سمير التقي
في حرب لا رابح فيها، تستطيع أوكرانيا أن تكون أقل الخاسرين. تستطيع الانتصار عسكرياً لتحل الصراع، لتدفع الروس وراء خط 24 شباط (فبراير)، وربما استرجاع كل الأراضي المحتلة منذ 2014، بما فيها القرم.
وفي كل الأحوال، يعود الفضل في انقلاب الموقف الاستراتيجي لشجاعة الرئيس زيلينسكي وفريقه. فبعدما كان بوتين يراه “مجرد ممثل يهودي كوميدي”، نزل إلى الشارع ليقول “نحن باقون”، وكاد يُقتل مرات عدة، لكنه أرغم الغرب على التوحد وعلى دعمه. وبقي هو ورفاقه في “الميدان”.
شتاء أوكرانيا لن يوقف الحرب، لكنه سيبطئها. وسيكون وضع المدافعين، سواء أكانوا روساً أو أوكرانيين، أفضل من المهاجمين، الذين ستصعب الحركة عليهم. لكن، لعل بوتين يراهن على الربيع التالي لتهيئة الاحتياط ويدفعه للهجوم من جديد. فهل سنرى هذا الشتاء صورة مشابهة لستالينغراد، حيث يحاول الروس الصمود في طقس قارس وفي مواجهة تقدم أوكراني بطيء؟ وعلينا أن نراقب كيف ستكون حال وكفاءة هذا الاحتياط الذي سيلقي به بوتين في المعركة.
وبالمقابل، لا خوف في هذا السياق من بيلاروسيا. فالملايين العشرة لسكانها، لديهم جيش ضعيف للغاية، لن يقدر على حشد يزيد تقديراً عن 15-20 ألفاً على الجبهة الشمالية الغربية. وجل ما يمكنهم فعله، تشتيت بعض الانتباه.
يبقى احتمال انقلاب داخلي في روسيا قائماً، ولكن متى سيكون ذلك؟ الأمر مرتبط بتحولات الوضع في الحرب. فمثل صدام 1991، انتهى بوتين تاريخياً، فيما يقود بلاده نحو جدار أصم. ورغم ما نقلته “الواشنطن بوست” من أن الاستخبارات الأميركية أخبرت الرئيس بايدن أن بعض مراكز القوة داخل الكرملين، قد بدأ يعترض على مواقف بوتين، لكن ذلك لا يعني أن الحرب ستنتهي، بل لعلها تدخل في دورة جديدة.
وفي كل الأحوال، ليس من مصلحة الأوكرانيين بأي حال مهاجمة الأراضي الروسية. حربهم، في جوهرها، لتحرير أراضيهم في مواجهة غزو غاشم. الهجوم على الأراضي الروسية سيغيّر بعمق من طبيعة الحرب، وسيحولها بالنسبة للروس ولغيرهم إلى حرب روسية دفاعية مشروعة.
وبالرغم من أن كسر إرادة الجمهور العام للمدنيين يكمن في صلب العقيدة العسكرية الروسية، كما فعلوا بمواطنيهم في الشيشان وفي حلب، لكن، على العكس، يحجم الأوكرانيون عن التورط في هجوم مقصود على المدنيين. وبغض النظر عن القانون الدولي والجانب الأخلاقي في هذا الشأن، تثبت تجارب الحروب الكونية في القرن العشرين قطعياً، أن الهجوم على المدنيين لم ينجح قط في كسر إرادتهم، بل على العكس، عزز التفافهم حول قضيتهم المشتركة. كذا كانت حال لندن وستالينغراد إبان الحرب الثانية ثم فيتنام، ولبنان وبغداد وغزة. ولا شك بأن التزام الأوكرانيين بهذا الموقف، يقطع الطريق علي هزيمتهم أمام روسيا. فذاك عماد الموقف والدعم الدولي الأخلاقي للأوكرانيين.
بحسب مراكز الأبحاث العسكرية، وإذا تصاعدت الحرب نحو استخدام النووي التكتيكي، تحتاج لاستخدام عشر أو عشرين قنبلة تكتيكية، تقتل كل منها عشرة آلاف مقاتل ومدني، كي تحدث فرقاً في مسار العمليات. لذلك أبلغ جنرالات دول الناتو، نظراءهم الروس مباشرة، أن الناتو سيرد بكل قدراته التقليدية، وأنهم قادرون بحسم على توجيه ضربات لكل المقدرات والبنى التحتية العسكرية الروسية، لتتقدم قواتها بعد ذلك على الأرض ضد روسيا. وإذ يعرف الجميع طول سلاسل التحضير لهجوم نووي روسي، فلقد أبلغوهم أن مجرد رؤية الناتو هذه التحضيرات، سيبدأ هجومه التقليدي. هذا في وقت يتضح فيه فشل القوات البرية الروسية أمام المعدات الحديثة، في تحقيق أي تقدم أو حسم كبير على الأرض.
تجعلني هذه المناخات أشبّه الوضع الراهن ببدايات الحرب العالمية الثانية. حيث بدأت اليابان في الثلاثينات من القرن الماضي، احتلالها لمنشوريا عام 1931 التي كانت تعتبرها أرضاً لها، ثم احتلت الصين عام 1936. وعلى التوازي، احتلت ألمانيا النمسا 1936، ثم السويد وتشيكوسلوفاكيا 1939، ثم بولونيا. وبدورها احتلت إيطاليا أباسينيا في عام 1935 ثم ألبانيا 1939. وتم كل ذلك بذريعة الطموح الإمبراطوري. بذلك فإن الحرب على أوكرانيا هي حرب القرن الحادي والعشرين، لكن روسيا تقودها بعقلية القرن العشرين، مستندة إلى رؤية عصبوية إمبريالية لتاريخ روسيا والتاريخ السلافي.
لكن هذه هي العقلية الإمبراطورية الروسية منذ ولادتها. فروسيا دولة توسعية بالتعريف، وهذه العقيدة هي التي صنعت بوتين لا العكس. فعلى مدى 500 عام، تميزت روسيا بطموحات عالية تجاوزت قدراتها الفعلية. وبدءاً بإيفان الرهيب في القرن السادس عشر، توسعت روسيا بالتسارع الكبير للمتوالية الهندسية، لتغطي في نهاية المطاف سدس الأرض. لكنها سرعان ما تمططت وانهارت. وباستثناء فترات قصيرة، كانت روسيا غالباً، قوة عظمى، لكنها كانت ضعيفة نسبياً. والآن، ورغم أن الطرفين يحرصان على ألا تتحول هذه الحرب لحرب أوروبية مفتوحة، لكنّ كليهما يتقدمان نحو احتمال المجابهة.
لذلك، فإن السيناريو الأرجح طبقاً للعقلية الإمبراطورية في موسكو، أن يحصل وقف إطلاق نار مضطرب في بداية العام المقبل، ليكون الأوكرانيون في وضع أفضل، ثم سرعان ما تندلع حرب ثالثة بعد أن تشحن روسيا قواها، ثم تحصل استراحة، ثم حرب رابعة. لتكون كل حرب أشرس من سابقتها. فنحن نواجه حرباً وجودية. لأن بوتين والمؤسسة العسكرية والاستخبارية الروسية، يعتقدون أن أوكرانيا ليس لها أصلاً الحق في الحياة. ومن خلال هذه العقلية تصبح الحرب حرب أجيال، يحتمل أن تدوم، بحسب التقديرات، أربعين أو خمسين عاماً. هذا ما لم يحصل تبدل عميق إما في أوروبا أو في روسيا. فحتى لو انتصر الأوكرانيون عسكرياً، فسيترتب عليهم أن يعيشوا سلاماً مدججاً بالسلاح، في مواجهة خصم طامع يفوقهم عشر مرات.
يقول الأستاذ الصيني التاريخي العظيم للعلوم الاستراتيجية سان تسو: “لا بد لكل منتصر حكيم من أن يؤمّن لعدوه المهزوم جسراً ذهبياً”. وثمة احتمال لذلك! فحين تقرر الصين أو الهند سحب دعمها المعنوي لبوتين تنتهي الحرب قطعاً!
كان الصينيون يقولون: لندع الروس يفضحون ضعف الغرب ونقص عزيمته، ولندعهم يلقنون أميركا حقيقة أفول ديموقراطيتها المتعفنة. لكن الرياح جرت بما لم تشته السفن الصينية. وصارت الحرب عبئاً على الصين وتهديداً لمصالحها. وإذ يحضر الرئيس الصيني “للنصر الظافري” في مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني، لعلنا نشهد تحولاً يسمح للصين بمد ذاك الجسر الذهبي.
المصدر: النهار العربي