محمد أمين الشامي
كان عنوانًا لكتاب يتناول سلاح الرَّدع النَّووي الإسرائيلي ودوره في الصِّراع الوجودي على اعتباره النَّقلة الأخيرة في اللُّعبة قبل كش مات. ويحمل العنوان رمزيّة تاريخيّة أسطوريّة عند اليهود عندما قرَّر شمشون هدم المعبد بعد اكتشاف الخيانة والمقولة الأخيرة الَّتي تنسب إليه “عليَّ وعلى أعدائي”. وقد ارتأيت استعارة العنوان في هذا المقال لتشابه توجُّهات الفاعلين مع فروقات المكان والزمان والعدو المفترض.
منذ أن أطلق الأسد الأب خطَّة التوازن الاستراتيجي والعالم كله يعلم أن المقصود بها ليس امتلاك سلاح ردع يقف في وجه السِّلاح النَّووي الإسرائيلي من جهة التَّأثير، بل امتلاك سلاح يكون الحركة الأخيرة في إنهاء أي صراع قد يتفجَّر بين النِّظام ومعارضين متوقَّعين افتراضًا، فإذا ما دانت الغلبة لهم وعجز عن صدِّهم، استعمله بلا توانٍ بغض النَّظر عن النَّتيجة وتبعات استخدامه، ونعني به السِّلاح الكيماوي.
ولم يكن الأسد الابن ببعيد عن هذه الاستراتيجية وتوقيت استعمالها، لكنَّه حوَّل السِّلاح من نطاق الرَّدع إلى نطاق التَّرهيب مع عجز ميليشياته عن إخماد الثَّورة الّتي انفجرت في وجهه، ليضع خطَّة الأب المخفيّة موضع التَّنفيذ الأمين، وليطبِّقها فعليًا وبأبشع الصُّور على أعداء النِّظام وليس على أعداء الوطن، وهو موقن أنَّ أحدًا لن يمانع أو يعارض أو حتّى يهتم.
بلغة الأرقام الّتي تتحدَّث بلسان الإحصاءات، استعمل النِّظام السِّلاح الكيماوي أكثر من 140 مرَّة في هجمات استهدفت مناطق سيطرة الثُّوّار، حيث استخدم غاز السارين في خان العسل بحلب على نطاق ضيّق، فقضى 20 شهيدًا نتيجة لذلك، وقد أخبرني الطَّبيب الشَّرعي الَّذي عمد إلى تشريح إحدى الجثث بإصابته بالإغماء بعد فتح الجثَّة للفحص. وكان من بين الإصابات عناصر تابعة للِّنظام نفسه تجهيزًا لخطَّة تأليب الرَّأي العام على الثّوار واتِّهامهم باستخدام السِّلاح المحظور. ثمَّ كانت مجزرة الغوطة الشَّرقية في 21 أغسطس/آب 2013 الّتي أدَّت إلى استشهاد ما يقارب 1500 ضحيّة وإصابة أكثر من خمسة آلاف آخرين. وهنا سأقف قليلًا للتَّذكير بموقف الدَّولة الأعظم من هذه المجزرة.
بداية تسبَّبت هذه المجزرة بإدانة عالمية من قبل العديد من المنظَّمات المستقلّة وستٍّ من حكومات دول كبرى. وانتظر السّوريون والعالم موقف أوباما منها، ليأتي هذا الموقف هزيلًا مهلهلًا وكأنَّه يقول للنِّظام اضرب لكن لا تتجاوز الحدود. ففي خطابه إلى الشَّعب الأميركي أعلن أوباما أنَّ النِّظام “استخدم السِّلاح الكيماوي ضد شعبه ممّا أدّى إلى مقتل أكثر من ألف إنسان”، معتبرًا إيّاها “جريمة ضد الإنسانية وتذكِّر بفعل النّازية في القرن الماضي في أوروبا”. كما اعتبر أنَّ استخدام هذا السِّلاح يشكل خطرًا على أمن الولايات المتحدة والعالم، وأكّد أنَّ توجيه ضربة لهذا السِّلاح سيحقِّق حماية لحلفاء أميركا في المنطقة: تركيا والأردن وإسرائيل.
إلى الآن كان الأمر يسير بشكل منتظم –بل ومشوِّق- في انتظار اللَّحظة الحاسمة من العرض، ليأتي المطب الأوَّل بترحيبه بحل ديبلوماسي للمسألة بضمانات دولية للتَّخلُّص من السِّلاح الكيماوي، ثمَّ تلاه مطب آخر حين أعلن حرصه على محدوديّة الضَّربة مكانًا وزمانًا، مؤكِّدًا أنَّها لن تهدف إلى إسقاط النِّظام بل ستدمِّر السِّلاح فقط! وبذلك أنار له الضَّوء الأخضر، ليلتقط النِّظام الإشارة ويستوعب المسموح والممنوع من الأهداف، فيعمد إلى استخدامه في حمص بتاريخ 23 ديسمبر/ كانون أول 2013، وفي سراقب بتاريخ 29 ابريل/نيسان 2014 وفي كفرزيتا بحماة من الشَّهر نفسه، وفي عربين في فبراير/شباط من عام 2016، وفي خان شيخون في نيسان من عام 2017 ممّا أوقع أكثر من مائة شهيد وفي في دوما في نيسان من عام 2018 بحيث أدّى هذا إلى استشهاد 150 مدنيًّا وإصابة المئات بحالات اختناق.
وفي كلِّ مرَّة تكتفي المنظمات بنشر تقاريرها بشأن استخدام السِّلاح الكيماوي واتِّهام النِّظام بذلك، وفي بعض الأحيان دون تسمية مرتكب الجريمة. ففي فبراير/شباط 2014، أصدرت لجنة تقصّي الحقائق التّابعة لمجلس حقوق الإنسان بيانًا يؤكِّد استخدام النِّظام لغاز السارين في مناسبات عدّة. وفي أكتوبر/تشرين أول من العام نفسه أكَّد مجلس حقوق الإنسان التّابع للأمم المتحدة استخدام الكلورين في براميل متفجِّرة استهدفت كفرزيتا. وفي مطلع أبريل/نيسان 2015، أصدرت الأمم المتَّحدة بيانًا يحمل الرقم 2209 يدين استخدام النِّظام للكلورين ويهدِّد باستخدام إجراءات تحت البند السّابع “إذا استمر” استخدام الكلورين! وفي ابريل/نيسان 2015، نشرت منظمة هيومان رايتس وتش تقريرًا يتِّهم النِّظام باستخدام عناصر كيماوية في هجمات على إدلب. ثمَّ؟ كالعادة: لا شيء، فبين تلكُّؤ القوى الغربية وتغوُّل روسيا وإيران والقلق على مصير إسرائيل مما يحدث في محيطها وظهور اختراع داعش، ماعت الأمور وتاهت في أروقة الحلول المشلولة والطروحات الغائمة واجتماعات اللَّقطات والشّاي والكيك انتظارات الشَّعب لموقف رادع وازن على مستوى العالم لجلب المجرم إلى المحكمة الدَّولية كما شهدنا مع الرَّئيس الصِّربي سلوبودان ميلوشيفيتش، أو التَّدخل لإسقاط النِّظام كما رأينا في العراق، أو دعم الثُّوار بأسلحة استراتيجية تميل الكفة لمصلحتهم وتنهي هذه المهزلة كما شهدنا من أميركا مع احتلال قوّات الاتِّحاد السّوفياتي لأفغانستان، لكن بقي كلُّ ما أسلفنا في إطار الأوهام.
انتظرنا تحديد النِّهاية المرجوة فكان العمل على تعويم النظام، وتوقَّعنا إنهاء المأساة فشهدنا انتهاء نصف الشَّعب لجوءً وغرقَا وقتلى عنصرية وتشرُّدًا، وبات الخوف أن تتم إدانة الضَّحايا من الأحياء على مبدأ “ضربني بوجهه على كفِّ يدي يا باشا”.
المصدر: إشراق