للاستبداد معناه ومبناه وأدواته، وللاستبداد المشرقي خاصيته، وممارساته، وشعوب الأمة العربية في مشرقنا العربي كانت ومازالت تعاني من نواتج هذا الاستبداد النازل من فوق على رؤوس العباد والبلاد، وهذا الاستبداد الذي تحدث عنه الكاتب الكبير عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير ( طبائع الاستبداد ) حدد معانيه، وغاص في مكنوناته، وراح يشخص حالاته، ويحدد رؤاه الفكرية، وماهياته النفسية، وكيف ينشأ وكيف يصبح ممارسة يومية تقمع الناس وتنهي الوجود البشري والإنساني، حيث كانت له توصيفاته التي ما زلنا ننهل من معينها حتى اليوم وكأنها معايشة معنا بعد كل تلك السنين التي مضت منذ الكواكبي وحتى الآن فقد استقرأ المستقبل وعرف كيف يكون للاستبداد طبائعه .
ويبدو أن الكواكبي كان تاريخانياً في تفكيره، ومستقبلياً في قراءاته، إلا أن ما نعيشه هذه الأيام من حالات من العسف والقهر والعنف الاستبدادي المتجاوز لكل محددات الهدر الإنساني، قد فاق كل التوقعات، وتخطى كل أنواع الطبائع للاستبداد المشرقي الذي تحدث عنه جمال الأتاسي فيما بعد .. فالدمار والخراب للبنية التحتية، ومن ثم إنهاء الوجود البشري للناس، وسحق الحياة نهائياً، وتجييش الناس باتجاه الموافقة على الاستبداد ونواتجــه.. يخرجنا إلى ثقافة استبدادية لم نعهدها من قبل بل لن نكون بين ظهرانيها في المستقبل والمضارع، وهي ما سوف تسبب أزمة كبرى للمثقف العربي والوطني، وكذلك أزمة للمجتمع برمته، إذا ما استمرت الممارسات الاستبدادية كما هي الآن دون النظر إلى الأسئلة الصعبة التي تنبثق في مثل هكذا حالات وفي مثل هكذا انتهاكات.
لقد تحدث عبد الله العروي في كتابه ((ثقافتنا في ضوء التاريخ)) عن هذه الأزمة قائلاً (( إن أزمة المثقف انعكاس لأزمة مجتمعه .. لكن المثقف عامل فعال في المجتمع، يستطيع إما أن يخفف من الأزمة المجتمعية بدراسة أسبابها وإظهار سبل الخروج منها، وإما أن يضعفها بأزمة ذاتية تهمه هو ويلهي بها ذهنه وأذهان قارئيه..) ويضيف: (( من الواضح أن المثقف العربي غير راضٍ عن الأوضاع التي يعيش فيها، وكل ما يكتب من شعر أو قصة أو مقالة أو رسالة، يتسم بالنقد أو بالثورة على أنماط الحياة العربية، … إن ضعف واستلاب المجتمع العربي .. يثور المثقف المحدث على مظاهر التفكك والتناثر ويثور المثقف التقليدي على مظاهر التبعية والاغتراب .. وكثيراً ما تتداخل الثورتان حسب ظروف هذا البلد أو ذاك، مظاهر تستوجب السخط كالفقر، الجهل، الفوضى الإدارية، الرشوة، انخفاض الإنتاج، عفوية التوزيع، لكن هذا يرجع إلى الضعف والتبعية، والرهان الناصع على أن العرب لا يتحكمون في مصيرهم، هو تمكن العرب من تحويل الأزمة الطاقية إلى أزمة نقدية تنقص يومياً من الثروة العربية.. ويقود البؤس كثيراً من المثقفين إلى اليأس.
ولكن في أكثر الحالات يتحول الفهم العلمي عند المثقف في تصديه لفعل الاستبداد إلى فلسفة الاستبداد .. وبالتالي الحديث عن منتجات الاستبداد وتفردها وهو ما يسمى بالطغيان والطاغية.. يقول (أرسطو) : (إن الطغيان صورة من صور الحكم الفردي عندما يتحول إلى حكم سيء ينفرد فيه صاحبه بالسلطة دون حسيب ولا رقيب .. فلا يكون هناك قانون يحكم بل إرادة الفرد ).
وهناك ثلاثة أنواع للطاغية تتدرج كما يلي :
1- الدكتاتور الذي يختاره الشعب للقيام بمهام معينة ولفترة محددة على نحو ما حدث عند الإغريق في فترة مبكرة من تاريخهم، وهو ما يمكن أن نسميه بلغتنا الحديثة ” الحاكم العسكري العام” .
2- النظام الملكي المطلق الموجود عند ” البرابرة ” على نحو ما هو موجود مثلاً في الإمبراطورية الفارسية، حيث تجد سلطة الملك مطلقة لا يقيدها عرف ولا قانون، وهذا الضرب من الحكم يقول عنه ” أرسطو” إنه ( نصف ملكية، ونصف طغيان) .
3- هو ما يفهم عادة من هذا المصطلح، وهو الذي يستحق فعلاً هذا الاسم، فالحاكم هنا يحكم حكماً مطلقاً بلا رقيب ولا حسيب ولا مسؤولية، ولأهدافه الخاصة وحدها، وهنا الحاكم لا يكترث لشيء سوى صالحه الخاص .. ذلك هو الحكم الفردي الذي يتسلط فيه الطاغية بلا مسؤولية على مواطنين أنداد له، بل قد يفضلونه، ويتولى فيه السلطة لمصلحته الشخصية لا لمصلحة المحكومين، بل دون أن يهتم أدنى اهتمام بمصالحهم الشخصية، وهذا ما يجعله حكماً بالإكراه، إذ لا يخضع أحد من الأحرار طوعاً لهذا الحكم .
أما ( جون لوك ) فيعرف الطاغية بقوله ( إذا كان الاغتصاب هو ممارسة إنسان ما لسلطة ليست من حقه، فإن الطغيان هو ممارسة سلطة لا تستند إلى أي حق، ويستحيل أن تكون حقاً لإنسان ما ) .
ويقال بأن الطاغية قد يلجأ إلى إشاعة الفوضى و البلبلة والاضطراب، حتى يشعر الجماهير بحاجتها إليه وحمايتها من طبقة الأغنياء التي تستولي على حقوقها .
ويتصف الطاغية بعدم الثقة في الشعب، ولهذا يفزع من حمله للسلاح، وهكذا يلجأ إلى إيذاء الناس، متفقاً في ذلك مع الأوليجاركية التي يأخذ أسوأ ما فيها … كما يقف الطاغية من المشاهير والأعلام موقف العداء ويضع الخطط السرية والعلنية للقضاء عليهم، أو الإيقاع بهم وتشريدهم، كخصوم سياسيين ومناهضين للحكم، ذلك لأنه يعلم تمام العلم أن الثورات ضده تخرج من صفوف هؤلاء القوم فبعضهم يقف ضده لأنهم لا يريدون أن يكونوا عبيداً للطاغية .
ويرى البعض أن المعيار الذي يميز حكم الطاغية هو انعدام الرأي الآخر، ولهذا فإن جميع أنظمة الحكم غير الديمقراطية هي أنظمة طغيان أو استبداد بطريقة أو بأخرى، ولهذا كرهت الفاشية النظم الديمقراطية كراهية شديدة .. إن المجتمع الذي يرتبط فيه الشعب بالزعيم القائد بحبل سري، يتنفس كلما تنفس شهيقاً وزفيراً هو مجتمع يحكمه طاغية بغض النظر عما يفعل .. وهذا الطغيان وحكم الطغاة، والحكم المستبد كان قد تطرق إليه المفكر ” إلياس مرقص” مدرجاً الاستبداد أيضاً في أتون شيوعية الدولة وحكم ديكتاتورية البلشفة الماركسية .. حيث يقول : (( اشتراكية الدولة أو شيوعية الدولة هي كما وصفها ماركس مساواة الناس في العبودية، المساواة السوادية هي الاستبداد وأساس العاهل المستبد ,وأساس الاستبداد الشرقي )) ثم قال : ( إذا حذفنا الليبرالية فإننا سنعيد إنتاج الاستبداد ونحن ننادي بالديمقراطية ) .
والحقيقة فإنه وضمن هذه المقاربة الأولية لمسألة الاستبداد المشرقي بكل تلاوينه مروراً بالطغاة وعصر الطغاة، وفكرة الطاغية، يتبدى الوضع الوطني والعربي برمته كمحصل موجود لبعد إجرائي آسن ، يدور في فلك الاستبداد والهدر الإنساني للناس كل الناس، ويعوم أفكاراً غاية في التأخر، تغوص في فلك من المحق البشري، الذي يمارس الاستبداد بكل ما يمكنه ذلك، عبر الملموسية القمعية الفاجرة، حيث يصل حد الاستبداد والطغيان حافة الفجور في الممارسة اليومية لآلة القمع النازل فوق رؤؤس العباد والبلاد، بأدوات وحالات لم يعرف التاريخ لها مثيلاً أو مشابهاً، ولم يستطع العقل البشري أن يتحمل هول هذا الفجور من القمع والنهب والسلب والهدر الذي يمارس بصفته الحالة المستبدة التي تزيح قيمة الطفولة إلى مهاوي لا أحد يعرف مؤداها وتندرج في سياق الاستبداد ذاته في مبناه ومعناه .