ضرب زلزال عنيف وسط وشمال غربي سورية، مع ولايات في جنوب تركيا، فجر الاثنين 6 شباط/فبراير الحالي، وسط حالة من الخوف والذعر تخيم على المدنيين. ورصدت منذ اللحظات الأولى للزلزال، عمليات إنقاذ واسعة، تشارك فيها فرق الدفاع المدني والطواقم الطبية ومتطوعون من القوى الأمنية والعسكريين، للعالقين تحت أنقاض الأبنية التي انهارت، وترافق الأمر بالأمطار الغزيرة التي لم تتوقف، فضلاً عن المشافي التي تشهد استقبال أعداد كبيرة من الجرحى والمصابين، مع إطلاق مناشدات للسكان عبر مآذن المساجد ووسائل التواصل الاجتماعي، بالتوجه إلى المشافي للتبرع بالدم لإسعاف الجرحى.
رُبما من حقّ السوريين المكلومين القول، وتبنّي الاعتقاد الخاطئ بأن الزلزال تحالف مع من هجرهم ودفعهم للعيش ما بين المخيمات العشوائية والنازحة إلى مختلف المناطق في تركيا والشمال الغربي لسورية، وما بين من بقي في بيته المتصدّع والآيل للسقوط جرّاء القصف، فقد جاءت الهزات الأرضية بعد سنوات من القصف الروسي وقصف عصابات الأسد، التي دُمرت فيه البنى التحتية، بما فيها المستشفيات، لتجعل الهزات الأرضية حياة السوريين لا تحتمل. فمن لم يُدمّر منزله بالقصف دمّره الزلزال. وهي إضافاتٌ جديدة لمأساة السوريين، فغدرت الطبيعة بمن بقي حالماً بيوم جديد. وإن كانت مأساة الزلزال فاقت مأساة القصف الأعمى، حيث إن الثواني الأربعين التي استغرقها الزلزال علّمت السوريين أن الطبيعة أكثر قساوة من البشر إن غضبت.
فلم يكن متوقعًا أن تضرب كارثة طبيعية أناساً ضعافاً بهذه الطريقة، فالمنطقة التي تعتبر واحدة من مناطق العالم التي تواجه أزمة إنسانية حادة، ويعيش فيها أكثر من 4.5 مليون نسمة، في مساحة لا تتجاوز 4% من أرض سورية، وتم تدمير نسبة 65% من البنى التحتية فيها، ويعتمد 90% من سكانها على المساعدات الإنسانية. وإن كان سكان تركيا قد عاشوا لحظة الخطر بدرجات أكبر وأقوى. فإن قاطنو الشمال السوري، قد دفعوا ضريبة وصول الارتداد إليهم، إذ أن منطقتهم غير مهيأة لاستقبال أي درجة من الزلازل، فتركيا، بكل ما تملكه من إمكانات دولة عريقة وبنية تحتية متماسكة ومتطورة، رفعت حالة الإنذار إلى المستوى الرابع، فكيف يمكن وصف الشمال السوري، والذي لا يتجاوز وصفه سوى بالمناطق المنكوبة أصلاً، حتى قبل الزلزال.
وتعتبر هشاشة المباني والتصدعات الكبيرة فيها، نتيجة القصف السابق من عصابات الأسد والمقاتلات الروسية، جعلها ضعيفة جداً في مقاومتها للزلزال، وكانت أولى المباني التي بدأت في الانهيار فوق رؤوس أصحابها، ومع استمرار فرق البحث والإنقاذ بعمليات انتشال الضحايا وإخلاء الجرحى تواجه الكثير من العائلات حالة من التيه الكامل المشبّع بالألم والفراق والعجز. وفي حين ما زال كثيرٌ من أفرادها يبيتون في العراء وداخل السيارات على أطراف الطرقات، سلك آخرون طريق نزوحٍ جديد، إذ قصدوا أقربائهم ومعارفهم القاطنين في المخيمات. فمع حلول الكارثة التي لم تُبقٍ أي شيء على حاله فوق الأرض باتت هذه الرقع القماشية ملاذا آمنا لمن بات عاجزاً عن تأمين منزل بعد انهيار مسكنه، أو الخائف من العودة إلى الجدران التي باتت متصدعة، بعدما كانت تأويه.
ومع تشريد الأحداث للملايين، فإن الاحتياجات الإنسانية باتت اليوم أكبر من أي وقت مضى، وفي ظل إخفاق الدبلوماسية المدعومة من الأمم المتحدة في تحقيق أي انفراجه في حل القضية السورية، فسورية الآن أصبحت بحاجة أكبر للمساعدات الدولية، بعد واحدة من أكبر الهزات الأرضية في القرن الحادي والعشرين، فقد عملت فرق الإنقاذ على مدى سنوات على إنقاذ الناس من القصف والغارات الجوية التي تشنها عصابات الأسد أو القوات الروسية، التي غالباً ما تضرب الموقع نفسه مرات عدة، مما يعرض حياة المسعفين للخطر، لكن طقس الشتاء البارد يشكل تحدياً آخر لعمال الإنقاذ، الذين قالوا إن العائلات تُركت في درجات حرارة شبه متجمدة وأمطار غزيرة.
وفي حين تعمل فرق البحث والإنقاذ في الوقت الحالي على أولى مراحل مواجهة الكارثة، بإخلاء الجرحى وانتشال الضحايا، إلا أن المراحل الأخرى التي من المفترض أن تليها لا توجد أي مؤشرات على إمكانية المضي فيها، والتي يجب أن تركز على البحث عن مأوى بديل للخارجين من تحت الأنقاض، لكن المشكلة كبيرة بسبب ظروف الشتاء وغياب المأوى البديل. وإذ فضح الزلزال المسؤولين والتّجار ومتعهدي البناء، من خلال التلاعب بنسب مواد البناء، حيث شهدت مبان تشقّقات كبيرة أو هبوطاً جزئياً أو كلياً، في مناطق بعيدة عن الزلزال، نتيجة قلة المواد المستخدمة من الإسمنت والحديد وغيرها في البناء. فقبل الثورة كانت نسبة الرقابة في مناطق الأرياف قليلة، في مقابل الفساد الكبير، وخلال السنوات الماضية لم يختلف الحال كثيراً، بينما لم يكن شمال غرب سورية مهيأ لوقوع الزلازل. والمفارقة الأكبر أنه، في الوقت الذي كانت فيه الأنشطة الإنسانية والإغاثية تتركز قبل الزلزال على جهود نقل ممن هم في الخيام إلى منازل مسبقة الصنع، جاءت الكارثة لتقلب كل شيء، ليتحول أصحاب المنازل والمساكن الإسمنتية إلى مشردين.
وفي هذه اللحظات التي بلغت فيها حصيلة ضحايا الزلزال في شمال غربي سورية لأكثر من 2037 حالة وفاة وأكثر من 2950 مصاباً، ومع استمرار عمليات البحث عن ضحايا الزلزال وسط ظروف صعبة جداً بالعمل تحت أنقاض المباني المدمرة بعد مرور أكثر من 100 ساعة على الزلزال، ومع توقع ارتفاع عدد الوفيات غير ناجمة عن الزلزال فحسب، بل عن مبان غير مضبوطة بشكل جيد ورديئة النوعية، فإننا نرى بأن المأساة لا تنتهي بانتشال الأحياء أو الجثث من تحت الأنقاض، فالكارثة التي تعقب الزلزال هي الأكبر، وما يمكن أن نراه بأن السوريون محاصرون في كلّ مكان، ومطلوبون لكلّ شيء، والأكثر فجاعة أنّهم لا يموتون ميتة طبيعية، فالزلزال العنيف الذي عصف بمناطق في تركيا وسورية يستدعي من كل الشعوب والدول، خصوصاً تلك التي تمتلك القدرات، وكذلك من المنظمات والمؤسسات الدولية، وقفةً تضامنيةً جادة ومسؤولة وتضافر جهود ومساعدات لإنقاذ ما يمكن انقاذه من تحت الركام ولبلسمه جراحات المنكوبين وإيواء المشردين فضلاً عن إعادة البناء والتعمير. فالشعب السوري، وكذلك تركيا، يستحقان كل دعم ومساندة.
المصدر: إشراق