أحمد دغاغله
الانتفاضة الجديدة في إيران تتسم بالنفس الطويل مقارنة بسابقاتها، وهي تتوسع بشكل منقطع النظير، ولذلك تمّ وصفها بأكبر تحدّ يواجهه النظام الإيراني خلال العقود الأربعة من عمره، فما أن تهدأ مدينة بفعل القمع حتى تشتعل أخرى وكأنها نار في الهشيم تتنقل من منطقة إلى غيرها وبين فئات مختلفة طوال الأسابيع الثلاثة الماضية.
الظروف الاجتماعية المهتزة في إيران تنبئ بتغييرات كبيرة على أكثر من صعيد، فبحسب معطيات الشارع الإيراني أن الغالبية المطلقة من الشعب مستاءة ممّا هو عليه البلد من استبداد مطلق وسوء إدارة فاحشة وتراجع اقتصادي رهيب، فأصبح هناك إجماع كبير في المجتمع الإيراني على ضرورة الإطاحة بالنظام تحت شعار “المرأة، الحياة، الحريّة”.
حلبة الصراع بين الجماهير الغاضبة والنظام تفتقد هذه الأيام لعدد من أهم لاعبيها وهو غياب يؤجل لحظة اكتمال الانتفاضة القائمة، ومن بين الغائبين أولئك الملايين من الشعب العربي الأحوازي في جنوب وجنوب غربيّ إيران، حيث يشهد التاريخ الحديث مساهمات فاعلة ومؤثرة للأحوازيين في ساحة التفاعل السياسي في هذا البلد.
خلال السنوات الماضية كانت احتجاجات المعلمين والمزارعين والعمّال لا تفارق شوارع الأحواز، حيث شهد الإقليم انتفاضات شاملة عمّت كل المدن ومنها انتفاضات، الجليزي (2018)، الكرامة (2019)، الفيضانات (2019)، وانتفاضة العطش (2021)، وهذا الحراك المستمر هو الذي وضع الأحواز في مقدّمة مقارعيّ النظام في حلبات الصراع.
سبب تأجيل الأحوازيين لمساهمتهم في الانتفاضة الحالية هو السؤال الذي يطرح نفسه بكل الحاح: أليس الأحوازيّون هم أكبر المتضرّرين من هذا النظام؟ أليست هذه هي الفرصة التي كانوا ينتظرونها ببالغ الصبر؟ أم يمكننا القول إن الأحوازيين عزلوا حساباتهم من المجتمع الإيراني سواء في السرّاء أم في الضرّاء؟
الأحواز كعب أخيل النظام
الأحواز إقليم عربي في الضفة الشمالية من الخليج العربي، في جوار العراق وضمن جغرافية إيران الحالية. الإقليم له موقع استراتيجي بالغ الأهميّة ويسكنه الملايين من العرب (ليست هناك إحصاءات رسميّة) ولهؤلاء تجارب صداميه حادة مع الحكم المركزي في إيران طوال العقود العشرة الأخيرة ما جعل من الإقليم منطقة أمنيّة بالغة الحساسيّة.
وجود أنهار ستة في إقليم الأحواز جعلته صاحب أكبر نسبة من الثروة المائيّة في جغرافية إيران المعروفة أصلاً بشح المياه ومعاناتها من الجفاف. كما أن الأحواز هي المنتج الأول للقمح والكثير من المحاصيل الزراعيّة الأخرى، فهي صاحبة الكنز الذي تحيا عليه إيران، وهي منطقة حيويّة لا تتحمّل أي مجازفة بالنسبة إلى الحكم المركزي في إيران.
وفي الأحواز ثاني احتياط للغاز الطبيعي في العالم (عسلوية) و90 في المئة من ثروة إيران النفطيّة وتحتوي على معظم المنشآت البتروكيماوية وأهم موانئ إيران التجارية، وفيها أكبر مشروع انتاجي في تاريخ إيران الحديث (قصب السكر). وفضلاً عن هذا كله فللشعب الأحوازي ملاحظات بنيويّة على كيان إيران الحديث، وفي مجمل القول إنها سمات تجعل من هذا الإقليم كعب أخيل قد يكون سبباً رئيساً للقضاء على هذا النظام.
يقول الكاتب كريم حبيب: “من يقرأ عن ثورة 1979 في إيران يجد أن الإضرابات التي شهدتها الأحواز في قطاعات النفط والغاز والبتروكيماويات في ذلك الوقت، هي التي شلّت قدرة النظام السابق وحوّلت الحراك الإيراني لشأن استوجب تدخل القوى العظمى للحيلولة دون تأثر تدفق الطاقة الإيرانية إلى الأسواق العالمية، فإن كرّر التاريخ نفسه ثانية سوف يضيف انضمام المدن الأحوازية إلى الانتفاضة الإيرانية القائمة نقلة نوعية تضعف موقف النظام إلى حد كبير”.
العامل الطبقي
انطلقت انتفاضة إيران الحالية من طهران وهي المركز والعاصمة وكانت شعاراتها تتمحور حول الحريات الفردية وعلى رأسها الحجاب، فأحرقت المناديل والشالات وقُص الشعر رداً على قمع شرطة الأخلاق، أما الاقتصاد والفقر المدقع والبطالة والغلاء والتضخم الرهيب، فما كان لها سوى الحظ اليسير جداً من الهتافات، إذ إن الحقيقة التي لا تخفى عن واقع إيران الاجتماعي هي وجود الطبقة الفاحشة الثراء والتي تجعل التفاوت كبيراً في المطالب بين مختلف شرائح المجتمع الإيراني.
يقول أستاذ علم الاجتماع عقيل دغاغلة في حديث الى “النهار العربي” إن “نظرة على الحراك الأحوازي خلال السنوات الماضية تظهر بوضوح أن الهوية وضرورة الدفاع عنها وكذلك الاقتصاد وكل ما له صلة بالظروف المعيشية سواء أكان الغلاء أم سلب الأراضي أو نقل المياه الذي يتسبب بالجفاف وتعطيل الزراعة، شكلت الدوافع الرئيسية وراء الاحتجاجات السابقة التي شهدتها الأحواز، ومن الواضح أنّ معظم هذه الدوافع غائبة من شعارات انتفاضة إيران اليوم”.
نادني باسمي
أستاذة علم الاجتماع آيدا نيكو تحدثت الى “النهار العربي” أرجعت غياب الأحوازيين إلى فقدان جسور التواصل بين مكوّنات المجتمع الإيراني، قائلة: “ليس في شعارات هذه الانتفاضة ما يشدّ الأحوازيين، فقد سبق أن دفع الأحوازيون أثماناً باهظة في مواجهتهم النظام ومع ذلك ما زالت تكمن في الأحواز طاقة شعبيّة كبيرة لمواجهة النظام، ولمن يلقي نظرة على ما رفع من شعارات في هذه الانتفاضة عليه أن يلاحظ الغياب الكبير لمطالب شرائح مختلفة من المجتمع الإيراني”.
وأضافت آيدا: “نحن كشعب في الغالب عنصريّون بشكل لا يطاق، إذ أني كباحثة استشعر بوضوح وجود مقاومة متعمّدة وأحياناً لا إراديّة عند نشطاء المدن المركزية للحيلولة دون تخصيص حيّز من الشعارات للمطالبة بحقوق الأقليّات والشعوب غير الفارسيّة، وفي الأغلب نستكثر على هؤلاء حتى ذكر أسماء مدنهم وأعراقهم، وإن استمر الوضع على ما هو عليه، فلا يمكن أن نتوقع مستقبلاً جيداً”.
لا بكاء للأحواز
“عدد قتلى البلوش في مدينة زاهدان في يوم واحد فاق مجموع ضحايا الانتفاضة الإيرانية خلال أكثر من عشرين يوماً”… بهذه المقارنة بدأ الكاتب عباس الكعبي حديثه مع “النهار العربي” قائلاً: “إن شدّة قمع النظام تختلف من مكون اجتماعي إلى آخر في هذه الجغرافيا، وقد يثير استغراب المتابع لو علم أن عدداً كبيراً من المساهمين في انتفاضة الأحواز في عام 2005 ما زلوا يقبعون في سجون النظام”.
وأضاف الكعبي أن “الأحواز لا بكاء لها، ففي إيران التمييز العنصري على أشدّه، إذ حتى التعاطف مع الضحايا مختلف هناك، وكمثال على هذا الواقع، مجزرة مدينة معشور الأحوازية عام 2019 والتي راح ضحيتها العشرات من الأحوازيين، وعلى الرغم من ذلك تتجاهل معظم منصات إعلام المعارضة الإيرانية ذكر أسماء الضحايا”.
القرار المؤجل
يقول الناشط السياسي الأحوازي، عبدالرحمن الحيدري: “إنّ قرار الأحوازيين ومعهم شرائح أخرى كبيرة من المجتمع الإيراني مؤجل إلى أن تتبلور بعض ملامح المستقبل، فالظن الغالب عند الأحوازيين هو أن الثورة ستكون باهظة الثمن وينبغي عليهم مراجعة حساباتهم أكثر من مرّة قبل النزول إلى الشارع”.
ويضيف الحيدري أن “الأحوازيين ما زالوا يعيشون حالة ترقب للساحة الإيرانية، وقد يترتب على هذا التأجيل مكاسب للأحوازيين ومنها إيصال رسالة للقوى المدنية في المركز عن ضرورة إدراج مطالب الشعوب والأقليات ضمن مطامح الثورة المرتقبة”.
المصدر: النهار العربي