سلام الكواكبي
تُعاني حركات التحرر أو الجماعات الثورية أو الفئات المنتفضة في كل المجتمعات والأحقاب من حالة يأس مستعصية وتشوّه أخلاقي عميق تُصيب أفرادها أو مريديها، كما تصيب أفكارهم وطموحاتهم بمقتلٍ، وذلك عند وصولها إلى نهايات وخيمة أو خلال عبورها لأزمات تحاكي مراحل انهزام نفسي مستدام في العمل الثوري عموماً. كما يمكن أن تترجم هذه الحالة البائسة إلى مجموعة انتهاكات لفظية متنوعة لسمعة طرف من الأطراف. أو أنها تعبّر عن نفسها من خلال قيام فريق بإلقاء اللوم على فريق آخر مختلف عنه أيديولوجياً أو تنظيمياً وبالتالي، اعتباره مسؤولاً عن الهزيمة وعن وصول الحلم إلى مقتله.
وتُجمِع الدراسات على وجود حدّ أدنى من التآلف والتكاتف والتعاون والتآزر، وكل مفردات العمل الجماعي الإيجابية، في بدايات انطلاق مسارات مثل هذه الحركات أو التجمعات. فلا يمكن لعمل ثوري أو مقاوم غير فردي أن ينطلق مبدئياً من دون توفر الحد الأدنى من التوافقات بين أطرافه. ومن الطبيعي أن تظهر، خلال المسارات المتعرجة والصعبة التي يعبر منها هذا العمل الثوري، خلافات في الأداء وفي الاجتهاد وفي الاستخلاص. بالمقابل، ستقف هذه الخلافات غالباً عند الحد المعقول دون تفاقمها وصولاً إلى انفجار قواعدها. وقد تنجح أيضاً بعض الحركات التي لديها أهداف مشتركة، رغم التباينات، إلى وضع أسس وقواعد لتعريف الخلاف والوصول إلى إيجاد الحلول له فيما يمكن أن نطلق عليه تسمية “ميثاق الشرف” الثوري.
أما الثورة السورية، وحتى قبل تحوّلها إلى مقتلة، فقد تميّزت عن سواها بأن العنف اللفظي والتخوين المجاني والتكفير القاطع لدى بعض جمهورها أو من ادّعى وصلاً بها، ما هي إلا عبارة عن عناصر أساسية في تعريفها أو التعرف إليها. وقد ساعد في انتشار هذه النار هشيم وسائل التواصل الاجتماعي التي أفسحت المجال لتفجير كل العقد النفسية المكبوتة طوال عقود تراكمت خلالها طبقات متفسخة من ثقافة الخوف ومن الأحقاد والضغائن بين الأفراد والجماعات سهرت الأنظمة المستبدة المتعاقبة على تنميتها بكل وعي والتزام.
الأمثلة على هذا الجو السديمي لا تعد ولا تحصى، فمثلاً، أحد السوريين الذي استقال من عمله الذي كان يدرّ له دخلاً مناسباً ليُسخّر مجهوده للعمل المدني الجديد نسبياً على الثقافة السياسية السورية، صار بالنسبة لبعض الألسن ممن هم أيضاً منخرطون في ثورته نظرياً، غنياً أثرته أموال سرقها من المساعدات المخصصة للشعب السوري. وكذلك، ذلك الفنان الذي اختار أن ينفي شخصه وفنه من أسواق النخاسة التسلطية السورية ليقوم بتسخير نشاطه الفني لصالح ثورة الكرامة والحرية، فمن المؤكد أنه سيجد من سينعَتُه بالمهادن وبصاحب الموقف الهلامي. كذاك الباحث الذي انكفأ للعمل على تحليل الظواهر الاجتماعية والمعادلات الإقليمية والرهانات الدولية، سيُتهم بأنه ليس “ثورياً” لأن أصحاب الأصوات العالية والوقاحة الإقصائية سيجدون فيه دريئة مناسبة للتصويب عليها والاستخفاف بتضحياتها. ومن المؤكد أن المعارض الذي ينتمي إلى طائفة أو إثنية لا تدخل في حساب الأكثرية العددية وتوصم بكل موبقات السياسة لتبسيط ـ وحتى تسفيه ـ واقع معقّد وتراكمي، سيكون هدفاً للانتقاد الذي لا يتردد في أن يترافق مع الشتائم، إن هو أدلى بدلوه في حوارات “ثورتهم” وليس ثورة الشعب السوري متعدد المكونات.
إضافة إلى هذا الجو السديمي الذي ساد منذ اليوم الأول للانتفاضة الشعبية الثورية السورية، والذي كان في البدء خلافاً بسيطاً على “أم الصبي” اليتيم، وتطور لاحقاً لاستخدام قواميس تحمل المفردات السلبية والمشككة والفاضحة. لم يتورّع بعضهم عن اللجوء إلى الحيوات الشخصية للنيل ممن اعتبروا أنهم خصومهم ومما يعتبرهم الطرف الآخر حلفاء لهم. وقد وصل التدني في المستوى إلى اعتبار بعض المستهدفين من الثوريين الصادقين بأنما نالهم من السلطة المستبدة لأدنى بكثير كماً ونوعاً مما نالهم من أبناء القضية العادلة.
ما سبق ليس خطاباً تبشيرياً أخلاقياً ناقداً. إنه تسجيل واقع بأقل عباراته سوءاً. أي بشكل لا يُطابق الواقع الأكثر مرارة وقذارة. وأخال أن الواقعة التي يرويها تالياً معتصم السيوفي، الناشط السياسي منذ ربيع دمشق، ستكون أكثر الأمثلة إيلاماً.
يقول السيوفي: في صباح اليوم الثاني لمؤتمر المعارضة في القاهرة عام 2012، جلست إلى طاولة الإفطار إلى جانب صديق لي وشاركنا الطاولة شخص لا أعرفه ولم ألتقِ به في حياتي ولم يميّزني هو بدوره ودار الحوار الآتي:
الغريب: هذا المؤتمر فيه خونة للثورة
أنا: ما هي القصة؟
الغريب: أحد المشاركين بالأمس طالب الدول المحيطة بسوريا بوقف الإمدادات عن الثوار.
أنا: من هو ذلك الشخص؟
الغريب: اسمه معتصم السيوفي !
أنا: هل تعرفه شخصياً؟
الغريب: لا ولكن إن التقيته فو الله لأفعلنّ كذا وكذا
أنا: أنا هو يا أخي الكريم وبحسب ذاكرتي لم أقل شيئاً كهذا.
بدت عليه الدهشة قليلاً وسكت ولم يفعل ما كان يتوعّدني به.
أنا: تأكدوا قبل إطلاق التهم جزافاً وبناء المواقف عليها.
وقع ذلك إذن قبل عقد من الزمن، وها نحن اليوم نزيد الجرح عمقاً وعفناً وانعدام رؤية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا