نوبار هوفسبيان ترجمة: علاء الدين أبو زينة
في مواجهة الهجمات على جبهات متعددة، واصل إدوارد سعيد تحدي احتكار إسرائيل لتمثيل فلسطين.
“الطريق أمامنا واضح تمامًا”، كتب إدوارد سعيد في العام 1989، في “رسالة مفتوحة إلى المثقفين الأميركيين اليهود” غير المنشورة. “إما أن نناضل من أجل العدالة والحقيقة والحق في النقد الصادق، أو أن علينا ببساطة التخلي عن لقب مثقف”. كان سعيد يرد على ما اعتبره وباء سوء نية شائعا بين المثقفين اليهود الأميركيين في عصره عندما يتعلق باضطهاد إسرائيل للفلسطينيين. فبتقديمهم الدعم لإسرائيل من خلال “تجريده من إنسانيته، وتجاهله، وبعد منتصف السبعينيات… شيطنة الشعب الفلسطيني”، قال سعيد إن هؤلاء المثقفين “لعبوا دورًا حاسمًا” في تزويد الدولة اليهودية بغطاء أيديولوجي لتدميرها الحياة الفلسطينية.
قرأتُ مقال سعيد في أواخر العام 1989 عندما كان يحاول أن يقرر ما إذا كان سينشره. كنا، أنا وإدوارد سعيد، صديقين مقربين منذ السبعينيات؛ كان مندهشًا من أنني أنا، الأرمني من مصر، كنتُ منخرطًا في سياسة الحركة الفلسطينية في بيروت. حصلتُ على حقوق نشر كتابه ”الاستشراق” باللغة العربية، وتعاونا معًا في العديد من الجهود في النضال من أجل العدالة في فلسطين. وقد فضلتُ نشر المقال، لكن أصدقاء ومستشارين آخرين -الكاتب والمحرر صاحب العلاقات الاجتماعية الجيدة جان شتاين؛ والباحث الأدبي ماساو ميوشي، والمنظر السياسي الباكستاني إقبال أحمد- لم يتفقوا معي. وتسجل الملاحظات من اليوميات التي كنتُ أحتفظ بها خلال تلك الفترة أن هؤلاء المحاورين اعتقدوا أن المقال “لم يكن بنّاء بما فيه الكفاية” وأنه “سيعرضه لانتقادات كبيرة”. وكانوا محقين بمعنى أنه لو مضى سعيد قدمًا في نشر مناشداته، لكانت الإدانات الغاضبة من المثقفين اليهود قد ملأت صفحات صحف “نيويورك تايمز”، و”وول ستريت جورنال”، و”نيو ريبابليك”، ومجلتي “كومينتري” و”الأتلانتيك”.
ومع ذلك، وجدت في نهاية المطاف أن حذرهم كان مضللًا، لأن سعيد، أبرز فلسطيني في الولايات المتحدة، كان يتعرض مسبقًا للهجوم على جبهات متعددة. وقد استفزت مكانته الصهاينة الليبراليين واليمينيين على حد سواء، كمثقف وناقد، وشخص نجح في تحدي تصويراتهم العنيدة للفلسطينيين كإرهابيين. ورفض الصهاينة الليبراليون، مثل المؤرخ والتر لاكور، كتاب سعيد “القضية الفلسطينية” الذي صدر في العام 1978، العمل الأبرز باللغة الإنجليزية في ذلك الوقت لشرح المشروع الاستعماري الإسرائيلي من وجهة نظر فلسطينية، ووصفه بأنه دعاية غير جديرة بالاهتمام. وكان العديد من النقاد اليهود الأميركيين يخشون إشراك سعيد فكريًا. وأخبرني سعيد في مناسبات عدة أن روبرت سيلفرز، المحرر المخضرم في مجلة “نيويورك ريفيو أوف بوكس”، أبلغه بأنه لن يسمح له بالنشر في المجلة طالما ظل شقيق سيلفرز يعيش في القدس. وبدلاً من تحديه بشأن منطق حججه، شن هؤلاء النقاد هجمات على شخصه بهدف النيل من سمعته.
كانت رسالة سعيد المفتوحة قد جاءت في المعظم بسبب مقال تشهيري نشر في مجلة “كومينتري” في العام 1989 للناقد إدوارد ألكسندر بعنوان “بروفيسور الإرهاب”. كان ألكسندر، وهو يهودي أميركي عاش لأعوام عدة في القدس، مرتبطًا بـ”حروت” -وهو حزب سياسي يميني في إسرائيل اندمج في نهاية المطاف مع حزب “الليكود”- وعمل في اللجنة الاستشارية لمجموعة “أميركيون من أجل إسرائيل آمنة”، التي رفضت أي مفاوضات مع القيادة الفلسطينية، ورأت في حل الدولتين خطرًا قاتلاً. في مقاله في “كومينتري”، وصف ألكسندر سعيد بأنه “عالم أدبي ومنظّر للإرهاب”، و”قاتل مأجور لمنظمة التحرير الفلسطينية”. وعلى الرغم من أن ألكسندر كان يمثل وجهات نظر اليمين المتطرف، إلا أنه يجب الإشارة إلى أن أيًا من الكتاب الصهاينة الليبراليين الأميركيين في ذلك الوقت لم يختر أن ينأى بنفسه عن هذه الاتهامات المنافية للعقل.
بالنظر إلى هذا الاستقبال، قد يتصور المرء أن سعيد نفسه عارض التقارب مع إسرائيل. في الواقع، كان العكس هو الصحيح. حتى العام 1999، جادل سعيد لصالح حل الدولتين كتسوية تاريخية. وقد كُتبت الرسالة المفتوحة التي فكر في نشرها في العام 1989 بعد الانتفاضة الأولى التي كانت قد ألهمت “المجلس الوطني الفلسطيني” تغيير سياسته تجاه إسرائيل في العام السابق. وشارك سعيد في جلسة “المجلس الوطني الفلسطيني” وحاول، بعد الجلسة، أن يشرح لكل من يريد أن يستمع جدية التطلعات الفلسطينية إلى السلام. وكما كتب في الرسالة، اقترح “المجلس الوطني الفلسطيني”، بدفع من قادة الانتفاضة، “الاعتراف بإسرائيل، وتقسيم فلسطين الانتدابية إلى دولتين، وقبول قراري الأمم المتحدة 242 و338، ونبذ الإرهاب، [و] تعهد رسمي بإنهاء الصراع عن طريق التفاوض السياسي وليس عن طريق العنف”. وفي الوقت نفسه، لا تتردد رسالته في وصف حجم اضطهاد الفلسطينيين وتجريدهم من ممتلكاتهم منذ العام 1948 على أيدي إسرائيل، وتجادل بأن المؤسسة اليهودية الأميركية الناقدة اختارت إنكار هذا الاضطهاد من خلال “عملية اختزالية مروعة” هدفت إلى إهانة الفلسطينيين والتقليل من شأنهم.
كُتبت رسالة سعيد المفتوحة بشعور من الإلحاح. كان منخرطًا في معركة ثقافية لإعادة صياغة فلسطين واستعادتها في الخيال العام. وعلل ذلك بأنه ومواطنيه في حاجة إلى الارتقاء إلى مستوى المناسبة لمواجهة احتكار الخطاب الذي أسسته المؤسسة الصهيونية. وربما لو نشر رسالته، لكانت ملاحظاته قد حصلت على دعم من بعض المثقفين اليهود -اللغوي والمفكر السياسي الشهير نعوم تشومسكي، والاقتصادية السياسية سارة روي، أو عالمَي اليهوديات دانيال وجوناثان بويارين، على سبيل المثال- حتى بينما يدينها آخرون. وبعد بضعة أعوام، انضم إلى هذه الأرواح الشجاعة مثقفون يهود آخرون مثل توني جودت، وجوديث بتلر، ومؤخرًا بيتر بينارت، إلى جانب جيل شاب مستعد لتشريح وتفكيك ادعاءات الخطاب الصهيوني السائد.
في الأعوام التي أعقبت ذلك، استمرت الهجمات على سعيد على قدم وساق. في العام 1992، عندما حاولت جامعة هارفارد تعيينه مرة أخرى، وظف مارتن بيرتز، الذي كان آنذاك رئيس تحرير صحيفة “نيو ريبابليك”، مساعد بحث جامعيًا، افترَض أنه كان يقوم ببساطة بإجراء بحث في مقال، لتجميع ملف لكتابات سعيد السياسية وإرسالها إلى مسؤولي جامعة هارفارد في محاولة أخرى لمنع تعيين سعيد -وهي حقيقة عرفها سعيد من مساعد الباحث نفسه، الذي كان منزعجًا من المهمة. وفي وقت متأخر من العام 1999، قبل بضعة أعوام فقط من وفاة سعيد، دعت “كومينتري” جوستوس وينر، وهو محام يهودي أميركي عمل في وزارة العدل الإسرائيلية، للتشكيك في جذور سعيد الفلسطينية. وقبل وقت قصير من نشر مذكرات سعيد “خارج المكان” في العام 1999 ، نشر وينر مقالاً عن سعيد بعنوان “بيتي القديم الجميل” My Beautiful Old House، وآخر بعنوان “فبركات إدوارد سعيد”. وكان وينر قد انتقد في وقت سابق كتاب سعيد “القضية الفلسطينية”، لكن نقده الجديد ذهب إلى أبعد من ذلك، متحديًا جذور سعيد في فلسطين جملة وتفصيلاً (وهي حجة من الغريب أن تأتي من بوسطني هاجر إلى إسرائيل).
بقدر ما أعلنت غولدا مائير بجرأة أن الفلسطينيين غير موجودين، ادعى وينر -وهو مفكر يهودي آخر مولود في الولايات المتحدة ذهب للعمل مباشرة لصالح دولة إسرائيل- أن سعيد لم يكن فلسطينيًا حقًا، وبالتالي فإن عائلته لم تصبح لاجئة حقًا في حرب العام 1948. وفي الرد، لخص سعيد حجة وينر: أن الفلسطينيين كاذبون ولا ينبغي لأحد أن “يصدق كل هؤلاء الفلاحين الذين يقولون إنهم طردوا من أراضيهم”، وأن الواقع هو أن “الأرض كلها ملك لشعب إسرائيل [لأن] الله أعطاها لهم”. لكن من المدهش أن سعيد، كما فعل مرات عدة، أنهى مقاله بالإصرار على التعايش السلمي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وأصر في كتابه “القضية الفلسطينية”، على أن ماضي ومستقبل الشعب الفلسطيني، والعرب واليهود “يربطانهم معًا بطريقة يتعذر فصمها”. وأضاف أن هذا اللقاء لم يحدث بعد، لكنه سيحدث في نهاية المطاف “لمصلحتهم المتبادلة”.
*نوبار هوفسيبيان Nubar Hovsepian: أستاذ يدرِّس العلوم السياسية في جامعة تشابمان في أورانج، كاليفورنيا. وهو يضع اللمسات الأخيرة على كتابه المقبل ”إدوارد سعيد: سياسة مثقف معارض” Edward W. Said: The Politics of an Oppositional Intellectual.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Embattled Edward Said
المصدر: (تيارات يهودية) / الغد الأردنية