في الذكرى الخامسة والستين لإعلان قيام الوحدة المصرية – السورية التي كانت أولى الفرص الكبرى لتحقيق وحدة عربية حقيقية في تاريخ العرب المعاصر، بما توفّر لها من امتداد جماهيري، ومن خطـاب وحدوي تاريخي جذري نابع من زعيم ” كاريزمي “.
لقد شكّل العامل الخارجي دوراً أساسياً في قيام تلك الوحدة، إذ إنها انبثقت من أرضية الصراع في سبيل الاستقلال، وضد سياسة الأحلاف الغربية، ثم مروراً بالعدوان الثلاثي، و” مبدأ ” الرئيس الأميركي أيزنهاور لإحلال الاستعمار الامريكي الجديد محل الاستعمار التقليدي القديم لفرنسا وبريطانيا، وبذلك جاءت الوحدة وسط حالة حرب سياسية من أكبر حالات الحرب الباردة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية.
ونظراً إلى ما تحتله الوحدة المصرية – السورية من منزلة خاصة في تاريخ الحركة العربية المعاصرة، وبخاصة عوامل نشوئها وأسباب تفكّكها، فقد أصبحت دليلَ عملٍ للفكر القومي في معالجته قضية الوحدة العربية. فحينما وُلِدَتْ فكرة الوحدة بين مصر وسورية، كان ثمة تمايزٌ في المنطلقات بينهما تجاه قضية الوحدة العربية. ومنشأ هذا التمايز أنّ الفكر القومي العربي دخل إلى مصر متأخّراً بالنسبة إلى بلاد ما بين النهرين، وفي مقابل ذلك كان الوعي القومي منتشراً في سورية، سواء على مستوى القيادات السياسية أو على مستوى الجماهير الشعبية، ولهذا وُصِفَتْ سورية بأنها ” موئل الوحدة العربية وبؤرة الاستقطاب فيها ومحور كل مشروع وحدوي وهدفه “.
إنّ العودة إلى تاريخ الحركة القومية في المشرق، وبخاصة في” سورية الكبرى “، تثبت أنّ الوحدة المصرية – السورية لم تكن تجربة فرد أو منظمة أو جماعة معينة، وإنما جاءت وليدة تيار شعبي ورغبة جماعية. وما الأدوار التي قامت بها القيادات المصرية والسورية سوى تعبير عن رغبة الشعبين بالقطرين في تحقيق الوحدة.
إنّ تحقيق الوحدة كان، في واقع الحال، برهاناً قاطعاً على نهاية الاستعمارين البريطاني والفرنسي في العالم العربي، مثلما كان انهيارها في العام 1961 العلامة الأساسية لسيرورة جديدة هي سيرورة صعود الولايات المتحدة الأمريكية، كقوة إمبريالية تنفرد في التحكم بمقدّرات العالم العربي، وتخلق فيه – بالتالي – ظروفاً جديدة خاصة بهيمنتها.
ومن جهة أخرى فقد وضعت وحدة العام 1958 العرب على خط تطوّر جديد، فقد أثبتت أنّ الكيانات السايكس – بيكوية يمكن أن تؤدي دوراً متناقضاً مع المساومة التاريخية التي أنجبتها، إن هي رجّحت كفة الحركة الشعبية بداخلها رجحاناً يؤدي إلى تبدّل وظيفتها وإلغاء طابعها كجهاز سياسي تابع.
لقد كانت الوحدة المصرية – السورية أكبر من حجمها بكثير، وكان إشعاعها يمتد من شواطئ الأطلسي في المغرب الأقصى إلى شواطئ الخليج العربي. وكانت الجماهير، على امتداد العالم العربي، تبارك هذه الوحدة وتلتف حولها، لأنها جاءت معبّرة عن أملها في إنشاء الدولة العربية الواحدة.
لقد تنوّعت الاجتهادات في تفسير أسباب الانفصال يوم 28 سبتمبر/أيلول 1961، ونستطيع أن نميّز من خلال كثير من الرؤى والاجتهادات حزمتين من الأسباب (1): أولهما، حزمة العوامل الخارجية، وهي التي تهتم بالعوامل المشكّلة للبيئة المعادية للوحدة عالمياً وإقليمياً وعربياً، وقد شملت مواقف كل من الغرب بقيادة الولايـات المتحدة الأميركية، والاتحاد السوفياتي، وتركيا، وإيران، وإسرائيل، والقوى العربية المعادية للوحدة. وثانيتهما، حزمة العوامل الداخلية، وقد تعدّدت تلك العوامل حيث شملت التعجيل في إتمام الوحدة دون التحضير الكافي لها، وغياب الديمقراطية ودولة المؤسسات، وعدم ملاءمة بعض الإجراءات للواقع الاجتماعي السوري، وتوسّع انتشار الأجهزة الأمنية، والإجراءات الاستثنائية…الخ.
وفي محاولة للتعمّق في هاتين الحزمتين ذهب المفكرون والمحللون في هذا السبيل مذاهب شتى (2):
(1) – اتجاه ركّز على اختلاف مراحل التطوّر بين مصر وسورية، وهو الرأي الذي أشارت إليه القيادة المصرية – آنذاك – أكثر من مرة، وعبّر عنه الميثاق الوطني للجمهورية العربية المتحدة في العام 1962، عندما تحدّث عن أنّ استعجال مراحل التطوّر نحو الوحدة ترك من خلفه فجوات اقتصادية واجتماعية استغلتها العناصر المعادية للوحدة كي تطعنها من الخلف.
(2) – اتجاه أشار إلى أنّ الوحدة تمّت دون إعداد كافٍ وتحت تأثيرات عاطفية مؤقتة، فكان هناك من يرى أنّ الجماهير السورية كانت تعبّر عن ثورة حماس مع عدم وجود روابط كافية بين البلدين في عديد من المجالات، ما عدا الاتفاق على شخص جمال عبد الناصر. ومن الناحية الأخرى تمّت الإشارة إلى انخفاض مستوى الوعي السياسي القومي في مصر.
(3) – إبعاد القوى السياسية التي أسهمت في إنضاج الرأي العام السوري للوحدة مع مصر، وفي هذا الصدد قال صلاح الدين البيطار ” كنت أقول أنّ الحلَّ هو بتصحيح الوحدة. ولكنْ كنت أشعر أنّ كلامي كان نظرياً، لأنّ التصحيح يحتاج إلى عودة من قبل الرئيس عبد الناصر إلى بعض أفكارنا، ولم يحدث ذلك “.
(4) – أدى مسار الوحدة إلى تحييد تلك القوى التي طالبت بالوحدة، أو شلّها سياسياً، وإلى شعورها بأنّ الوحدة لم تحقّق ما كانت تصبو إليه من أهداف، فعندما تحركت قوى الانفصال وجدت الساحة السياسية مهيأة لها.
(5) – ساد سورية شعور بوطأة ” الهيمنة المصرية “، وبأنّ هذه ” الهيمنة ” تضرُّ بمسار الوحدة.
لقد عبّرت الأسباب، المذكورة أعلاه، عن وجهتي نظر القيادتين السورية والمصرية آنذاك، ولكنْ في الواقع فإنّ الأسباب الأعمق للانفصال يمكن تحديدها كما يلي:
(أ) – أنّ الوحدة الاندماجية لم تخضع لعملية تنظيم مبرمج تستطيع من خلالها أن توحّد بالتدريج، وبالوسائل الإعلامية والتثقيفية، وفي أوساط الشعب، بين المفهوم والوعي القومي لدى الشعبين المصري والسوري، فتحقّق تقارباً متدرّجاً بين تلك المفاهيم.
(ب) – الأخطاء التي وقعت في إطار الوحدة، والتي مسّت حماسة الشعب السوري للوحدة، خاصة التضييق على الحريات الديمقراطية وسيطرة استخبارات عبد الحميد السراج على كل مفاصل الحياة في سورية، فبدأ شعور بالإحباط يتراكم، بمرور الزمن وتتابع الأخطاء، إلى أن استطاع اعداء الوحدة في الداخل والقوى الخارجية أن ينفذوا من باب الأخطاء ليقوموا بالانفصال.
(ج) – غياب الديمقراطية عن دولة الوحدة، سواء في التنظيم السياسي الوحيد للجمهورية العربية المتحدة ” الاتحاد القومي “، أو في الأنساق التشريعية والتنفيذية. ونعتقد أنّ غياب الديمقراطية قد أدى إلى نشوء أكثر الأسباب السابقة.
وبالرغم من كل ذلك، فإنّ تجربة الوحدة المصرية – السورية تُعَدُّ من أبرز التجارب الوحدوية في التاريخ العربي المعاصر، فقد كانت تلبية لحاجات حقيقية بين البلدين، وكانت ردّاً على التحديات الإقليمية والدولية التي واجهت قطرين متحررين، وكانت استكمالاً لعناصر القوة، ليس في القطرين وحدهما، وإنما لقوى الشعوب العربية على امتداد العالم العربي، وكانت أيضاً خطوة على طريق تحقيق الوحدة العربية.
فبقيام الوحدة نشأت أوضاع جديدة على امتداد المنطقة كلها، تتجاوز كثيراً حجم البلدين، كما أدّت إلى تغيّرات عميقة تجاوزت المنطقة، فكانت ثورة يوليو/تموز1958 في العراق، وكان تعاظم الثورة الجزائرية، وكانت الثورات والتحوّلات في القارة الأفريقية، وكان أيضاً تغيّر نظرة العالم إلى الوحدة وإلى الجمهورية العربية المتحدة.
وبانهيار الجمهورية العربية المتحدة في العام 1961 بدأت سيرورة تاريخية جديدة ذات سمات نوعية خاصة، أبرزها قاطبة (3):
(1) – هيمنة الولايات المتحدة كقوة إمبريالية وحيدة على المنطقة العربية.
(2) – تبدّل دور الدول الإقليمية من دول تحافظ على الوضع القائم إلى دول تمسك بعملية تغيير تؤدي إلى إنتاج علاقات رأسمالية تابعة، ولكن على مستوى واسع وعام يشمل المجتمع بأسره، ويؤدي إلى تعميق التبعية، وإلى نشرها فوق الرقعة الاجتماعية بكل وجودها وأصعدتها.
(3) – تبدّل الحلف الطبقي الممسك بزمام السلطة في سورية، وتغيّر ملحوظ في الأيديولوجية السائدة خلال فترة حكم نظام الانفصال (28 سبتمبر/أيلول 1961 – 8 مارس/آذار1963)، ثم تحوّل الدولة ذاتها إلى مالك عام لوسائل الإنتاج بعد الانقـلاب العسكري الذي جاء بحزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة، أي إلى القوة الأساسية القادرة على إعادة النظر في التشكّل الطبقي للمجتمع، وإلى متحكّم أساسي بتوزيع الدخل الوطني على الطبقات والشرائح والفئات الاجتماعية، وبالتالي تحوّل الدولة من أداة بيد حلف طبقي إلى القوة الممسكة بسائر الطبقات وبقسم كبير من الثروات والعوائد، مع ما يستتبعه ذلك من تبدّل في طبيعتها ودورها، ومن تغيّر في ثقل مختلف مكوّنات المجتمع. بحيث تمّت إقامة نظام جديد، لا هو بالرأسمالي على الطريقة الغربية ولا هو بالاشتراكي على الطريقة الشرقية، نظام يقوم على رأسمالية دولة تابعة، يتوسّل آليات سياسية تضبط سيرورة الإنتاج الاجتماعي وتوزيع فوائض الدخل، يأخذ بآليات تنظيمية هدفها التغطية على واقعه وحقيقته كنظام رأسمالي تابع، يرتبط بالدولة ذاتها وليس بطبقة بورجوازية تمسك بزمام الإنتاج من خلال ملكيتها لوسائله.
وهذا النمط من سلطة الدولة أقام في داخله بنى تحول بذاتها دون توجّهه نحو الوحدة، وتخنق القوى التي تتطلع إلى التوجّه نحو دولة عربية واحدة، أو تعمل لإقامة دولة كهذه. وبهذه البنية النوعية الخاصة، قامت سلطة الدولة السورية بمهمتين تتعارضان تعارضاً جذرياً مع مهام تجسيد الأمة بدولتها القومية: أولهما، فقد فتّتت مجتمعاتها بدل أن تدمجها، وأحيت القوى والمصالح ما قبل البورجوازية، بدل أن تميتها. وثانيتهما، وضعت حدوداً صارمة حيال الدول العربية الأخرى، بدل أن تفتح حدودها الخاصة تجاه أمتها، بينما فتحت الحدود مع الخارج غير العربي، سواء عبر التجارة، أو التبادل الثقافي، أو العلاقات السياسية.
وباختصار، فقد برز وضع جديد، الغرض منه تلبية جملة حاجات، تستجيب لمهام الحفاظ على وضع التجزئة، ولوظائف إعادة إنتاج التبعية، وذلك من خلال إقامة بنى داخل كل دولة تحول دون سير العالم العربي نحو التقدّم على طريق وحدته.
وبسقوط تجربة الوحدة المصرية – السورية تراجع المدُّ الوحدوي، ودخل مرحلة جديدة يمكن تسميتها المرحلة ” الورقية “، لأنّ أغلب المشاريع والمحاولات الوحدوية التي طُرِحَتْ كانت تتسم برد الفعل والمزايدة والإحراج أكثر مما تهدف إلى إقامة الوحدة، أو خلق الظروف التي تساعد على قيامها.
الهوامش
1 – اسكندر، أمين: (الجمهورية العربية المتحدة/تقويم إضافي ورؤية مستقبلية) -عن مجلة ” شؤون عربية “، جامعة الدول العربية – القاهرة، العدد (91) – سبتمبر/أيلول1997، ص 201.
2 – د. كيلاني، هيثم: (تقييم التجارب الوحدوية السابقة/ظروف قيامها وأسباب فشلها) – عن مجلة ” الوحدة “، المجلس القومي للثقافة العربية في الرباط، العدد (65) فبراير/شباط 1990، ص 48- 49.
3 – كيلو، ميشيل: (الدولة والتجزئة العربية) ـ عن مجلة ” الوحدة “، المجلس القومي للثقافة العربية في الرباط، العدد المزدوج (29 ـ 30) ، فبراير/شباط ـ مارس/آذار 1987، ص 57 – 58.