سركيس قصارجيان
نجحت المساعي التركية في إحداث “اختراق دبلوماسي” على الجبهة السورية لينهي الرئيس رجب طيب أردوغان عام التحوّلات السياسية الكبرى بلقاء يمكن وصفه “بالحل الوسط” الذي أرضى أنقرة وأكسب دمشق المزيد من الوقت للتفاوض بشروطها.
شهدت العاصمة الروسية لقاء هو الأعلى مستوى في سلّم البيروقراطية بين شخصيات تركية وسورية رفيعة المستوى منذ أكثر من 11 عاماً، حينما قررت أنقرة آنذاك قطع علاقاتها الدبلوماسية مع جارتها الجنوبية غداة اجتماع “عاصف” بين وزير خارجيتها آنذاك أحمد داوود أوغلو والمسؤولين السوريين.
التطبيع ورقة أردوغان الرابحة
على الرغم من أهمية اللقاء كأبرز نقطة تحوّل في شكل العلاقات التركية-السورية، إلا أن الاجتماع بحد ذاته لم يكن مفاجئاً بالنسبة لمتابعي الملف، وخاصة السياسة الخارجية التركية، التي سجّلت خلال أقل من عامين تبدّلات ثورية في المواقف من العديد من الدول الاقليمية.
فأنقرة التي نجحت في تسوية خلافاتها مع أقطاب الخليج العربي في كل من الرياض وأبوظبي، وأعادت المياه إلى مجاريها مع تل أبيب وأذابت الجليد في المياه المتوسطية مع القاهرة، أعلنت على الدوام استعدادها للقاء الأسد دون الخوض في تفاصيل هذا اللقاء متفادية النقاشات حول ثمن هذا اللقاء ومتطلبات الـ”له وعليه”.
وفي حديث إلى “النهار العربي”، يؤكد مصدر إعلامي مقرّب من الحكومة التركية، اشترط عدم الكشف عن اسمه كونه غير مخوّل بالإدلاء بالمعلومات المذكورة، أن “لقاء وزيري الدفاع في البلدين مقرر منذ أكثر من أسبوع، وانعقاده قبل نهاية العام له رمزيته بالنسبة للطرف التركي على الأقل”.
وحسب المصدر فإن “اللقاء الذي تم بالأمس في موسكو يعتبر حصيلة الاجتماعات التي بدأت مع رؤساء اجهزة المخابرات في البلدين، وهو يعكس الصورة البروتوكولية لرفع مستوى اللقاءات التركية-السورية إلى سويّة نصف دبلوماسية ونصف عسكرية، بانتظار اللقاء المرتقب بين وزيري خارجية البلدين خلال الشهر المقبل إيذاناً للانتقال من اللقاءات الاستخباراتية والعسكرية إلى الدبلوماسية”.
وعن تفاصيل اللقاء، يروي المصدر المقرّب من شخصيات رفيعة المستوى في الحكومة التركية أن “الطرف التركي ركّز خلال اللقاء على الاقتصاد في التقديمات مقابل الحصول على وعود من قبل سوريا في ملفي العملية العسكرية واللاجئين”.
يرتبط كل من ملفي العملية العسكرية واللاجئين بشكل مباشر بالانتخابات التركية منتصف العام المقبل، وهو ما قد يفسّر الاصرار التركي عليهما. يرى الرئيس التركي في أي عملية عسكرية موجّهة ضد الكرد، مهما كان حجمها ونتائجها، وسيلة ناجعة لتمكين قاعدته الشعبية في صفوف الناخبين القوميين، فيما يعدّ ملف اللاجئين، الأكثر تأثيراً على أصوات الناخبين الأتراك من مختلف التيارات، وهو ما اختبره الرئيس التركي وحزبه في الانتخابات الأخيرة عام 2019، حينما نجحت المعارضة التركية في حصد البلديات الكبرى استناداً على خطابها المعارض لسياسات الحكومية الخاصة باللاجئين السوريين وإطلاق الوعود بإعادتهم إلى بلادهم بالاتفاق مع دمشق.
ضغوط روسية
ولم يعد خافياً حجم الضغوط التي تمارسها موسكو على دمشق لحضها على تطبيع علاقاتها مع أنقرة قبيل انطلاق الحملة الانتخابية للرئيس التركي، الذي يتوقّع أن يركّز في جزء كبير منها على محوري الأمن القومي عبر الحدود والأمن الداخلي والاقتصادي عبر اعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.
في المقابل، تواصل دمشق اصرارها على عدم منح “ورقة التطبيع” الرابحة مجّاناً لأردوغان، أو ارضاء لبوتين الراغب في فوز شريكه، مشترطة جدية تركية في رغبتها في التطبيع إلى ما بعد الانتخابات، وخطوات عملية تعزز هذه الجدية وتسهم في اعادة بناء الثقة المنهارة بين الجانبين.
إلى جانب حسابات الانتخابات، ثمة دافع آخر لدى روسيا للإسراع في انجاز المصالحة التركية-السورية. أسهمت الحرب الأوكرانية في تغيير موازين القوى في العلاقة الروسية-التركية، اذ عززت الحرب من الندية في هذه العلاقة، بعد أن كانت الكفة راجحة لصالح حليفة دمشق بنسبة كبيرة. ونجحت موسكو خلال الأعوام الماضية في ضبط السلوك التركي بواقع هذه الأفضلية، حيث تشكّل الضربة الجويّة التي أودت بحياة اكثر من 35 جندياً تركيا في ادلب قبل عامين، وفي أوج التهديدات التركية ضد دمشق، خير دليل على ذلك.
لكن، بالنظر إلى الظروف الحالية، من المستبعد أن تنجح روسيا في ضبط التهديدات التركية، ويمكن أن تشكل الاستهدافات التركية لنقاط الجيش السوري الشهر الماضي إشارة إلى ذلك العجز، وبالتالي فإن الحفاظ على الحليف السوري والشريك التركي بالنسبة لروسيا يكون بعدم نشوء أي صدام بينهما، وهو ما لا يمكن ضمانه إلا من خلال تطبيع العلاقات السورية-التركية.
في الاجتماع الأخير، يبدو أن دمشق نجحت في ارضاء حليفتها مع الاصرار على “عدم التطبيع من اجل التطبيع فقط”، وذلك من خلال ترجمة هذه الضغوطات إلى لقاء على مستوى وزراء الدفاع بثقل عسكري لا يوحي الكثير سياسياً ولا يرسم صورة دبلوماسية بشكل صريح.
اغراء دمشق اقتصادياً
ليست ورقة الضغط الروسي وحدها، التي تساعد أردوغان في إقناع الأسد بالمضي قدماً في مسار التطبيع. وتحاول أنقرة المتعثرة اقتصادياً اغراء جارتها المتأزمة عبر ورقة الاقتصاد أيضاً.
وتعيش سوريا أزمة اقتصادية غير مسبوقة تتمثل في انعدام حوامل الطاقة من جهة ومواصلة العملة المحلية خسارة قيمتها بشكل يومي، مقابل قانون عقوبات أميركي جديد تتوعّد واشنطن بان يكون أشد فتكاً من “قيصر” الخانق أصلاً.
في ظل كل ما سبق، يكشف المصدر المطلّع لـ “النهار العربي” أن “أنقرة قدّمت خلال الاجتماع عدداً من الوعود ذات النفع الاقتصادي من قبيل ايصال الغاز الروسي إلى سوريا فور اتمام مشروع جعل تركيا مركزاً لتوزيع الغاز الروسي، وفتح إحدى البوابات الحدودية الرسمية (باب الهوى أو باب السلامة)، وتزويد سوريا ببعض المنتجات التركية او الأجنبية وغيرها”.
وردّاً على سؤال حول قدرة تركيا المتعثّرة اقتصادياً على تقديم حوافز لدمشق، يشير المصدر إلى “استفادة تركيا أيضاً من عملية التطبيع وذلك من خلال الوصول إلى الخليج العربي وحتى شمال أفريقيا برّاً عبر سوريا، بالإضافة إلى تراجع الهدر الذي تتسبب به رواتب المسلّحين في شمال سوريا”.
حرب إعلامية
وفي حين اسهبت وسائل الإعلام الروسية والتركية في الحديث عن الاجتماع وبنوده وبعض التسريبات عن فحواه، فقد كانت دمشق، على عادتها، آخر المعلنين لخبر الاجتماع، وذلك من خلال بيان مقتضب صادر عن وزارة الدفاع السورية، التي وصفت فيه الاجتماع “بالايجابي”.
لكن صحيفة “الوطن” المقرّبة من الحكومة السورية، نقلت عن “مصادر مطّلعة” قولها: “لو لم تسر الأمور وفقاً لما تريده دمشق خلال الاجتماعات الأمنية لما حصل اللقاء”.
بالمقابل، رأى مدير الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون (الرسمي) في سوريا حبيب سلمان، “عودة تركيا للحديث عن التعاون مع سوريا اعترافاً (منها) بخطأ السياسات التي لطالما أعلنت دمشق أنها لا تخدم إلا الأعداء”.
واعتبر سلمان في منشور عبر حسابه الشخصي في فايسبوك أن “تقييم وزارة الدفاع السورية للقاء في موسكو مع الأتراك بالايجابي يعني ان تركيا أكدت التزامها باحترام سيادة الجمهورية العربية السورية ووحدة وسلامة أراضيها والانخراط في مكافحة الإرهاب بدلاً من دعمه وكذلك برفض أي طرح انفصالي إضافة إلى إنهاء وجود أي قوات أجنبية غير مشروعة بما فيها التركية”، مضيفاً: “لكن تبقى العبرة في الأفعال والسلوك وليس بالكلام”.
من الواضح أن كلاً من الخبر والمنشور يهدفان إلى التأكيد على عدم وجود أي تراجع أو “تراخ” في الشروط التي أعلنت عنها دمشق سابقاً من أجل انجاز المصالحة المنشودة، مع الإشارة إلى وجود قبول تركي، ولو لم يكن معلناً بعد، بهذه المطالب.
أما التصريح الأكثر جذباً للانتباه في كل ما سبق، هو ادعاء أحد المحللين المقرّبين من الحكومة التركية، عبر شاشة اخبارية عربية بانعقاد لقاء بين وزير الخارجية التركي والرئيس الأسد في اللاذقية قبل 10 أيام، وهو ادّعاء ردّ عليه مصدر سوري رفيع المستوى واصفاً إيّاه “بالنكتة”.
المصدر: النهار العربي