قد تبدو هذه المداخلة وكأنها تنضح بالطائفية، فالنظام الذي رآه بعضهم طائفياً حتى العظم، يحرّم الإتيان على ذكر الطوائف، كأنه بريء منها، أو ليس لها وجود على الإطلاق، والاتهام جاهز: إثارة النعرات الطائفية، ليستفيد منها الاستعمار، مع أن الاستعمار أصبح من الماضي، بعدما أصبح محلياً، يرتكب جرائمه في وضح النهار وظلام الليل، في السجون والمعتقلات والمداهمات.
هذه نظرة شائعة، لا تعدم نصيباً من الصحة، لكن بنظرة متمعنة، يتبيّن لنا أن النظام ولو مسّته شبهة الطائفية، فهي غير مؤكدة، وذلك بالإحالة إلى العائلة الرئاسية الحاكمة، المهووسة بالتسلّط فحسب، ولا تعير الأكثرية وطوائف الأقليات اهتماماً، وإنما تُعنى باستخدامها، واستغلالها وتوظيفها قاعدة لاستمراريتها، خاصة أنها تنشد البقاء إلى الأبد.
تنصرف جهود النظام العلمانية إلى تذويب الطوائف كلها في طائفة واحدة، طائفة عبادة الرئيس، بالاستناد إلى أيديولوجية “منحبك” تلك التي يدعو إليها “المنحبكجية”، بالرغم من سخافة هذه الفكرة وهشاشتها في بناء الدول، إذ لا علاقة لها بالواقع ولا السياسة، ما دام الدكتاتور عدو الشعب، رغم هذا تمضي على أرض الواقع في غفلة عن المنطق والعقل والتاريخ، تاريخ سورية التي تخطت هذه الترّهات منذ نشأتها. هذا الارتداد إلى عصور الخرافة والعبودية، أصبح مؤهلاً ليتطوّر إلى ما يدعى الحق الإلهي في السلطة، تكفله الإعدامات وكتم الأنفاس.
المروّع ألا يكون للثقافة في الداخل نصيب في التصدي لظاهرة الغرام الاستخباراتي بين الدكتاتور والشعب، وإنما للأسف في الدفاع عنها، حتى أنها أصبحت العصب الخفي في ثقافة الداخل السوري المغلوب على أمره، والدلائل أكثر من أن تحصى، فمثقفو الداخل، يمثلون التنوير والتقدّم لمجرد أنهم يهزأون بالأديان، مع أن الهزء بالأديان لا يقتصر على طائفة، إنه موضة العصر، تتجدّد دورياً، هذه المرة للحط من الإسلام. ما يدل على التقدّم الاجتماعي الذي أحرزناه، الشبيه بتقدمنا العلمي. طبعاً، المثقفون اليساريون الأكثر تقدمية ألحقوا الدكتاتور المحبوب بموكب الخالدين.
طالب السوريون بالتدخل الخارجي، لأنهم جزء من هذا العالم، يحق لهم العيش بكرامة في ظل القانون. وإذا كان التدخل الخارجي لم ينجح، فلأن العالم لا يهتم بإنقاذ البلدان المظلومة، ففي حساباتهم أن أمورها لا يمكن أن يضبطها سوى دكتاتور، مهما كان مجرماً، يقمع الإرهاب، ولو كان سببه.
أما التدخل الخارجي الآخر فأبلى نجاحاً، وللمفارقة رعاه الروس الذين لفظوا الشيوعية، واستعادوا الأرثوذكسية، وأبطنوا المافياوية، أما الإيرانيون فرفعوا رايات التديّن وحماية المراقد المقدسة؛ وكلاهما يقودان تأهيل الدكتاتور، ليس لأسباب دينية، وإنما لدواع سياسية بحتة، وليذهب السوريون إلى الجحيم، ما دام هناك عميل لهم على أرفع المستويات شره للسلطة، تحفّ به بطانة وسخة، يُشترى ولاؤها بالمال والمناصب والنفوذ.
الآن، لننحني إجلالاً للمثقفين الحقيقيين في الداخل، لم يسايروا النظام، هؤلاء أرفع من أن يكونوا من مثقفيه، إنهم مثقفون سوريون أحرار.
المصدر : العربي الجديد