أماني الطويل
أدركت إهمال مخرجات مباحثات 2014 وانتبهت لحجم الخسائر التي حصدتها على الصعيد العالمي وتراكم التحديات أمام هيمنتها.
تعد القمة الأميركية – الأفريقية الثانية تطوراً مهماً في العلاقة بين واشنطن والقارة خلال هذه المرحلة في ضوء الإدراك الأميركي الجديد، الذي يتمحور حول “أن أفريقيا هي القارة التي ستحدث الفرق”. وهي عبارة قالها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ورددها المسؤولون الأميركيون على المستويين العسكري والسياسي خلال الأسبوع الماضي وإن كان بصيغ مرادفة.
خسائر الإهمال الأميركي للقمة الأولى
في هذا السياق يبدو لنا أن تطور الإدراك الأميركي الذي أهمل مخرجات القمة الأميركية – الأفريقية الأولى التي انعقدت عام 2014 قد انتبه لحجم الخسائر التي حصدها على الصعيد العالمي، من حيث تراكم التحديات أمام الهيمنة الأميركية على العالم وصعوبة قيادتها منفردة النظام الدولي، من حيث ارتفاع أوزان أطراف أخرى باتت ساعية إلى بلورة نظام دولي متعدد الأقطاب، وهو على حساب المصالح الأميركية بالضرورة.
شكلت المقاربات الأميركية منذ بداية الألفية في التفاعل مع أفريقيا أحد عوامل الفشل الأميركي، ذلك أن إدارة الرئيس بيل كلينتون طرحت مقاربة الشراكات التجارية مع دول القارة مع التركيز على القرن الأفريقي وقادته ونعتته بالقرن الذهبي، إذ تجاهلت واشنطن في هذه المقاربة أمرين الأول قدرات الاقتصادات الأفريقية في أن تكون شريكاً قادراً على ممارسة شراكة تعود عليها بالمنافع. أما ثاني ما تجاهلته واشنطن فهو طبيعة الصراعات الداخلية المؤسسة على انقسامات عرقية في دول القرن الأفريقي، والتي قد لا تؤهلها لأن تكون دولاً مستقرة قادرة على ممارسة وظائفها الطبيعية في إدارة علاقات خارجية ناجحة تنعكس إيجابياً على اقتصاداتها.
المقاربة الثانية التي انتهجتها واشنطن أسست على الإعلان الأميركي أن أفريقيا ذات أهمية استراتيجية للولايات المتحدة عام 2002، وقد تبلورت في تكوين القيادة الأفريقية في الجيش الأميركي “أفريكوم” عام 2006، وهي المقاربة التي لم تنجح في إقناع الدول الأفريقية أنها لحفظ الأمن في القارة ففشلت لفترة طويلة أن تجد لها مقراً على الأراضي الأفريقية وكان مقر عملها ألمانيا.
وبالتوازي مع ذلك لجأت واشنطن إلى الشركات الأمنية (بلاك ووتر) لتكون بديلاً عن الدعم العسكري المباشر للدول الأفريقية في مواجهة الإرهاب، وغالباً لم تتعد العناصر الأمنية الأميركية عدد 6000 عنصر، لم يستطيعوا على رغم التنسيق الغربي العام أحياناً في مكافحة الإرهاب في أن يحاصروا الظاهرة، أو يمنعوا تفاقمها بل العكس هو الذي حدث، ولعل قرار دونالد ترمب بالانسحاب العسكري من الخارج وتصفية الوجود العسكري الأميركي في الصومال خصوصاً، أسهم بشكل مباشر في سيطرة تنظيم الشباب المتطرف على معظم الأرياف الصومالية وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
استثمار روسيا والصين للفراغ الأميركي
في المقابل فإن القوى الدولية المنافسة لواشنطن لجأت إلى مناهج أكثر فاعلية وحداثة للتفاعل مع القارة الأفريقية، فعلى الصعيد الصيني طورت الصين علاقاتها بأفريقيا منذ تسعينيات القرن الماضي معتمدة بشكل رئيس على شراء النفط الأفريقي فأسهمت في دعم اقتصادات القارة من ناحية، وضمنت معطيات تقدمها الاقتصادي من أخرى، حيث تطور حجم التبادل التجاري الصيني مع أفريقيا من 10 مليارات إلى ما يزيد على 200 مليار دولار في مطلع العقد الثالث من الألفية الثالثة، كما ابتدعت الصين آلية القمم الصينية الأفريقية (فوكاك) منذ عام 2004 وهي الآلية التي سمحت منذ فترة مبكرة بسماع الصوت الأفريقي، وطبيعة التحديات التي يواجهها الأفارقة، من هنا تطور الأداء الصيني بأفريقيا في اتجاهين الأول الاستثمار في البني التحتية، والأخير التوسع في إقراض الدول الأفريقية من دون شروط سياسية واقتصادية وكذلك بفوائد معقولة.
هذه الآليات تم تفضيلها من جانب القادة الأفارقة مقارنة بسياسات نادي باريس وصندوق النقد الدولي التي تضع شروط الإصلاح الهيكلي للاقتصادات والتحول نحو الخصخصة، فيما أضر كثيراً بأوضاع الاستقرار السياسي في كثير من الدول الأفريقية.
في هذا السياق طورت الصين سياستها على الصعيد العالمي حيث وضعت أفريقيا في قلب مشروعها “الحزام والطريق” انطلاقاً من منصة البحر الأحمر، وهو ما يفسر ربما نقاط الارتكاز الصينية في كل من السودان وإثيوبيا على الصعيدين الاقتصادي، بينما اختارت على الصعيد العسكري كلاً من جيبوتي وغينيا الاستوائية وغينيا هي النقطة التي يتم فيها حالياً تهديد مصالح الطاقة الأميركية.
في سياق مواز واعتباراً من عام 2015 اختارت موسكو التفاعل مع أفريقيا من البوابة الأمنية والعسكرية، واعتمدت في ذلك على شركة “فاغنر” التي تنتشر حالياً في 23 دولة أفريقية وتعتمد على منصات التواصل الاجتماعي في التحريض ضد الغرب وسياساته بشكل عام بالقارة، وطبقاً لبحث أجراه الباحث أحمد عسكر تمتلك “فاغنر” سبعة حسابات على “إنستغرام” و73 صفحة على “فيسبوك”، بلغ عدد متابعيها أكثر من 1.72 مليون حساب، يركز محتواها على المصالح الروسية.
أما على مستوى التسلح فقد تجاوزت المبيعات الروسية العسكرية لأفريقيا الولايات المتحدة، طبقاً لتقرير التسلح 2020، وأصبحت المصدر الأول للتسلح الأفريقي، وتصدرت قائمة الدول المستفيدة الجزائر ثم مصر، وكانت كل من السودان وأوغندا وأنغولا في قائمة المستوردين للسلاح الروسي، كما انضمت مالي أخيراً بعد انسلاخها عن الفرنسيين.
استراتيجية أميركية جديدة في القمة الثانية
وفي ضوء التحديات التي تواجهها واشنطن حالياً في أفريقيا أعلنت واشنطن من جنوب أفريقيا في أغسطس (آب) الماضي ملامح استراتيجية جديدة للتفاعل مع دول القارة في 17 صفحة تم تحديد نطاقها في دول جنوب الصحراء الكبرى، وهي الاستراتيجية التي ركزت على ستة مداخل، هي زيادة الانخراط الدبلوماسي الأميركي في المنطقة مع الاعتماد على آليات التبادل الثقافي مع المواطنين الأفارقة، وكذلك دعم عمليات التنمية المستدامة، خصوصاً الاستثمار في النظام الصحي الأفريقي والعمل على تطويره وذلك في مواجهة الأوبئة والتحديات الصحية المستحدثة.
وفي السياق ذاته تتحدث الاستراتيجية الأميركية عن دعم مباشر لكل من التحول الرقمي في أفريقيا وكذلك التحول نحو الطاقة النظيفة. أما على الصعيد العسكري والأمني فإن الاستراتيجية تحدثت في فقرة كبيرة بالاستراتيجية عن مراجعة أدوات التعامل مع الجيوش الأفريقية، ولعل القمة الأفريقية الأميركية المعقودة في واشنطن من 13 إلى 15 ديسمبر (كانون الأول)، إحدى أهم هذه الآليات تحت مظلة تقدير أميركي جديد، أوضحه أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي بالقول إن الولايات المتحدة تعتقد اعتقاداً راسخاً أن الوقت قد حان للتوقف عن التعامل مع أفريقيا كموضوع جيوسياسي، والبدء في التعامل معها على أنها اللاعب الجيوسياسي الرئيس.
المسؤولون العسكريون الأميركيون وضعوا ملف الدفاع على قمة أولويات هذه القمة، خصوصاً أن هناك تحديات لأمن الطاقة الأميركي بالوجود الصيني العسكري في غينيا الاستوائية، حيث استثمرت واشنطن مليارات الدولارات في العقود الثلاثة الماضية في قطاع الطاقة بخليج غينيا لتلبية ربع حاجات الطاقة الأميركية من النفط الأفريقي وهي الحاجات التي يتم تقديرها بأكثر من 20 مليون برميل يومياً.
في هذا السياق فإن القمة التي سيحضرها 42 قائداً أفريقياً ستضع على قمة أولوياتها مكافحة ظاهرة الإرهاب وتوسعها المرتقب طبقاً للمؤشرات المرصودة في المنصات العلمية، حيث تبدو هذه المسألة محل اهتمام أفريقي أميركي مشترك، فهي على الصعيد الأفريقي تهدد استقرار الدول واقتصاداتها، وعلى الصعيد الغربي عموماً والأميركي خصوصاً تعوق عمليات الاستثمار والتنقيب في المعادن والموارد الحرجة للصناعات الحديثة ومنها الرقائق الإلكترونية، وبطاريات السيارات الكهربائية فضلاً عن الاهتمامات التقليدية بالموارد الأفريقية.
الأمن الغذائي سيكون من القضايا المطروحة من الجانب الأفريقي، خصوصاً في ضوء ما رشح من تحديات في استيراد الحبوب كنتيجة للحرب الروسية – الأوكرانية، فبات من الأفضل التوسع الزراعي الأفريقي في نطاق القارة الأفريقية ذاتها خصوصاً، وهي على أعتاب تفعيل منطقة التجارة الحرة القارية.
هل يستثمر الأفارقة المعطيات الجديدة؟
من هنا يكون الدور الأميركي الداعم لا بد وأن يتركز في توسع الاستثمار بالبني التحتية اللازمة لعمليات التبادل التجاري، وكذلك نقل التكنولوجيا الحديثة الزراعية في مجالات الري ورفع إنتاجية الفدان من المحاصيل.
وفي الأخير يبقى أن القمة الأميركية – الأفريقية هي جزء من مشهد دولي كبير ومتسع اتساع العالم، تتصارع أطرافه على القارة الأفريقية بسبب مواردها الضخمة، وتوسطها الجغرافي للحد من التكالب الذي يعيد إلى الأذهان المرحلة الاستعمارية التي دشنتها اتفاقية برلين في العقد الثامن من القرن الماضي، لكن الفرق قد يصنعه الأفارقة أنفسهم إذا ما أحسنوا توظيف اللحظة لهم هذه المرة لا عليهم كما في مراحل الاستعمار الكولونيالي.
المصدر: اندبندنت عربية