رمزي بارود ترجمة: علاء الدين أبو زينة
ثمة جيل جديد لديه ذاكرة ضئيلة أو معدومة عن الانتفاضة الثانية (2000-2005)، لم يختبر الغزو الإسرائيلي آنذاك ولكنه نشأ تحت الاحتلال والفصل العنصري، ويتغذى على ذكريات المقاومة في جنين ونابلس والخليل. وإذا حكمنا من خلال خطابهم السياسي وهتافاتهم ورموزهم، فإن هذا الجيل سئم من الانقسامات المعوقة والسطحية في كثير من الأحيان للفلسطينيين بين الفصائل والأيديولوجيات والمناطق.
* *
هذا العنوان الرئيسي في صحيفة “جيروزاليم” بوست الإسرائيلية لا يروي أكثر من جزء صغير من القصة: “’عرين الأسود‘، والجماعات الفلسطينية الأخرى هي صداع لا نهاية له لإسرائيل، والسلطة الفلسطينية”.
صحيح أن كلاً من الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية تشعران بالقلق بالقدر نفسه من احتمال اندلاع ثورة مسلحة واسعة النطاق في الضفة الغربية المحتلة، ومن أن اللواء الذي تم تشكيله حديثًا ومقره نابلس، “عرين الأسود”، هو مركز هذه الحركة التي يقودها الشباب.
ومع ذلك، فإن المقاومة المسلحة المتصاعدة في الضفة الغربية تسبب أكثر من مجرد “صداع” لكل من تل أبيب ورام الله. وإذا استمرت هذه الظاهرة في النمو، فإنها يمكن أن تهدد وجود السلطة الفلسطينية ذاته، بينما تضع إسرائيل أمام خيارها الأصعب منذ غزو المدن الفلسطينية الرئيسية في الضفة الغربية في العام 2002.
وعلى الرغم من أن القادة العسكريين الإسرائيليين يواصلون محاولة العمل على تقويض قوة المجموعة الفلسطينية المشكلة حديثًا، فإنها ليست لديهم فكرة واضحة عن جذورها على ما يبدو، أو عن مدى نفوذها وعن تأثيرها المستقبلي.
في مقابلة حديثة مع صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، ادعى وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، أن “عرين الأسود” هي “مجموعة من 30 عضوًا”، سيتم الوصول إليهم في نهاية المطاف والقضاء عليهم. وأعلن: “سوف نضع أيدينا على الإرهابيين”.
ومع ذلك، ليست مجموعة “عرين الأسود” حالة معزولة، وإنما هي جزء من ظاهرة أكبر تشمل “سرايا نابلس” و”كتائب جنين” ومجموعات أخرى، والتي تقع معظمها في شمال الضفة الغربية.
وقد نشطت المجموعة، إلى جانب وحدات عسكرية فلسطينية مسلحة أخرى، في الرد على قتل الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال والشيوخ -وحتى طبيب فلسطيني، عبد الله أبو التين، الذي توفي في 14 تشرين الأول (أكتوبر) متأثرًا بجراحه في جنين. ووفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، قتل أكثر من 170 فلسطينيًا في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ بداية العام.
وشمل الرد الفلسطيني مقتل جنديين إسرائيليين، أحدهما في شعفاط في 8 تشرين الأول (أكتوبر)، والآخر بالقرب من نابلس في 11 تشرين الأول (أكتوبر). وفي أعقاب هجوم شعفاط، قامت السلطات الإسرائيلية بإغلاق مخيم شعفاط للاجئين بالكامل كشكل من أشكال العقاب الجماعي، على غرار الحصار الأخير الذي فُرض على جنين وبلدات فلسطينية أخرى.
ونقلاً عن وسائل الإعلام العبرية الإسرائيلية، ذكرت صحيفة “القدس” اليومية العربية الفلسطينية، أن الجيش الإسرائيلي سيركز عملياته في الأسابيع المقبلة على استهداف “عرين الأسود”، ومن المرجح أن يتم نشر آلاف الجنود الإضافيين من قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية استعدادًا للمعركة المقبلة.
من الصعب تخيل أن إسرائيل ستحشد هذا القدر الكبير من جيشها لمحاربة 30 مقاتلاً فلسطينيًا في نابلس. ولكن ليست إسرائيل فقط هي التي تشعر بقلق بالغ. ثمة السلطة الفلسطينية أيضًا.
وقد حاولت السلطة -لكنها فشلت- إغراء المقاتلين من خلال عرض “صفقة” استسلام، يتخلون بموجبها عن أسلحتهم وينضمون إلى قوات السلطة الفلسطينية. وكانت مثل هذه الصفقات قد عُرضت في الماضي على مقاتلين ينتمون إلى “كتائب شهداء الأقصى” التابعة لحركة فتح نفسها، وحققت درجات متفاوتة من النجاح.
هذه المرة، لم تنجح الاستراتيجية. رفضت المجموعة مبادرات السلطة الفلسطينية، وأجبرت محافظ نابلس التابع لحركة فتح، إبراهيم رمضان، على مهاجمة أمهات المقاتلين من خلال وصفهن بأنهن “منحرفات” بسبب “إرسال أبنائهن للانتحار”. لغة رمضان، التي تشبه اللغة التي يستخدمها الأفراد الإسرائيليون والمؤيدون لإسرائيل في تصويرهم للمجتمع الفلسطيني، تسلط الضوء على الانقسامات الهائلة بين الخطاب السياسي للسلطة الفلسطينية وخطاب الفلسطينيين العاديين.
ولا يقتصر الأمر على أن السلطة الفلسطينية تفقد قبضتها على الرواية فحسب، بل إنها تفقد أيضًا ما تبقى لها من بقايا سيطرة في الضفة الغربية، وخاصة في نابلس وجنين.
وقال مسؤول فلسطيني كبير لموقع “ميديا لاين” إن “الشارع الفلسطيني لم يعد يثق بنا”، لأنهم “ينظرون إلينا على أننا امتداد لإسرائيل”. وهذا صحيح، لكن هذا الافتقار إلى الثقة كان في طور الإعداد لسنوات.
ومع ذلك، كانت “انتفاضة الوحدة” في أيار (مايو) 2021 بمثابة نقطة تحول رئيسية في العلاقة بين السلطة الفلسطينية والفلسطينيين. وليس صعود “عرين الأسود” والجماعات الفلسطينية المسلحة الأخرى سوى مظهر صغير فقط للتغيرات الدراماتيكية الجارية في الضفة الغربية.
الضفة الغربية آخذة في التغير في الحقيقة. ثمة جيل جديد لديه ذاكرة ضئيلة أو معدومة عن الانتفاضة الثانية (2000-2005)، لم يختبر الغزو الإسرائيلي آنذاك ولكنه نشأ تحت الاحتلال والفصل العنصري، ويتغذى على ذكريات المقاومة في جنين ونابلس والخليل.
وإذا حكمنا من خلال خطابهم السياسي وهتافاتهم ورموزهم، فإن أبناء هذا الجيل سئموا من الانقسامات المعوقة والسطحية في كثير من الأحيان للفلسطينيين بين الفصائل والأيديولوجيات والمناطق. وفي الواقع، يُعتقد أن الألوية المنشأة حديثًا، بما فيها “عرين الأسود”، هي مجموعات متعددة الفصائل تجلب معًا، لأول مرة، مقاتلين من حماس وفتح وغيرهما حول برنامج واحد. وهذا ما يفسر الحماس الشعبي لها وعدم وجود شك بين الفلسطينيين العاديين تجاه المقاتلين الجدد.
على سبيل المثال، كان سائد الكوني، وهو مقاتل فلسطيني قتل مؤخرًا على يد جنود إسرائيليين في كمين على مشارف نابلس، عضوًا في “عرين الأسود”. وقد ادعى البعض أن الكوني كان عضوا بارزًا في كتائب فتح، بينما يقول آخرون إنه كان مقاتلاً معروفًا في حماس.
هذا العوز إلى اليقين عندما يتعلق الأمر بالهوية السياسية للمقاتلين الشهداء فريد من نوعه إلى حد ما في المجتمع الفلسطيني، على الأقل منذ إنشاء السلطة الفلسطينية في العام 1994.
وفي المقابل، من المتوقع أن تفعل إسرائيل ما تفعله دائمًا: حشد المزيد من قوات الاحتلال، والهجوم، والاغتيال، وسحق الاحتجاجات، وفرض الحصار على المدن الثائرة ومخيمات اللاجئين. لكن ما يفشل الإسرائيليون في فهمه، في الوقت الحالي على الأقل، هو أن الثورة المتنامية في الضفة الغربية لا يولدها عدد قليل من المقاتلين في نابلس وعدد قليل آخر في جنين، وإنما تأتي نتيجة لشعور شعبي حقيقي.
في مقابلة مع صحيفة “يديعوت أحرونوت” ترجمتها صحيفة “القدس”، وصف قائد إسرائيلي ما شاهده في جنين خلال غارة هناك:
”عندما ندخل (جنين)، ينتظرنا مقاتلون مسلحون ورماة حجارة في كل زاوية. الجميع يشارك. أنت تنظر إلى رجل عجوز… وتتساءل، هل سيرمي الحجارة؟ ويفعل. ذات مرة، رأيت شخصًا ليس لديه ما يرميه (علينا). هرع إلى سيارته وأمسك بعلبة حليب وألقاها علينا”.
لقد سئم الفلسطينيون ببساطة من الاحتلال الإسرائيلي ومن قيادتهم المتعاونة. وهم الآن على استعداد لوضع كل شيء على المحك، وفي الواقع، فعلوا هذا مُسبقًا في جنين ونابلس. وسوف تكون الأسابيع والأشهر المقبلة حاسمة بالنسبة لمستقبل الضفة الغربية، وفي الواقع، بالنسبة لجميع الفلسطينيين.
*رمزي بارود: صحفي، ومؤلف ورئيس تحرير موقع “ذا بالستاين كرونيكل”. كتابه الأخير، الذي شارك في تحريره مع إيلان بابيه، “رؤيتنا للتحرير: القادة والمثقفون الفلسطينيون المنخرطون يتحدثون علنا”. وهو زميل باحث أول غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية في جامعة الزعيم إسطنبول.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Difficult Months Ahead: Why Israel is Afraid of the Lions’ Den
المصدر: (تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط)/ الغد الأردنية