حلمي الخطيب
يحرص العدو الصهيوني، عبر أذرعه المتعدّدة، على استمرار هيمنته على الرأي العام الأميركي، وبالتالي على مراكز صنع القرار، سواء في البيت الأبيض أو مجلسي الكونغرس، فالناخبون في الولايات المتحدة، كما في الدول الديمقراطية عموما، هم الذين يقرّرون من يمسك بزمام السلطة. وأميركا هي الراعي الرسمي لإسرائيل حتى قبل تأسيسها. لهذا نرى الجهد الكبير الذي يبذله العدو لاستمرار سيطرته على شبكات التلفزة الكبرى والصحف وشبكات التواصل، وشركات الإنتاج السينمائي في هوليوود، وعلى قطاع التدريس، سواء على مستوى المدارس أو الجامعات، بغرض أن تبقى الرواية الصهيونية هي الوحيدة المتاحة للجمهور.
منذ تأسيس إسرائيل وحتى فترة قريبة، كان انتقادٌ واحدٌ لسياسة إسرائيل كافيا لأن يفقد هذا الشخص منصبه أو مقعده التمثيلي. وكان أحد أهم معالم الحملة الانتخابية حجيجُ جميع المرشّحين إلى منصب الرئاسة من كلا الحزبين إلى المؤتمر السنوي للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك)، والتي تعد أهم أذرع اللوبي الإسرائيلي، وما يرافق ذلك من تنافسٍ في التصريحات التي تدعم إسرائيل. كما أن الاقتراب من الفلسطينيين، حتى ولو في الحيز الخاص، من المحظورات، فقد خسر أندرو يونغ منصبه مندوب الولايات المتحدة في هيئة الأمم في سبعينيات القرن الماضي لمجرّد تلبيته دعوة من السفير الكويتي بحضور مندوب منظمة التحرير الفلسطينية، كذلك طردت أوكتافيا نصر اللبنانية الأصل من تلفزيون سي أن أن، لأنها ترحمت في صفحتها الشخصية على المرجع الديني اللبناني محمد حسين فضل الله، كما أن “زلّة لسان” لعميدة الصحافيين في البيت الأبيض هيلين توماس أفقدتها وظيفتها ومكانتها في فريق البيت الأبيض للصحافة، وهي الصحافية التي غطّت المؤتمرات الصحافية في البيت الأبيض منذ عهد جون كنيدي وحتى جورج بوش الابن. وكان لها مقعد محدّد يحمل اسمها في منتصف الصف الأول، ولا يجلس عليه غيرها. كما طُردت الصحافية إيميلي ويلدر التي بالكاد بدأت العمل في وكالة أسوشييتدبرس، فقد” اكتشفوا” أن لها مواقف سابقة تنتقد إسرائيل، ولم يشفع لها أنها يهودية. وقبل شهرين رفضت جامعة هارفارد زمالة الرئيس السابق لمنظمة هيومان ريتس ووتش كينيث روث بسبب مواقفه “المنحازة” ضد إسرائيل، رغم أنه يهودي. وقد اضطرّت الجامعة لاحقا للتراجع عن قرارها تحت ضغط الاحتجاجات. وقبل أسبوعين، تم سحب ترشيح الرئيس جو بايدن الحقوقي جيمس كافالارو عضوا مستقلا في اللجنة التي تراقب وضع حقوق الإنسان في الأميركيتين، فقد “اكتشفوا” أن له مواقف مناهضة لإسرائيل. وهناك أمثلةٌ كثيرة تُظهر شدّة الهجمة على كل من يحتمل أن يكون سببا في فضح الرواية الصهيونية لحقيقة الصراع في فلسطين.
طوال عقود، كانت معظم عمليات الانتقاد لإسرائيل تتم بعد مغادرة عضو الكونغرس موقعه، أو همسا خلف الجدران بين أصدقاء حميمين. وكثيرة الطرائف التي رواها أعضاء كونغرس سابقون في مذكّراتهم عن الرؤساء الأميركان وعن أعضاء مجلسي الكونغرس وحرجهم وخوفهم من وصول بعض أقوالهم إلى اللوبي الإسرائيلي، أبرزها حديث الرئيس نيكسون للقس بيلي غراهام في البيت الأبيض: اخفض صوتك لئلا يسمعوننا.
كانت إسرائيل، وما زالت، البقرة المقدّسة للسياسة الأميركية التي لا يجوز المساس بها، حتى ولو قتلت بشكل متعمد عشرات من ضباط البحرية الأميركية وجنودها، حين هاجمت، وعن سبق إصرار، السفينة الأميركية ليبرتي في يونيو/ حزيران 1967، وزرعت لها الجاسوس جوناثان بولارد، وقتلت الشابة الأميركية راشيل كوري في 16 مارس/ آذار 2003 في قطاع غزّة، لم تكترث الإدارة الأميركية كثيرا، بل سعت إلى مساعدة إسرائيل على تجاوز هذه “الهفوات” .
أما التغطية الإعلامية للموضوع الفلسطيني فقد غابت عن الشبكات الإعلامية، وإن حصلت، فبقصد التضليل والدعاية لإسرائيل، وما زال الحال تقريبا على حاله، وإن بدأ يتزحزح قليلا في السنوات الأخيرة، حيث بدأنا نلحظ بارقة أمل في الحصول على “موطئ قدم” في الرأي العام الأميركي، وكل المطلوب بذل مزيد من الجهد المنظم، القائم على عمل مؤسّساتي أكاديمي مهني، بحيث يؤدّي إلى مزيد من التغيير في أوساط الحزب الديمقراطي تحديدا، وصولا إلى مجلسي الشيوخ والنواب.
تُظهر قراءة متأنية، ومن خلال رسم بياني بسيط، التغير في مستوى حضور القضية الفلسطينية داخل المجتمع الأميركي، وخصوصا في السنوات الأخيرة. ويكفي ملاحظة الفارق بين ردّة الفعل على قتل راشيل كوري قبل 20 عاما وردة الفعل على قتل شيرين أبو عاقلة قبل عام.
قبل عامين، لم يذهب أي من مرشّحي الحزب الديمقراطي لمنصب الرئيس إلى مؤتمر “إيباك”، في حين كانت الخطابة أمام هذا المؤتمر أمنية كل مرشح. بل أكثر من ذلك، أصبحنا نسمع انتقادات موجهة لإسرائيل داخل مؤتمر الحزب الديمقراطي وداخل الكونغرس نفسه علنا. ويصل الأمر أحيانا إلى حد الهجوم على إسرائيل، واتهامها بشتى الاتهامات، كما أن كتلة ثابتة من أعضاء مجلس النواب بدأت، قبل بضع سنوات، بأربع عضوات، وتنمو باستمرار، ولا تخفي انتقادها إسرائيل، وإحدى عضوات الكتلة تعرف نفسها أميركية وفلسطينية أيضا، وأقسمت يمين الولاء في الكونغرس وهي ترتدي الثوب الفلسطيني المطرّز. ومع ذلك، تمكّنت من تجديد انتخابها. وبعد الانتخابات النصفية الأخيرة، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 أصبح عدد هذه المجموعة يراوح حول 11 عضوا. وفي السنة الماضية، رأينا جمع 57 توقيعا لأعضاء الكونغرس، تطالب “بالتحقيق” في مقتل شيرين أبو عاقلة، وكيف أخذ مكتب التحقيقات الفيدرالي قرارا بالتحقيق في عملية الاغتيال، وهو أحد أشكال الإدانة الضمنية لإسرائيل، ورأينا كيف وقف الكونغرس دقيقة صمت حدادا على روح شيرين. قبل عشر سنوات، وربما أقل من ذلك، كان حصول مثل هذه الأمور من رابع المستحيلات.
كما أن بعض الموضوعات المتعلقة بفلسطين أصبحت تجد طريقها إلى شاشات التلفزة الأميركية، وإلى الصحف الأكثر شهرة، كنيويورك تايمز وواشنطن بوست، بغض النظر عن الطريقة غير الأمينة أحيانا في نقل الخبر. ولكن، في أحوال كثيرة، الصورة التي لا تكذب كافية دونما تعليق، كما حصل مع تدمير الأبراج السكنية في غزة واغتيال شيرين أبو عاقلة والاعتداء على جنازتها. وحصل اختراق مهم في هوليوود، حيث حازت أفلام فلسطينية على ترشيحات للأوسكار كأفلام “خمس كاميرات مكسورة”، و”الجنة الآن” وفيلم “عمر” .
ويلاحظ انخراط بعض قدامى السياسيين ونجوم السينما من ممثلين وممثلات وعارضات أزياء ومشاهير وصحافيين في دعم القضية الفلسطينية بنسب متفاوتة. نجوم في “هوليوود”، مثل سوزان سوراندن ومارك بوفالو وبن آفليك وروبرت دي نيرو، وعارضة الأزياء الشهيرة بيلا حديد وشقيقتها جيجي حديد، ومدير وكالة الاستخبارات (سي آي أيه) السابق جون برينان! وصولا إلى الرئيسين الأسبقين جيمي كارتر وبيل كلينتون، وغيرهم كثيرون. كما يُلاحظ أيضا بروز نزعة التخلّي عن الارتباط بإسرائيل لدى قطاع واسع من الشباب الأميركي اليهودي، وبعضهم يناهض إسرائيل صراحة، وينشر آراءه بالفيديو. كما ظهرت حركة جي ستريت اليهودية التي تمثل بديلا للذراع الصهيوني “إيباك” على الأراضي الأميركية، على الرغم من أن ما تطرحه هذه الحركة لا يلبّي الطموحات الفلسطينية، ولكنه لا يلبي الطموحات الإسرائيلية أيضا.
ويبدو التغيير أوضح بكثير على الصعيد الأكاديمي في الجامعات، وفي قطاع الطلبة خصوصا، حيث مبادرات كثيرة واعدة، منها على سبيل المثال المبادرة التي انطلقت من هارفارد، ارتداء الكوفية كل يوم خميس في الجامعة، للتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني، وكذلك تنظيم فعاليات في أكثر من 50 جامعة في الوقت نفسه، يوم 21 مارس/ آذار هذا العام، تحت شعار “أسبوع الفصل العنصري الإسرائيلي” لمناهضة سياسة الأبارتهايد الإسرائيلية.
ولا شك أن تقريري أهم منظمتين عالميتين لحقوق الإنسان، هيومان رايتس ووتش والعفو الدولية، اللذين أثبتا أن إسرائيل هي نظام أبارتهايد، قد لعبا دورا في مزيد من فضح سياسات إسرائيل لدى المجتمع الأميركي. وقد وفر تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية، بمن ضمّتهم في صفوفها من “زعران فاشيين”، وما فعلوه، وما صرّح به أحدهم بشأن بلدة حوارة، بالإضافة إلى استمرار المجتمع الصهيوني بالانزياح يمينا وتطرّفا، وانكشاف هذا المجتمع، بفضل المقاومة الباسلة للشعب الفلسطيني، وفر فرصة إضافية لمزيد من العمل في أوساط الرأي العام الأميركي، كما أن وجود شبكات التواصل الاجتماعي، رغم تحيزها ضد المحتوى الفلسطيني، قد سمح بإحداث فتحات واسعة في جدار الهيمنة الإعلامية الصهيونية وبأبسط التكاليف.
لهذا كله، من واجب أي قيادة فلسطينية (مستقبلية، جدّية) أن تولي موضوع العلاقة مع الشعب الأميركي أهمية عظمى لما له من تأثير على الصراع الفلسطيني الصهيوني. إن مؤسسة جدّية، كفوءة، مختصّة بالأميركان الفلسطينيين، بعيدة عن التجاذبات السياسية الفلسطينية الداخلية، تساعد جهود الفلسطينيين، والجالية العربية بشكل عام، والمجموعات المساندة لفلسطين على الأراضي الأميركية، وتنسقها، أمر ضروري وملحّ، ويجب أن تنال الأهمية التي تستحقها.
المصدر: العربي الجديد