د- عبدالله تركماني
لقد اهتم مفكرو عصر النهضة العربية بالظاهرة الديمقراطية في الغرب، منذ بداية احتكاكهم به في العصر الحديث، من خلال الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 وما تلاها من اتصالات واحتكاكات. وقد برز من بين مفكري النهضة وروّاد الإصلاح عدد يصعب حصره، من بينهم: رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وأديب اسحاق، وعبد الرحمن الكواكبي، وجمال الدين الافغاني، ومحمد عبده وعبد الله النديم، ورشيد رضا، وغيرهم كثيرون. فهذا رفاعه الطهطاوي يقول في تلخيص الإبريز في وصف باريز: ” وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه، هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف، وذلك لأنّ الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة “. ويؤكد خير الدين التونسي أنّ التقدم في المعارف وأسباب العمران لا يتيسر للعرب والمسلمين: ” بدون إجراء تنظيمات سياسية تناسب التنظيمات التي نشاهدها عند غيرنا في التأسيس على دعامتي العدل والحرية اللتين هما أصلان في شريعتنا، ولا يخفى أنهما ملاك القوة والاستقامة في جميع الممالك “. ويشير الأفغاني في ” العروة الوثقى ” إلى ” أنّ الأمة التي ليس لها في شؤونها حل ولا عقد، ولا تُستشار في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعة لحاكم واحد إرادته قانون ومشيئته نظام، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، فتلك الأمة لا تثبت على حال واحد، ولا ينضبط لها سير، فتعتورها السعادة والشقاء ويتناولها العزل والذل “.
إنّ دعوتنا إلى الطريق العربي نحو الديمقراطية تستلهم نداء العلامة الثائر عبد الرحمن الكواكبي الذي قال: ” يا قوم هداكم الله إلى متى هذا الشقاء المديد والناس في نعيم مقيم وعز كريم أفلا تنظرون؟ وما هذا التأخر وقد سبقتكم الأقوام ألوف مراحل حتى صار ما بعد ورائكم أمام أفلا تتبعون؟ أم أنتم كأهل الكهف ناموا ألف عام ثم قاموا وإذا بالدنيا غير الدنيا والناس غير الناس فأخذتهم الدهشة والتزموا السكون “. وفي سعيه لرفع الاستبداد حدّد الكواكبــي ثلاث قواعد هــي:
(1) – (الأمة التي لا يشعر أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية) لأنّ الأمة التي توارثت الاستبداد قروناً عديدة تعتاد عليه، وتأتلف معه حتى أنها تنسى الحرية ولا تعرف لها قيمة، مما يجعلها تقاوم المستبد لتنصّب مستبداً آخر مكانه، أو تنتقم من المستبد لشخصه ولا تنتقم من مؤسساته التي تكبر وتفرّخ استبداداً آخر قد يكون أكثر عنفاً وقبحاً. فالحرية التي تنفع الأمة ” هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، أما التي تحصل إثر ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئاً لأنّ الثورة غالباً ما تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها فلا تلبث أن تنمو وتعود أقوى مما كانت أولاً “. هذه النقطة أدركها الكواكبي إدراكه استحالة التغيير الجذري بطرق انقلابية أو مؤامراتية.
(2) – (الاستبداد لا يقاوم بالشدة بل بالحكمة والتدرج)، فالوسيلة الوحيدة لقطع دابر الاستبداد هي تَرَقّي الأمة ونشر الوعي والثقافة وتحميس الشعب، وهذا يحتاج إلى زمن طويل خصوصاً وأنّ الشعب قد فقد الثقة بالحكام زمناً طويلاً وفقد كذلك الثقة بالدعاة والمحرضين.
الكواكبي كداعية ومحرض سياسي ينطلق من الواقع، من موازين القوى، لا من الرغبات والشعارات، همه لقطع دابر الاستبداد يدفعه إلى رفض الانجرار إلى معركة غير متكافئة وخاسرة سلفاً كي لا تتم التضحية بالطلائع الحية دونما ضمانة للتقدم خطوة إلى الأمام، وبما أنه لا يراهن على السلطة بوصفها السطح السياسي بل يراهن على القاع الاجتماعي، فهو يدعو إلى التقدم بخطوات وئيدة لكن موزونة ومدروسة وعبر دعم جمهور الأمة لهذه الخطوات، وإلا فالمقاومة المتسرعة للمستبد دون مراعاة الشروط تقود إلى فتنة تحصد الناس حصداً، وتنتكس بالمشروع الديمقراطي للوراء.
في دعوة الكواكبي لمقاومة الاستبداد بالحكمة والتدرج لا يوجد أي ظل للخوف أو الانتهازية، أو المساومة، بل يملأه الحرص على مستقبل التغيير وعلى توجيه الضربة المناسبة إلى الحلقة الأضعف وفي الوقت المناسب دونما تسرع أو شطح عفوي.
(3) – (قبل مقاومة الاستبداد يجب تهيئة البديل) ويجب تعيين الغاية المرجوة من مقاومة المستبد، ألا وهي الحكومة الديمقراطية وتعيين ملامحها وسماتها لئلا يقود تغيير الحاكم المستبد إلى آخر أكثر استبداداً، ولا يكفي تعيين الهدف بالإجمال بل يجب معرفته معرفة دقيقة وواضحة قدر الإمكان كما ينبغي تحديد الطريق الموصل إلى الهدف، وبلغة السياسة: لا بدَّ من رسم البرنامج وتعبئة الجماهير حوله ” يجب تعيين الغاية بصراحة وإخلاص وإشهارها بين الكافة والسعي في إقناعهم واستحصال رضائهم بها ما أمكن ذلك “. وما لم يحرز على رضى الأكثرية وما لم تدعمه الجماهير فمصيره الفشل ومصير مقارعة الاستبداد الفتنة التي تحصد الناس وتخرب البلاد.
وإذا أردنا الدخول في تفاصيل بدائل الكواكبي المطروحة، نجد أنها تتوزع في اتجاهات أربعـــة: المساواة، والحرية، والعدالة، والشورى الدستورية.
(1) – المساواة: يعتقد الكواكبي أنّ الناس جميعاً متساوون، وأنّ ليس هناك إنسان يفضل سواه لانحداره من سلالة خاصة، أو بما ينتقل إليه من جاه بطريق الوراثة أو بما يحصله من مال أو سلطان، وإنما معيار الأفضلية هو الإحجام عن الشر. لذلك نراه يطلب المساواة في الحقوق الطبيعية (حفظ الذات والنوع) وفي الحقوق السياسية (لا فرق بين حاكم ومحكوم، بل لابدَّ من المشاركة السياسية) وفي الحقوق المدنية (حق التملك..) وفي الحقوق العامة (حق العلم والتعلم والعمل..) من دون تفرقة بين غني وفقير، أو حاكم ومحكوم. أما من حيث المساواة في الواجبات فيورد الكواكبي حديث ” … (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، أي كل منكم سلطان عام ومسؤول عن الأمة “، فالناس جميعهم مطالبون، على قدم المساواة، بحفظ كيان الأمة والدفاع عنها ضد الأخطار، وبالأخذ بيدها نحو التقدم والازدهار، ولا يحق لأحد التنصل من هذه المسؤولية كما لا يحق لأحد أن يمنع آخر عن القيام بهذا الواجب، فلا بدَّ أن يقتسم الناس مشاق الحياة ويمارسوا أعمال الزراعة والصناعة والتجارة، مبتعدين عن الارتزاق بالحيلة والشعوذة والسمسرة، وما أكثرها اليوم في حاضرنا.
(2) – الحرية: يصف الكواكبي الحرية بأنها قدرة الإنسان على الاختيار ” بأن يكون الإنسان مختاراً في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم ” . وترتبط فكرة الحرية لديه بفكرتي العدالة والمساواة لأنه يرى أنّ ” من فروع الحرية تساوي الحقوق “، ” ومنها العدالة بأسرها حتى لا يخشى إنسان من ظالم أو غاضب أو غدار مغتال “. وتتعدد جوانب الحرية لديه من حرية التعبير إلى حرية الاعتقاد والعلاقات وحقوق التملك، وهي كلها تعني لديه ” الأمن على الدين والأرواح، والأمن على الشرف والأعراض، والأمن على العلم واستثماره “. وهو، مع مطالبته بحق التعبير عن الرأي والمطالبة بالحقوق، فإنه يدعو إلى ضرورة وجود الحرية السياسية، إذ نراه يعدّد من فروع الحرية “محاسبة الحكام باعتبار أنهم وكلاء، وعدم الرهبة في المطالبة وبذل النصيحة. ومنها حرية التعليم، وحرية الخطابة والمطبوعات، وحرية المباحثات العلمية “. ويقرن الكواكبي الحرية الشخصية بالحرية السياسية، ويرفض أن تسيطر الحكومة على أعمال الناس وأفكارهم لأنه يرى أنّ ” أفراد الأمة أحرار في الفكر مطلقاً، وفي الفعل ما لم يخالف القانون الاجتماعي، لأنهم أدرى بمنافعهم الشخصية “. إذ لا حدود لحرية الفكر لأن الأمة ” جامعة سياسية اختيارية، لكل فرد حق إشهار رأيه فيها “. أما حرية الفعل فهي مشروطة بعدم مخالفة القانون الذي يرتضيه المجتمع لنفسه، ولكنّ القيد الذي يفرضه الكواكبي على الفعل هو قيد محدود لا يتعدى القواعد الاجتماعية العامة السائدة. في ما عدا ذلك، لا يحق لأحد أو لهيئة – بما في ذلك الحكومة – أن تحدَّ من استخدام الإنسان حريته. والحرية السياسية لا تكتمل إلا بوجود حكومة دستورية مراقبة ومسؤولة لدى الأمة. أما الحكومة الاستبدادية فعلى الإنسان أن ينتزع حريته منها انتزاعاً، مهما كلفه ذلك، لأنّ الحرية مطلب عزيز يستحق الثمن الغالي الذي يدفع في سبيل إحرازه … إنّ الله جلت نعمته خلق الإنسان حراً قائده العقل وعليه أن يحافظ على هذه الحرية التي منحه إياها الله، إذ خلقه منفرداً غير متصل بغيره ليملك اختياره في حركته وسكونه “.
(3) – العدالة: هي بديل الظلم والتفاوت القائم بين الناس، الذي تحميه الحكومات المستبدة. وكثيراً ما يربط الكواكبي العدل بالمساواة، فهو يعرف العدل قائلاً ” العدل لغة تسوية، فالعدل بين الناس هو التسوية بينهم”. وبما أنه يطلب العدل على الصعد كلها: القانونية، والسياسية، والاجتماعية.. لذا فإنه يحاول إيقاظ قومه على ضرورة تحقيقه، يقول: ” خافوا غيرة المنعم الجبار. ألم نخلقكم أكفاء أحرار طلقاء لا يثقلكم غير النور والنسيم، فأبيتم إلا أن تحملوا على عواتقكم ظلم الضعفاء وقهر الأقوياء “. والعدل في رأيه هو قيام بالواجبات واستيفاء للحقوق، على نحو تتضح فيه المساواة.
(4) – الشورى الدستورية: إنّ البدائل السابقة (المساواة والحرية والعدالة) لا تتأتى إلا بسيادة الشعب على نفسه. وسيادة الشعب لا تكون إلا بتحقيق الشورى، عن طريق مشاركته في ممارسة الحكم ليكون الحكم عادلاً، لأنّ للحكم تأثيراً كبيراً في شؤون الحياة كلها، وهو الذي يمكنه الحفاظ على المساواة والحرية والعدالة بواسطة احترامه قانون الدولة، وتمسكه بأصول الشورى في الحكم.
إنّ الشورى الدستورية التي دعا إليها الكواكبي، ما هي إلا الديمقراطية، باعتبارها الوسيلة العصرية المؤكدة لممارسة جوهر الشورى عن طريق كفالة حق الناس في اختيار حكامهم وتقرير مصير مستقبلهم.
وهكذا، لعلنا لا نعدو الحقيقة إذا اعتبرنا أنّ مطلب دولة الحق والقانون كان مطلباً أثيراً، بل المطلب الأول لدى رجال الإصلاح في عصر النهضة العربية، فالدولة العادلة والقادرة هي لبُّ النهضة وأساسها المتين. ومن هنا الإلحاح عند مصلحي القرن التاسع عشر على تحديث المؤسسة السياسية كيما تستطيع أن تواجه مطالب العصر وتحدياته.
وإذ ركّز المفكر النهضوي في القرن التاسع عشر على إيجاد الدولة الحديثة، الدولة المقيدة بدستور وقانون، جعل من مبدأ الشورى الإسلامي (الذي جرت مرادفته بمبدأ الديموقراطية في الغرب) أساس هذه الدولة وركنها الركين. وانطلق مثل هذا المفكر النهضوي إبان مطالبته بالدولة الحديثة القائمة على مبدأ الشورى، من فكرة تقول أنّ الاستبداد، ولا شيء غيره، هو السبب الأساسي في ذلك التأخر الذي يدق أوتاده داخل المجتمعات العربية – الإسلامية. ولعلنا نرجّح بأنّ هذه الفكرة نمت وترعرعت، بل وتضخمت داخل الخطاب النهضوي، بتأثير من أدبيات عصر الأنوار الفرنسي التي ردّت تخلّف المسلمين خصوصاً، والشرقيين بشكل عام، إلى ” الاستبداد الشرقي ” مثلما سماه مونتسكيو. والإعجاب الذي كان يضمره رجال الإصلاح لفلاسفة الأنوار الفرنسيين، ولمونتسكيو تحديداً، لا يخفى على أحد. وقد عبّر رفاعة رافع الطهطاوي عن إعجابه به فقال: ” قرأت جزئين من كتاب يسمى ” روح الشرائع ” مؤلفة شهير بين الفرنساوية يقال له منتسكيو وهو أشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية، ومبني على التحسين والتقبيح العقليين، ويلقب عندهم بابن خلدون الإفرنجي كما أنّ ابن خلدون يقال له عندهم منتسكيو الشرق أي منتسكيو الإسلام “.
ومهما يكن الأمر فإنّ الدعوة إلى بناء الدولة الحديثة شكلت بيضة القبان لدى الغالبية من رجال الإصلاح منذ القرن التاسع عشر. ولا ننسى بأنّ الدعوة تلك انطلقت في ظل الضغط الغربي على المكان العربي – الإسلامي، وفي ظل الضربات المتلاحقة على رأس السلطنة العثمانية التي تهاوت كمثل جدار متصدع. عند هذا الحد كان لابدَّ لرجال الإصلاح الموزعين بين أرجاء الولايات العربية الخاضعة للسلطنة، من أن يطالبوا بالدولة الوطنية المحكومة بالدستور والقانون. فهؤلاء رأوا بأم العين كيف أنّ تقدم الغرب، وتحقيقه الغلبة على الاتراك والمسلمين والعرب، جاء بسبب تقدم نظامه السياسي المحكوم بالدستور. مثلما أنهم رأوا كيف أنّ السلطنة، ذات العز، تحولت إلى رجل مريض يراد اقتسام تركته لا لشيء إلا لأنها – أي السلطنة – حُكمت بنظام مستبد لم يستمسك بمبدأ الشورى، كما أنه كرّس الأنماط والمؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العائدة إلى الحقبة الإقطاعية، وبذلك حال دون أي تقدم أو نهضة.