د. مخلص الصيادي
هذا نداء إلى السوريين، وإلى الأتراك، إلى أصحاب الشأن، وإلى الناس عموما على الجانبين، إلى المؤسسات والأشخاص، أن انتبهوا فالأمر جلل، والتصدي له واجب، وكشف ملابساته ضرورة، ومنع تكراره فريضة لا يجوز التهاون إزاءها.
الحديث هنا عن جريمة القتل التي وقعت في بلدة “جنديرس” مساء الإثنين 20 مارس وراح ضحيتها أربعة سوريين من الأكراد، وفي عرض واقعة الجريمة ذكر أن مسلحين من فصيل “جيش أحرار الشرقية” التابع للجيش الوطني الحر أطلقوا النار على مدنيين يحتفلون بعيد النيروز، ويشعلون النار بهذه المناسبة، ما أسفر عن مقتل أربعة منهم وإصابة أثنين آخرين، وتعهدت الحكومة المؤقتة بملاحقة المتورطين وتقديمهم بأسرع ما يمكن الى القضاء.
الجريمة التي نفى “جيش أحرار الشرقية” أن يكون مرتكبوها من عناصره، فجرت غضبا شعبيا غير محدود، وحين تم تشييع ضحايا هذا الاعتداء شهدت جنديرس حشدا غير مسبوق من كافة القرى ذات الأغلبية الكردية والقرى المجاورة مشاركة في تشييع الضحايا، وما كان ملفتا للنظر أنه في موكب التشييع، لم يرفع العلم السوري المعتمد كعلم للثورة، ولا علم أي فصيل من الفصائل المسلحة السورية، وإنما رفع علم “كردستان” المعبر عن تنظيم Pkk.
الجريمة على هذا النحو صورت باعتبارها جريمة ضد “الأكراد” وليست ضد المدنيين السوريين، وبهذه الصفة أخذت طابعا عنصريا، وبالتالي وضعت في خانة دعم الانفصالية الكردية، وحزبيها الأصلي التركي PKK، والفرعي السوري PYD، أي أن الجريمة لم تعد جريمة شخصية، ارتكبت بدوافع ذاتية، وإنما باتت جريمة تستهدف اللحمة الوطنية السورية، تستهدف تقسيم السوريين لإخراج الأكراد من الانتماء الوطني العام، وهم أصل في هذا الانتماء وركن من اركانه، وتصويرهم كمجوعة مستهدفة بسبب أصولها وانتمائها العرقي.
وهنا يبرز سؤال عن حقيقة استهداف هؤلاء الضحايا بسبب أصولهم العرقية، هل صحيح أن هذه الجريمة ارتكبت بسبب عنصري؟، وعلى خلفية الاحتفال بعيد النيروز؟.
الحكومة السورية تنفي في بيانها هذه الطبيعة للجريمة، لكن هذا النفي لا يكفي في دحض هذه الفرضية، وهناك عوامل موضوعية تستدعي النظر إلى ظروف ارتكاب هذه الجريمة بعيون يقظة، وبحواس مستنفرة، ولهذا السبب نسجل ملاحظات عدة:
1ـ الملاحظة الأولى: أن هذه الجريمة ارتكبت فيما كان الأكراد يحتفلون بعيد النيروز، وهو عيد رأس السنة عند الفرس، والأكراد، والبشتون ، والأذريين، وكان أيضا عيدا عند الفراعنة القدماء، والبعض يعتبره عيدا دينيا، والبعض الآخر يعتبره عيدا ثقافيا.
وفي سوريا يقتصر الاحتفال بهذا اليوم غالبا على المناطق ذات الأغلبية الكردية. و”النيروز” يعني في اللغة السريانية العيد، وفي القبطية الأنهار، وهو يكون مع دخول فصل الربيع.
2ـ الملاحظة الثانية: أن هذه الجريمة تمثل وجه من أوجه عدوانية المسلحين على الحياة المدنية في مناطق سيطرتهم، ووجود هؤلاء المسلحين في المناطق الحضرية المشار إليها ليس له مبرر، وليس له قيمة أمنية بل على العكس من ذلك كان وما زال مدعاة للتفلت الأمني حيث الاشتباكات بين هؤلاء المسلحين تكاد لا تتوقف، واعتداءاتهم على المدنيين مستمرة، وإقامة الحواجز ونقاط التفتيش والإعاقة وهي نقاط متنافس فيمت بينها مظهر من مظاهر العدوان على الحياة المدنية. لذلك كانت المطالب الشعبية قبل هذه الجريمة تركز على إلغاء هذه المظاهر المسلحة تخفيفا للضغط الأمني والنفسي الذي تعيشه هذه المناطق، وبعد هذه الجريمة فإن المطالبة بإلغاء هذه المظاهر تبدوا أشد وأوجب.
3 ـ الملاحظة الثالثة: أنه وبسبب توقيت هذه الجريمة وظروفها تولد مباشرة إحساس بأنها ارتكبت لسبب عنصري، وقد استغلت القوى الانفصالية الكردية هذا الإحساس، فنقلت هذه الجريمة إلى مخزون ” المظلومية الكردية” التي تعمل هذه المنظمات على بثها وتضخيمها.
وليس مهما بالنسبة لهذه القوى أن تكون هذه الجريمة قد وقعت فعلا لأسباب عنصرية أم لا، إنما المهم بالنسبة لها التمكن من إضافتها إلى تلك المظلومية المفترضة.
وقد أمكن لهذه القوى تحقيق ذلك، وظهر هذا الاستغلال من خلال هذا الحشد الضخم المشارك في تشييع الضحايا الذي رفع رايات هذه الانفصالية الكردية، بدل أن يرفع اعلام الوطن السوري الذي ينتمي إليه الضحايا. وجاء غياب أي علم للفصائل المسلحة السورية بمثابة اعتراف ضمني باختصاص الأكراد بهؤلاء الضحايا، أي أن هذه الفصائل التي غابت وغابت أعلامها عن المشاركة بالحدث، لم تستطع أن تدرك المعنى الوطني في هذه المشاركة، ولم تستطع أن ترقى إلى مستوى تمثيل السوريين، في التعامل مع هذا الحدث الجلل.
وحين نقول إنه ليس مهما عند التنظيمات الانفصالية الكردية وجود القصد العنصري في هذه الجريمة أو انتفاؤه، فلعلمنا الأكيد أن استغلال مثل هذه الحوادث وتضخيمها وتحويلها إلى “خزان المظلومية” هو الأصل عند هؤلاء، متذكرين كيف أن هذه القوى الانفصالية واجهت بالطريقة والاستهداف نفسها جريمة مقتل الإيرانية ذات الأصول الكردية “مهسا اميني” في طهران في 16 أيلول 2022على يد قوى الأمن الإيرانية الغاشمة، بسبب قضية متصلة بالحجاب، وقد عملت هذه المنظمات حينها على صياغة خطاب عنصري محض، بزعم أنها قتلت لأنها ” كردية”، وليس في ذلك أي وجه من الحقيقة، فلا هي قتلت تحت رايات كردية، ولا هي قتلت في صراع طائفي أو عرقي، ولا هي قتلت في نشاط كانت تقوم به تحت أي مسمى، لقد قتلت ظلما وعدوانا من قبل أنظمة قمعية أقامتها سلطات طهران لقمع الناس، كل الناس، على اختلاف عقائدهم، ومذاهبهم، وأصولهم، ومشاربهم السياسية، لذلك هي قتلت للشكل الذي كانت عليه، دون أن تسأل أي سؤال، ودون أن يدل مظهرها على أي انتماء.
هذه الحركات الانفصالية جعلت “مهسا أميني”، شهيدة للحركة الكردية، في حين أنها على الحقيقة شهيدة ظلم وطغيان “نظام ولاية الفقيه” الفارسي؟.
4 ـ لأجل ما سبق فإنه لا يجوز النظر إلى هذه الجريمة وكأنها جريمة عادية ارتكبها مسلحون من هذا الفصيل أو ذاك، وإنما يجب النظر إليها بأنها جريمة ارتكبت ضد الوطنية السورية، ضد اللحمة الوطنية السورية، أو بأقل الاعتبارات أنها ارتكبت في ظروف وظفت ضد الوحدة الوطنية للشعب السوري، وبالتالي يجب أن تواجه، ويتم التعامل معها من هذه الزاوية.
يجب كشف كل ملابساتها، وتحديد كل عناصرها، ليس فقط المنفذين ـ الذين باتوا معروفين ـ ، ورفع الغطاء عن كل المشاركين في ارتكابها، وتحديد دوافعهم، وإيقاع العقاب بحقهم، وتشديد هذا العقاب إلى أقصى حد، وجبر حقوق أهالي الضحايا، وتحقيق ذلك كله في جو من الشفافية والوضوح والعلنية مما يكون من شأنه إغلاق هذا الملف إغلاقا تاما.
كذلك يجب العمل سريعا على إزالة كل الظروف التي مكنت هؤلاء المجرمين من ارتكاب جريمتهم، وفي مقدمة هذه الظروف انتشار المسلحين في البلدات والمدن الواقعة في ” المحرر”، وإنهاء سطوة المسلحين، ووقف تجاوزاتهم على الحياة المدنية، على الأشخاص والأملاك والثروات، والمحلات والزراعات، والنشاطات اليومية للمواطن السوري في هذه المناطق.
5 ـ في مطلع هذا العرض وجهنا النداء إلى الأتراك وإلى السوريين، وذكرنا الأتراك هنا، ليس فقط باعتبارهم العنصر الرئيس في مناطق انتشار السوريين في ” المحرر” وفي مناطق اللجوء داخل تركيا، وإنما أيضا ـ ولعل هذا أهم ـ لأن هذا الاستغلال العنصري لهذه الجريمة يمثل خطرا على “الأمن القومي التركي”، بمثل ما يمثل خطرا على “الوحدة الوطنية السورية”، وبالتالي فإن تصدي السلطات التركية له، يصبح ضرورة تركية لا يجوز التهاون إزاءها.
إن “العنصرية” في دوافع ارتكاب هذه الجريمة، واستغلال الحركات الانفصالية الكردية لهذه العنصرية ـ حتى ولولم تتأكد عنصرية الدوافع ـ تمثل تهديدا لأمن تركيا القومي، لأن هذه “العنصرية ” تعمل على الجانبين السوري والتركي، وعلى الجغرافيا كما على التركيبة السكانية، وهي على الجانب التركي أخطر، وكذلك هي في هذا الوقت السياسي الحرج في تركيا حيث تقترب استحقاقات الانتخابات العامة والرئاسية تصبح أكثر تأثيرا، ويصبح مطلوبا من السلطات التركية أن تضع جهدا مكثفا في التحقيق بهذه الجريمة، وفي كشف طبيعتها وملابساتها، وفي إعمال العدالة في مواجهتها، وإلى جانب هذا كله، يصبح مطلوبا التدخل الفعال لوقف فوضى السلاح، وفوضى التعدي على المدنيين، وضبط ذلك كله، مباشرة أو عن طريق القوى التي توجهها وتستعين بها، والعمل على جعل الحياة في هذه المناطق أقرب إلى “الطبيعية” حتى لا تتكرر مثل هذه الجرائم، وحتى لا يفسح المجال للانفصالية الكردية لاستغلال هذه الأحداث.
6 ـ وأخيرا فإن هذه الجريمة تأتي في وقت تنشط فيه المساعي من غير جهة لإعادة تعويم نظام بشار الأسد، وتقديمه باعتباره الحل الوحيد الواقعي للحفاظ على سوريا موحدة، منضبطة الإيقاع، وهذه مساع لم تنقطع يوما، لكنها في هذه المرحلة تنشط على أشد وتيرة، وهي تهيئ لمرحلة إعادة إدماج نظام الأسد بالمنظومة العربية، وهناك من يتوقع أن يتم ذلك في قمة الرياض التي ستعقد خلال أسابيع.
“جريمة جنديرس” قد تعمل مثلما عملت زلازل السادس من فبراير على مساعدة النظام والقوى الساعية معه لإنجاز هدف عودته للنظام العربي ومن ثم للنظام الدولي.
والذي يمعن النظر في حقيقة الوضع السوري سيصل الى نتيجة حقيقية مفادها أن أحدا لا يستطيع أن يعيد تعويم النظام السوري، وأن الحل الحقيقي للملف السوري لا بد أن يمر عبر انتهاء هذا الحكم الطائفي المستبد الفاسد والقاتل. لكن من الواضح أنه لا يوجد أحد في النظام العربي والدولي يريد حلا حقيقيا للملف السوري، وبالتالي تغييرا حقيقيا للنظام السوري، ومن هنا فإن جريمة جنديرس، وكل جريمة على نمطها من شأنها ـ كما كان من شأن الزلزال ـ أن تعين القوى العربية والدولية على إبقاء هذا النظام واستمراره، ولو كان ذلك على أرض لا تستقر، وعلى مرجل يغلي بعنف، وبوجود مشاكل لا يستطيع مثل هذه النظام أن يتصدى لها.
إن عقدة المشكلة السورية، والملف السوري، ليس في عواصم العالم العربي أو عواصم الدول الكبرى، ولا في مؤسسات الأمم المتحدة وقراراتها، حتى ولا فيما حققته قوات النظام وحلفاؤها، أو قوات المعارضة ومكوناتها من انتصارات أو وقع عليها من هزائم، وإنما فيما بات عليه وضع الشعب السوري، والوطن السوري، والجغرافيا السورية بفعل ما جرى خلال السنوات الماضية منذ مارس 2011، وما كان قد غرسه هذا النظام في الجسد السوري منذ خمسين عاما.
“مشكلة سوريا في أكثر من مليون قتيل وشهيد، وفي مئات الالف من المفقودين والأسرى، وفي اثني شعر مليون مهجر ولاجئ، وفي دمار لحق بمختلف البنى التحية للحياة السورية، وفي اقتصاد مخرب ومدمر، وفي نظام قائم على تجارة المخدرات، والفساد والنهب، وفي بنية طائفية تتحكم في الدولة ومؤسساتها من الجيش والقضاء والتعليم ومؤسسات اقتصاد والشركات العامة، في تقسيم واقعي للوطن، وفي تخريب دمر الوحدة الوطنية للشعب السوري”.
وإذا كانت هذه هي حقيقة المشكلة السورية، فإن حلها لا يكون إلا في سوريا نفسها، ومن خلال مكوناتها السورية، وكل القوى والعوامل الأخرى مجرد إضافات لتيسير أو تعسير التعامل مع هذا الملف، ومن هذه الزاوية تكون الأهمية الخاصة والمميزة للتعامل الصحيح والحاسم مع جريمة جنديرس.
21 / 3 / 2023
د. مخلص الصيادي