عن الممارسات الوحشيّة التي يرتكبها نظام الإجرام الأسديّ في معتقلاته وأماكن الاحتجاز السرّية التي يديرها ويشرف عليها جلاوزته المتمرّسون في التعذيب، وفي كافة أشكال العنف والاغتصاب والقتل دون وازعٍ أو رادع، وبأوامر صريحة ومباشرة من رأس النظام ورؤساء أجهزته الأمنية المتوحشة.
لقد اعتاد نظام الإرهاب الأسدي منذ اغتصاب الأب للسلطة ارتكاب جرائم الإخفاء القسريّ والاعتقال السياسي، وتصفية المناوئين بعيداً عن سلطة القضاء وعن المبادئ والأصول التي يقرها القانون، بل يمكننا الجزم بأنّ الخطف والإخفاء القسري والحرمان من الحرية ومن الحياة تشكل استراتيجيةً ونهجاً متأصلاً في صلب آليّاته وأدواته العنفية، إذ إنّ عقيدة الإرهاب وسحق إرادة خصومه السياسيين وإفناء الأكثرية المناوئة لطغيانه هي التي تحكم وتوجّه سلوكه القمعيّ، وارتكاباته الوحشيّة سبيلاً للحفاظ على سلطته اللاشرعيّة، واستمرار حكم سورية في سلالته المأفونة، ولعلّ ما تبينه الإحصاءات وتكشف عنه الوثائق والأدلّة يؤكّد على هذه الاستراتيجية وذاك النهج، إذ إن عدد القتلى تحت التعذيب الموثقة أسماؤهم زاد عن مائة وخمسة آلاف، وأنّ المعتقلين والمغيبين قسرياً الموجودين في سجونه ينوف عددهم عن المائة وخمسين ألفاً يكابدون مختلف أشكال القهر والتعذيب ويتهدّدهم الموت في كل آن، وبالرغم من أن الأعداد الحقيقية غير معلومة وهي بالتأكيد أكثر بما لا يقاس، فإن أضفنا لها أكثر من مليون شهيد، فإن ذلك يعني أنّ لدى كلّ عائلة سورية مفقود في غياهب معتقلات الأسد على الأقل وبالتأكيد أكثر من شهيد.
إنّ الوصول إلى معتقلات عصابة الأسد وأماكن الاحتجاز السرية للمعتقلين المخفيين قسريّاً والاطلاع على حقيقة واقعهم الكارثيّ الذي يرزحون فيه وإطلاق سراحهم، والكشف عن وثائق وسجلات الأجهزة الأمنية ومساءلة المجرمين وتطبيق العدالة، لا يمكن أن يحصل بوجود هذا النظام المافيويّ الطائفيّ الذي يعدّ ممارساته الجرمية ظاهرة طبيعيّة ومألوفة، ومنهجاً لازماً لبقائه ودوام حكمه وسلطته القهريّة. إن الكشف عن المفقودين والمغيبين قسرياً سيبين الأعداد الحقيقية لهم ومصائرهم، وحقيقة الفظائع المرتكبة بحقّ مئات الآلاف من الأرواح المعذّبة ما يعني اعترافاً منه بالمسؤولية، واستعداداً لدفع الثمن عن جرائم التصفية والإعدامات الميدانية خارج نطاق القانون، والقتل تحت التعذيب والتسبب بالعاهات الدائمة والأمراض المميتة والمزمنة وغيرها مما لا سبيل لإحصائه من جرائم الحرب والإبادة والتدمير والجرائم ضدّ الإنسانية التي لا يشملها التقادم ولا سبيل فيها للإفلات من العقاب.
إن أيّة محاولة لكشف الحقيقة والاقتصاص للضحايا وأقاربهم تبدو أقرب للعبث ولا جدوى منها بدون طيّ حقبة الأسد المظلمة، بل إنّ زوال هذه العصابة الطائفية وأدواتها القذرة سيأتي باليوم الذي تكتشف فيه الأمهات مصائر أبنائها، ويعرف هشام أنّ أباه الذي لم يشهد ولادته قد اختفى قسريّاً، وأنّه استشهد نتيجة التعذيب، فقد اعتقلته عناصر الأمن الأسديّ ظنّاً منهم أنّه من المتظاهرين، وأنّ الورود التي كان يحملها كانت رايته في المظاهرة.
قد يختفي السائل أو يموت، أما الأسئلة فتبقى معلقة في ضباب الغياب، مثل سبحة من حبّات الصبّار تتقلّب بين أصابع الوقت، وكأنشوطة تتدلّى وتطبق على عنق العدالة، وتنتظر حضور اليقين.