بورزو درغاهي
أصبح التنديد بمقتل مهسا أميني وكذلك بالنظام الذي سمح بوقوع تلك الجريمة مسألة شرف واعتزاز، وحتى قضية هوية وطنية. فأحد أكثر الفيديوهات المؤثرة التي خرجت من إيران خلال الأيام الـ 10 الماضية تقريباً التي سادها العنف السياسي والاشتباكات الحادة بين المتظاهرين ورجال الميليشيات المسلحة التابعة للنظام، لم يصوّر في شوارع طهران أو سننداج، بل داخل سجن في سراوان، المنطقة النائية في جنوب شرقي إيران.
في ذلك المقطع المصوّر القصير، يظهر سليم الله حسين بور، الناشط الذي ينتمي إلى القومية البلوشية والمقاتل السابق في الحرب العراقية – الإيرانية المسجون بتهم سياسية، وهو يعبّر عن دعمه للاحتجاجات العفوية التي اندلعت في أعقاب وفاة مهسا أميني، المعروفة كذلك باسمها الكردي، جينا.
دخلت الشابة البالغة 22 عاماً، وهي من القومية الكردية، في غيبوبة على نحوٍ غامض ثم توفيت، بعدما اعتقلتها شرطة الأخلاق [الإيرانية]. 35 شخصاً على الأقل كانوا قد قضوا منذ ذلك الحين.
ويقول حسين بور الذي اعتُقل العام الماضي على خلفية نشره مواد مناهضة للنظام على منصات التواصل الاجتماعي وبسبب مزاعم مشاركته في احتجاجات العام 2019 التي عمّت الريف الإيراني: “لا يمكنني أن أتظاهر دعماً لأختنا الكردية لأنني مسجون. ولكن تعبيراً عن احتجاجي، سوف أحلق شعري”.
ثم قام بتناول ماكينة حلاقة وحلق شعره كاملاً، في لفتة تضامن متواضعة مع النساء اللواتي يخلعن الحجاب المفروض عليهن، ويقصصن شعورهن في حركة تحدٍّ علني. ويقول “نحن أمة واحدة. ويجب أن نؤازر بعضنا بعضاً”.
ما يحدث في إيران استثنائي، لحظة ارتقاء سياسي واجتماعي تتخطى الاحتجاجات نفسها وقد تخلّف تبعات عميقة على المجتمع والسياسة في إيران خلال السنوات المقبلة.
إنه فيض من التعبير عن الوحدة يتدفق عبر كافة الأجناس والأعراق والأقاليم والطبقات، على اختلافها. وهي تتضافر دعماً لحقوق النساء والحق الأساس لكل إنسان بأن يحيى بسلام وكرامة، وهو ما تبيّن أنه مستحيل في ظل حكم الجمهورية الإسلامية.
على امتداد عقود عدة، حرم النظام الديني في إيران الناس من حقوقهم الأساس، وليس الحجاب الإلزامي سوى المظهر الأبرز عن كراهيته المتجذرة للمرأة وازدرائه لكرامة الإنسان.
لا يقتصر الأمر على النساء المتشحات بالسواد اللواتي يرتدين التشادور [لباس إيراني تقليدي شبيه بالعباءة] الذي يغطي أجسامهن، والحراس بلباسهم الرسمي الذين يتمركزون عند التقاطعات الرئيسة والمساحات العامة مثل مداخل المتنزهات العامة لمضايقة النساء وأحياناً الرجال بسبب طريقة لبسهم. بل يمتد إلى اللافتات والملصقات واللوحات الإعلانية التي تشدد على أهمية وضرورة ارتداد الحجاب وتلوّث البلاد: فهي تنتشر داخل المدارس والمكاتب وحتى في المقاهي الصغيرة التي يقصدها الإيرانيون طلباً للاسترخاء. كما يمتد إلى من نصّبوا أنفسهم حماةً للأخلاق – ومن بينهم رجال دين اكتسبوا منذ زمن بعيد سمعة بأنهم منحرفون جنسياً – الذين يشعرون بأنهم يتمتعون بحقّ تأديب النساء والفتيات اللواتي لا يلتزمن بمعاييرهم في الفضاء العام.
ولهذا السبب، لم يلق تعهّد الرئيس إبراهيم رئيسي بالتحقيق في وفاة أميني، والعثور على المسؤولين عنها، آذاناً صاغية، بل ربما زاد الأمور تعقيداً. في الحقيقة، لن تسهم التضحية بشرطي أو اثنين مع قائدهما سوى بتشريع المضايقة اليومية للناس العاديين، والشعارات الفارغة، وفرض اللباس الإسلامي. وسيقول النظام “هل رأيتم؟ لا تكمن المشكلة في شرطة الأخلاق، ولا الحجاب الإلزامي. بل في في فساد عنصرين أو ثلاثة”.
جاء رد الفعل على وفاة أميني فورياً وانتشر كالنار في الهشيم. بعد حرمانهم من الاحتكام إلى النظام السياسي أو القضاء أو الإعلام الذي يهيمن عليه الإسلاميون الموالون للمرشد الأعلى علي خامنئي، لم يكن أمام الإيرانيين فعلياً أي خيار غير النزول إلى الشارع والتظاهر.
أصبح التنديد بوفاة أميني والنظام الكامل الذي سمح بحدوث تلك الجريمة مسألة شرف واعتزاز، وحتى هوية وطنية. بحسب تعبير أحد الباحثين، إن القضية المطروحة هي استمرارية إيران كشعبٍ، وليس مجرد أتباع لدولة استبدادية. انتشر الإيرانيون في الساحات والشوارع، وواجهوا عناصر الشرطة وأعوان النظام المسلّحين بالقنابل المسيلة للدموع والعصي والبنادق الهجومية.
لا تزال الاحتجاجات متواصلة، لكن إضافة إلى العنف المتصاعد، قيّد النظام الاتصالات بشكل صارم، فجعل أي محاولة لانبثاق حركة سياسية عن تحرّك سياسي غير محدد المعالم تحدياً هائلاً. عادةً، تسفر الاحتجاجات على الأنظمة الاستبدادية عن انشقاقات في صفوف النخبة، تؤدي بدورها إلى تغيير سياسي، أو حتى إلى انهيار. لكن نظام طهران لم يبقِ داخل صفوفه سوى أشدّ المنبطحين أمام خامنئي والنظام الإسلامي، والمطيعين لهما.
ويرجّح معظم المحللين في إيران، كما أجهزة الاستخبارات الغربية، حتى تلك المتعاطفة بقوة مع المتظاهرين، انخماد الاضطرابات في الوقت الحالي.
إنما يحق للمتظاهرين الموجودين في الشوارع كما أولئك الذين أُزيحوا جانباً، مثل حسين بار الذي حاول أن يكون على قدر المناسبة، أن يعتبروا أنفسهم قد حققوا انتصاراً معنوياً لأنهم دفعوا بالتطور السياسي في إيران قدماً.
يعود النضال الملحمي الإيراني ضد الاستبداد إلى 117 عاماً مضى، إلى زمن الثورة الدستورية التي قامت على الحاكم آنذاك. وعرف طريق الشعب نحو التغيير الديمقراطي مداً وجزراً عبر العقود، إذ اصطدم التجار والملالي وأنصار الملكية والضباط العسكريين والأقليات والطبقات الوسطى ببعضهم بعضاً، أو تحالفوا ضد الآخرين. حصل بعض التقدم، وتبعته إخفاقات – خطوتين إلى الأمام، أعقبهما تعثراً بعد تعثّر إلى الخلف.
سواء نجحت في إحداث التغيير أم لا، لا شكّ في أنّ انتفاضة سبتمبر (أيلول) 2022 الشعبية التي تبعت وفاة أميني، والطريقة التي استقطبت فيها الإيرانيين من مختلف الأطياف للوقوف معاً ستبقى لحظة اعتزاز وفخر في تاريخ أمة ومسيرتها نحو تحقيق الديمقراطية.
المصدر: اندبندنت عربية