د- عبدالله تركماني
بداية، من الأهمية بمكان تحديد المصطلح، إذ إننا نعيش في ظل ثقافات متعددة لكل منها رؤيتها المتميزة للعالم، وهنا تكمن أهمية حوار الثقافات.
ففي عالم مليء بتحولات ثقافية راديكالية فإنّ أهم الأسئلة، التي يستدعيها تعدد الثقافات، هي: كيف نفكر في تواصل التاريخ، وفي المحافظة على الأمل بحياة أفضل لأكبر عدد ممكن من شعوب العالم؟ وهل نستطيع الحفاظ على رؤية لمشروع حضاري كوني يتماشى مع التعددية ويغتني بالثقافات المتنوعة؟ وهل نمت حضارة من الحضارات وحيدة بمعزل عن التفاعل مع الثقافات الأخرى؟
إنّ هذا الزمن العالمي المتغيّر يفرض الحاجة إلى الاكتشاف المكثف للآخر، حيث أصبحت الدعوة لحوار الثقافات تمثل القاسم المشترك بين الكثير من المثقفين ورجال السياسة والدين والمفكرين، ومن القضايا ذات الأولوية في العالم المعاصر، فلم يعد الحوار أمراً ثانوياً أو هامشياً وإنما أصبح ضرورة حياتية لكل الشعوب، فقد تقاربت المسافات وتشابكت الثقافات وأُزيلت الحواجز بفضل ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية، وما صاحب ذلك من تيار جارف للعولمة.
ومن هنا أصبحت الدعوة إلى حوار الثقافات ضرورية، لأنّ كل ثقافة من الثقافات التي يزخر بها العالم، في ضوء التنوّع البشري الخلاّق، يمكن أن تسهم بأفكارها وحلولها. فلم يعد بالإمكان تقوقع الذات عن الآخر، إذ أصبح تشابك العلاقات الإنسانية، وما تواجهه من تحديات تجاه قضايا مشتركة، يفرض على الذات أن تدخل في الحوار، من أجل المصلحة العامة التي تجمع بين البشر.
فعلى عكس ما تزعم الأصوليات من كل حدب وصوب فإنّ مستقبل البشرية ليس للصدام الحضاري وإنما للتفاعل والحوار والاستفادة المتبادلة. إنّ العالم غني بثقافات القارات الخمس، ومضطر إلى صياغة قواعد لتعايشها وانسجامها. إذ إنّ التقوقع الثقافي لم ينفع أهله في القرون الماضية، ولن ينفعهم اليوم، فالتجدد صفة تحفظ حيوية الثقافة، والانفتاح على العالم والآخر من سماتها المميزة، فهي كالهوية ليست ثابتة إنما متحولة وكل من يتعامل معها من دون وعي بخصوصيتها يدمر أجمل ما فيها.
وهنا تكمن صعوبة الدور المنوط بمثقفينا العرب النقديين حين يجعلون الثقافة موضوعاً للفهم والتحليل وليس صنماً للتقديس، على اعتبار أنّ الثقافات جميعها وسائط للتعبير الإنساني ومعابر للوصول إلى الكوني الذي يجمع البشر.
إنّ المثقف المقصود هو من يقبل الانتماء المزدوج، انتماء نقدي إلى ثقافته وانتماء طوعي إلى مجتمع عابر للقوميات والأوطان والأديان، مجتمع عابر للثقافات يحاول أن يصوغ لغة تداول كونية بين البشر وينحت إشكالات ومفاهيم وحلولاً تستجيب لتطلعات الإنسان لحياة حرة كريمة. إذ إنّ التفكير من داخل المحلي وحده إعادة إنتاج للثقافة دون إبداع وترديد للتراث دون نقد، في حين أنّ محاولة بلوغ الكوني دون تأمل المحلي تهرّب من مهمة المساهمة في التغيير واكتفاء بترديد الأفكار دون التزام بنشرها في مصطلحات تفهمها الأغلبية ودون ربطها بما تراه قضاياها ومشاكلها. والحداثة النقدية هي التي تقبل هذا الانتماء المزدوج وهذا الجهد المضاعف المتمثل في تأمل المحلي وسيلة لبلوغ الكوني، وتأمل الكوني وسيلة لإدراك المحلي.
وهكذا، توجد طريقتان لطرح علاقة الإنسان بالثقافة: أولاهما، أن نرسم خريطة العالم بوضع حدود ثقافية تلتقي جزئياً مع الحدود السياسية، فنعتبر الكون مجموعة من الحضارات المتواصلة منذ أمد بعيد، قائمة على جواهر ثابتة قد تشهد أنماطاً من الحراك والإصلاح، لكنها لا يمكن أن تتغيّر بغاية التجاوز والتطور، بل الإصلاح لا يعدو أن يكون عودة إلى نقاء الجوهر. ويصعب، في حال تبنّي هذه الرؤية، أن نتفادى النتيجة المتضمنة، وهي أنّ العلاقة بين المجموعات الثقافية علاقة صراع أساساً. وثانيتهما، أن ننظر إلى الإنسان على أنه كائن واحد تعددت مميزاته الثقافية وانتماءاته القومية بسبب اختلاف بيئته وتجاربه وخبراته المتوارثة.
وعليه، فإنّ البشر لا يتصارعون على الماضي، بل على الحاضر والمستقبل، ولا يتنافسون على الجنة أو على مكارم الأخلاق، بل على الثروة والسلطة والقوة. ولكنهم، من خلال الحوار والتواصل فيما بينهم، يمكن أن يعيشوا فوق سفينة الأرض بتحابب واحترام متبادلين قائمين على مجموعة قواعد، من أهمها: احترام حقوق الآخرين وحرياتهم، والاعتراف والقبول بالاختلافات الفردية، وتعلّم كيفية الإصغاء للآخرين والاتصال بهم وفهمهم، وتقدير التنوّع والاختلاف الثقافي، والانفتاح على أفكار الآخرين وفلسفاتهم، والاعتراف بأنّ ليس هناك فرد أو ثقافة أو وطن أو ديانة تحتكر المعرفة والحقيقة.
في حين أنّ الانغلاق على الذات، الذي يشكل أحد أهم مصادر العنف تجاه الآخر، يستلهم مقولاته الأساسية استناداً إلى نظرية ” الاصطفاء ” التي تجعل شعباً دون سواه مختاراً ومفضلاً، ومن الطبيعي أن تشكل هذه النظرية مصدراً مهماً لاشتقاقات لاحقة – دينية أو عرقية – كالاستعلاء والتميّز والعنصرية، وغيرها من المقولات المضادة للتسامح، والتي ولدت من رحمها حركات العنف المؤدلج والمؤطر والمسيس، باعتباره الركن الأصلب من أحادية عقائدية مطلقة الصواب.
وهكذا، فإنّ التسامح يتطلب دوماً انفتاحاً فكرياً على الآخر، هدفه الحقيقة كفضيلة أخلاقية ينبغي زرعها وإحاطتها بالرعاية والعناية حتى تنمو وتزدهر. وهناك نقطتان رئيسيتان تشيران إلى معنى التسامح بصورة عامة: أنه يقوم على تفهم وإدراك موجه من الضمير لاحترام الرأي الآخر وفهمه، وأنه يقوم على مبادئ وقوانين المجتمع المدني التي تضمن حقوق الانسان.
إنّ حوار الثقافات ليس ممكناً فحسب بل هو ضروري داخل كل ثقافة على حدة وبين كل الثقافات، لإرساء قواعد جديدة لمعالجة النزاعات والاختلافات عوض الأساليب القديمة المتمثلة في الحرب والتعصب والإرهاب. كما أنّ هذا الحوار فضلاً عن كونه ممارسة يختص بها الإنسان فإنه السبيل الوحيد لضمان التعايش والتعدد، وهو ما يقتضي الاحترام الكامل لتنوع الثقافات وخصوصياتها المختلفة ورفض كل شكل من أشكال الهيمنة والعنف والأحادية.
ثمة حاجة حقيقية وماسة للالتقاء في منتصف الطريق، وذلك لن يكون ممكناً دون الوعي بأنّ تفكيرنا الذي نشأ ضمن قوالب جاهزة يحتاج إلى إعادة بناء مختلفة تمكّننا من أن نضع أنفسنا وغيرنا أمام المسائلة النقدية الدائمة التي تحول دون الانفجارات الطارئة والمدمرة التي تلوح في أفق عالمنا، فلا نرى اليوم سواها.
وعليه يجب أن يكون العامل الثقافي، من خلال التبادل الذي يتيحه، في أساس الشأن السياسي. إذ إنّ الحوار الثقافي بين الدول والشعوب هو حتماً بديل عن وسائل العنف والقوة، فليس هناك من وجه مقارنة أو مقاربة بين حوار السلاح وحوار العقول. هو مشروع طويل الأمد، مشروع حضاري، فالحوار بحد ذاته حضارة ورقي لا يحسنه إلا أهله ممن يتمتعون برحابة الصدر وسعة الأفق والحلم والحكمة ورجاحة العقل. هي مسؤولية إذن وليست سفسطة مثقفين أو مجرد ثرثرة أو متعة مجادل. نتحاور لنتعارف ونتفاهم، هذا هو المشروع البديل عن العنف، والشطط في استخدام القوة، والقهر، والظلم.
وفي هذا السياق بات مطلوباً تبلور حركة إنسانية تعمل على مواجهة ظاهرة انتشار التعصب والتطرف، حركة تشمل عناصر تعلّي الإنساني على الفئوي والطائفي، عناصر تتسم بالشجاعة والقدرة على النقد البنّاء والفعل الإيجابي لمصلحة البشرية جمعاء. إننا بحاجة إلى من تتوافر لديه المشاعر الإنسانية الراقية التي تتعامل مع البشر جميعاً بصرف النظر عن لونهم وعرقهم ودينهم وطائفتهم.
ومما لا شك فيه أنّ حوار الثقافات، على الرغم من ضرورته ومن أهميته، لا يكفي إذا بقيت الدول الكبرى تمارس سياسات استعمارية توسعية على حساب شعوب عالم الجنوب، وتستمر في محاولاتها تجاهل الشرعية الدولية وأيضا تطبيق سياسات الكيل بمعيارين، كما هو الحال حاليا بالنسبة لسياسات الغرب تجاه العديد من القضايا.