تمر هذا الشهر أيار/ مايو الحالي الذكرى 200 لولادة المفكر العالمي كارل ماركس. الشخصية السياسية والفكرية الكبرى، التي أثرت في مجرى العالم فكريًا وسياسيًا، لا شك في ذلك، سواء بشكل إيجابي، أو بشكل سلبي، ماركس له ماله وعليه ما عليه، والسوريون من جهتهم كان لهم باع في ذلك. اليوم وبعد مرور 200 عام على ولادة هذه الشخصية الأممية، حاولنا سؤال بعض الكتاب والباحثين السوريين من أصول ماركسية، وممن كان لهم الباع الكبير في اعتناق الفكر الماركسي والاشتغال عليه، لنقف على آرائهم حول ما تبقى من الماركسية، وماذا بقي منها في الواقع السياسي العالمي، وكذلك السوري؟ وهل كانت الماركسية (أساسًا) مواتية للحالة السياسية والمجتمعية السورية، في بيئة سورية ذات ملمح إيماني؟
الباحث الدكتور عبد الرزاق عيد تحدث إلينا في هذه المناسبة بقوله: ” الماركسية سياسيًا لم يبق منها سوى فضاءات الفكر اليساري والليبرالي العالمي، بما فيها حركات الاشتراكية الديموقراطية الأمريكية والأوربية، لأن التاريخ لم يقدم بديلا عن ماركس كرمز عالمي لتيار اليسار كونيا.
روسيا ومآلاتها ليست مثالا لأنها اكثر نموذج كان يخشى منه ماركس ( الموجيكية الروسية) التي كانت ستطفئ أنوار العالم قبل ظهور نخبة الديموقراطيين الروس (رتشير نيشفسكي صاحب كتاب ما العمل الذي سمى لينين كتابه باسمه)، أما الماركسية كمنهج في الفكر والتحليل ورؤية العالم، فمنذ دخولي الأجواء الأكاديمية للسوربون في أواخر الأربعينات ، وجدت نفسي أتفق مع الأطروحة الأكاديمية المتداولة حينها ، وهي أن ( ماركس فاتح قارة التاريخ) مثله مثل فرويد فاتح ( القارة النفسية للاشعور البشري ، مثل دارون مكتشف قارة الطبيعة ) وأنا منذ هذه الفترة أتابع منجزات هذه المدارس الثلاث اليسارية بوصفها رؤوس مثلث العقل الحديث، الذي لا يمكن للفكر الإنساني أن يتنفس هواء العصر قبل امتلاكهم معرفيا ، وعلى هذا علينا أن نفكر بعدهم عبر مواصلة تراكم مسالكهم ، وإلا فإن العقل الإنساني ستبقى فيه فجوة، إذا فكر ما قبلهم . والمشكلة ليست بمناسبة هذه الرؤية أو تلك لهذا الواقع أو ذاك، وإنما في قدرة العقل الإنساني على إعادة انتاج النظريات من خلال انتاج وعي المطابقة مع الواقع، (دوران الأحكام بدوران العلل) وفق ما أبدع هذه المقولة أحد مفكري العقل الإسلامي من الألمعيين”.
أما الكاتب السوري محمود وهب فقال مجيبًا على سؤال جيرون “لا أعتقد أنَّ شيئاً ما تبقى من الماركسية في الشأن السياسي العالمي والسوري، لا لأنَّ الماركسية كفلسفة تناولت الفكر المادي والاجتماعي وأثْرَت الفكر العالمي، قد فقدت قيمتها، بل لأنَّ السياسيين على اختلاف توجهاتهم، والمتحزبين منهم على وجه الخصوص، غالبًا ما يفصِّلون الإيديولوجيا من أفكار ومعتقدات على حجوم مصالحهم تمامًا. ثمَّ إنَّ الكثير من السياسيين لا يعيرون الفكر الأهمية المطلوبة. ولم تحترم الأحزاب الشيوعية ولا الاشتراكية الأخرى مثقفيها، ولعلنا نذكر تصنيف لينين للمثقفين، وهو المثقف السياسي الأكبر، إذ وضعهم في خانة البرجوازية الصغيرة متذبذبة المواقف!” لكنه أكد أيضًا أن ” الماركسية من جهة أخرى قد فعلت فعلها في الشأن العام، وبخاصة في العالم الرأسمالي إذ شكلت الماركسية للرأسمالية العالمية كابوسًا مرعبًا على مدى قرن من الزمان إذ إن معظم العاملين في الفكر والفن في القرن العشرين كانوا من أنصار الفكر الماركسي، ما دفعها لإجراء إصلاحات شاملة على أنظمة العمل، انعكس إيجابيًا على حياة العمال، وزيادة إنتاجيتهم، وبإيجاز يمكن القول: إنَّ أحد أهم مطالب العمال الاشتراكيين المتأثرين بفكر ماركس هو تحديد يوم العمل بثماني ساعات في اليوم، إضافة إلى يوم عطلة لكل أسبوع. إنهم اليوم يعملون أقل من ثماني ساعات في الكثير من البلدان الرأسمالية ويومي عطلة في الأسبوع إضافة لضمانات صحية وتأمينات تقاعدية، وسوى ذلك الكثير. هذا على الصعيد المادي الحياتي. أما الماركسية كفلسفة فما تزال تلهم الثقافة بألوانها كافة. ولعل أهم مكوناتها، أعني “المادية الجدلية” لا تزال راسخة تدحض بقوة الأفكار الأخرى التي لا تتوافق وعقل الإنسان ومنطق الحياة.” أما ما يتعلق بالشأن السوري، فقال ” كانت الماركسية ملهمًا للسياسيين المؤمنين بها في نزوعهم نحو تحرر بلادهم واستقلالها السياسي. في التطبيق العملي في البلاد العربية كافة، ليس هناك من تجربة شيوعية خالصة لنحكم عليها، وما جرى في هذا البلد العربي أو ذاك ما هو إلا محاكاة لنحو أو آخر لتجارب البلدان الاشتراكية دونما دراسة علمية. ولعلَّ مقتلها جميعًا كان في تغييب الحريات العامة.”
أما الكاتب السوري محمد صالح فقال لجيرون ” ماركس كان المحطة الأهم بتاريخ الاقتصاد في العالم وكتابه رأس المال كان يعتبر قفزة نوعية بالدراسات الاقتصادية عندما تحدث عن الأجور والأسعار وفرق القيمة الذي يساهم بالإنتاج. وماركس حاول تفسير التاريخ من وجهة نظره مع الحلم بالمخلص، كما هي كل الأديان وكل الأفكار الاصلاحية الأخرى، وكانت البروليتاريا هي المخلص المنتظر لديه في نهاية المطاف ” وأردف صالح قائلًا ” أرى أن تلك النظرية ستبقى موجودة بالمجتمعات كافة، كما بقيت كل النظريات المجتمعية السابقة له ، لم تكن حزبًا مكتملًا لتناسب هذا المجتمع أو ذاك، انما أتى من يعمل عليها في بعض المجتمعات لينين في روسيا، وماو في الصين، وهوشي منه في فيتنام، وغيفارا وكاسترو ووو…لكننا في سورية استعرنا الفهم اللينيني والذي هو فعليًا ستاليني، ولم نستطع أن نطور فهمنا، بما يلائم الوضع السوري، وجميع الأحزاب الشيوعية العربية كانت لينينية، لم يكن هناك حزب ماركسي عربي طور أدواته بنفسه. ويمكن لمفكر ما أن يطور ذلك، ويمكن أن يضيف معارف أخرى حصلت بعد رأس المال ليشكل حالة سياسية ناجحة، وأعتقد لا أحد يستطيع تجاهل ماركس”.
أما الباحث السوري ماجد علوش فله رأي مختلف حيث قال ” الماركسية نظرية في المعرفة أولًا ونظرية في الاجتماع الاقتصادي والسياسي ثانيًا، وإذا كانت كذلك فان فاعليتها مستمرة بوجود الناس. مثلها مثل كل نظريات المعرفة التي أنتجها الفكر البشري خلال مسيرته. تبقى في الجوهر ويعاود الانسان الرجوع إليها والاستفادة منها تبعًا للتبدلات الموضوعية، وهو ما يشكل الجواب على السؤال: ماذا بقي منها في الواقع السياسي العالمي، أي هي ليست نظرية في السياسة بل في المعرفة أساسًا. ” لكنه أكد كذلك أن ” الكارثة التي تعرضت لها الماركسية هي تحولها من نظرية في المعرفة أي علم قائم على أصول العلم المتعارف عليها، إلى عقيدة مشابهة للعقائد الدينية، أي نصوص ثابتة تطبق خارج المكان والزمان، مما أفقدها حيويتها ثم تَحَوُّلها إلى عقيدة سلطة في الاتحاد السوفياتي السابق، والدول الحليفة له الأمر الذي شوهها من جهة وحملها أوزار السلطة من جهة ثانية، وعطَّل إمكاناتها الحركية كسلاح في يد الطبقة العاملة في معاركها من أجل الحقوق. وإذا كانت الماركسية نظرية في المعرفة وسلاح نظري بيد العمال فهي صالحة للاستخدام في كافة المجتمعات، لأن العلم النظري يتجاوز الحدود القومية والثقافية، أي صالحة للاستخدام في سورية، كما في غيرها بشرط أن يتم توطينها أي المزاوجة بينها وبين الواقع المحلي، وهو ما فشلت به الأحزاب الشيوعية السورية والعربية عامة لتبعيتها للتصور الستاليني والسوفياتي”.
المصدر: جيرون