أحمد مراد
تحقيق استقصائي يكشف التلاعب بحقوق الملكية والتعويضات في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بدمشق، وأدوار ميليشيات وشخصيات مصنفة على أنها واجهات لنظام الحكم، عملت على سلب حقوق اللاجئين الفلسطينيين.
يستند التحقيق إلى شهادات ومقابلات مع مهجرين من المخيم وتقارير وإحصاءات مؤسسات حقوقية، وكتب ومراسلات بين جهات محسوبة على الحكومة السورية.
في أيار من العام 2018، هُجّر “عمار القدسي” من جنوب العاصمة السورية دمشق إلى الشمال السوري، برفقة من رفضوا توقيع اتفاق مصالحة مع الحكومة السورية، تاركاً منزله الذي بناه بعدما ورث قطعة أرض عن جده المهجر من فلسطين إثر “النكبة الفلسطينية” عام 1948.
ومنذ “مجزرة الميغ”، منتصف عام 2012 ، وحتى سيطرة القوات الحكومية على المخيم في 2018، نزح نحو مليون شخص، منهم ربع مليون فلسطيني، طبقاً لـ” موسوعة المخيمات الفلسطينية“.
أدت العمليات العسكرية إلى تدمير المخيم، وأكملت “ورشات التعفيش” تحت إشراف الجيش السوري سرقة ما سلم من القصف، بما في ذلك محتويات المنازل وحديد الأبنية.
حتى نهاية 2011، احتل مخيم اليرموك مكانة متقدمة كأحد أكثر الأسواق الشعبية ازدحاماً وأرخصها في دمشق، وشكل لسكان العاصمة السورية سوقا استهلاكية تنافس في بضاعتها أسواقاً كبيرة كالصالحية والحميدية، وأهمها شارع لوبية.
وبحسب الباحث نبيل السهلي، “اشتهر مخيم اليرموك بحالته الاقتصادية خاصة في سوق الملبوسات والذهب، ساعد على ذلك مجاورته حيي الميدان والزاهرة الدمشقيين، وشكل خليطاً من تجار فلسطينيين ومن أبناء المحافظات الأخرى، وتجار دمشق الذين رأوا فيه سوقاً إضافياً”.
مخطط تنظيمي جديد ينسف قوانين التملك
منتصف العام 2020، أصدرت محافظة دمشق “المخطط التنظيمي العام لمنطقة اليرموك”. قسم المخطط التنظيمي المخيم إلى ثلاث مناطق وفق حجم الأضرار التي لحقت بها، بذلك أصبحت مساكن المخيم بمثابة إنشاءات وأنقاض، لا تشملها قوانين التملك، لأنها أقيمت على أراض مؤجرة من الدولة للمؤسسة العامة للاجئين الفلسطينيين.
عمار، وهو أحد ضحايا التهجير القسري نتيجة الحرب، وقوانين وإجراءات أمنية تحرم اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى مخيم اليرموك، والذي يعرف بـ “عاصمة الشتات”.
وبذات الوقت، بات عمار كما الكثيرين، ضحية قوانين تجبره على العودة لإثبات ملكيته تحت طائلة فقدها، وتشترط “الفرقة الرابعة” التي يقودها ماهر الأسد، شقيق رئيس النظام السوري بشار الأسد، استلام مبلغ 1000- 1500 دولار مقابل السماح للمدنيين بترميم منازلهم.
اليوم، يسكن “القدسي” في مخيم مؤقت، وهو واحد من مخيمات موزعة على مناطق الشمال السوري الخاضعة لقوات المعارضة، استقبلت تلك المخيمات قرابة 1500 عائلة فلسطينية أحصاها مركز توثيق اللاجئين الفلسطينيين في الشمال، وتوزع باقي سكان اليرموك في المحافظات السورية ودول الجوار، وبعضهم هاجر إلى أوروبا.
هدر حق الملكية
يملك “عمار القدسي” عقاراً بمساحة 61 متراً مربعاً في المخيم بموجب إذن سكن، ففي عام 1949 تأسست الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين بموجب القرار 450، واستأجرت من الحكومة السورية أرضاً مساحتها 2.1 كيلومتراً مربعاً على أطراف العاصمة دمشق.
الهيئة وزعت مساحات تسمى “النمرة” للاجئين لتشييد مبان، وتحصّل اللاجئ بموجبها على إذن للسكن، وتقدر بثلث إجمالي المساحة العقارية لمخيم اليرموك.
بالإضافة لإذن السكن، توجد أنواع ملكية أخرى في مخيم اليرموك، منها “الطابو الأخضر” ونسبته لا تتجاوز 6% من إجمالي الملكيات العقارية، ووكالات كاتب العدل، وقرار المحكمة لوضع إشارة قضائية على العقار في حال البيع، وعقود البيع القطعية التي تصدق من المالية لضمان الحق المالي. وقدرت لجنة إزالة الأنقاض التابعة لهيئة التحرير الفلسطينية عدد الوحدات السكنية في مخيم اليرموك بـ 128 ألف وحدة.
يكشف تحقيق سيريا أنديكيتور عبر مراسلات بين المؤسسة العامة للاجئين الفلسطينيين وبين محافظة دمشق، عن محاولة تغيير المخطط التنظيمي لمعالم مخيم اليرموك والتلاعب بالملكيات العقارية، وذلك بتضخيم نسب الأضرار التي لحقت بالأبنية نتيجة الحرب.
يقسم المخطط التنظيمي الصادر عن محافظة دمشق برقم 3/298 تاريخ 29/6/ 2020، وفق أحكام القانون رقم 23 لعام 2015، المخيم إلى ثلاث مناطق، منطقة كبيرة الأضرار 93 هكتاراً، ومتوسطة الأضرار 48 هكتاراً، ومنطقة خفيفة الأضرار 79 هكتار.
وينص المخطط على وشمول المنطقتين كبيرة ومتوسطة الأضرار بإعادة التنظيم، ما يعني بالضرورة إزالة ما يزيد عن 60% من أراضي المخيم، وتحويلها إلى أبراج سكنية وأسواق تجارية وحدائق عامة، في حين وضع المنطقة خفيفة الأضرار، والتي تقدر مساحتها بنحو 40% من المخيم، ضمن تنفيذ المرحلة الثالثة من المخطط، والتي تستغرق سنوات طويلة، قد تتجاوز على الأرجح 15 عاماً للمراحل الثلاث”.
الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين ردت لمحافظة دمشق في كتاب رقم 1710 لعام 2020، والمتضمن الاعتراض على المخطط التنظيمي لمنطقة اليرموك، “أن نسبة الدمار المعتمدة من قبل الشركة العامة للدراسات الهندسية التي تم إعداد المخطط التنظيمي على أساسها هي نسبة مبالغ بها، كونها وضعت بإرادة منفردة من قبل الشركة، ودون العودة إلى أصحاب الحقوق من كتلة المالكين أو من يمثلهم أصولاً”.
وأشارت المؤسسة، أن اللجنة المحلية لمخيم اليرموك اطّلعت على واقع المخيم، وأعدت تقريراً عن واقع الدمار بموجب الكتاب رقم 631/ص تاريخ 31/12/2018، “وكانت نسبة الدمار لا تتجاوز 20% في العقارات المستملكة لصالح الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب”.
ودعت الهيئة محافظة دمشق إلى الالتزام بتعهداتها بعدم المساس بالعقارات التابعة للهيئة وإبقائها خارج التنظيم، وعدم نقض الاتفاق المسبق.
مجلس الوزراء السوري أعلن حل اللجنة المحلية في مخيم اليرموك، والتي كشفت تلاعب محافظة دمشق بحقوق الملكية، وجرى إلحاق اللجنة بمحافظة دمشق وفق القرار رقم 61 لعام 2018، بعدما عملت كبلدية خاصة للمخيم منذ تأسيسها عام 1964، يرأسها فلسطيني تحت إشراف وزارة الإدارة المحلية السورية.
تجزئة الوحدة العقارية للمخيم
قاطع تحقيق سيريا أنديكيتور الخروقات القانونية الصريحة للحقوق العينية العقارية للاجئين الفلسطينيين وفق المخطط التنظيمي لمنطقة اليرموك وقرارات حكومية، مع تقرير متغيرات الهوية الديموغرافية وتأثيرها على النسيج المجتمعي وحقوق الملكية وعودة اللاجئين الصادر منظمة اليوم التالي، وهي منظمة مجتمع مدني سورية تعمل على توثيق حقوق الملكية والسكن، تسليط الضوء على أبرز تلك الخروقات.
التقرير ذكر أن هذه الخروقات تؤدي لتجزئة الوحدة العقارية للمخيم، وتبين أن “الشركة العامة للدراسات الهندسية” التي قامت بدراسته وإعداده، وهي جهة حكومية، وبعد موافقة اللجنة الفنية في محافظة دمشق، والمصادقة عليه من قبل اللجنة الإقليمية، تجاهلت حقيقة ثابتة، وهي أن مخيم اليرموك ومنذ بدايات نشوئه في منتصف الخمسينات، وخلال مراحل توسّعه العمراني طيلة العقود الماضية، كان وحدة عقارية تتبع لمدينة دمشق، وهو ما تظهره رخص بناء حصل عليها التحقيق، ويؤكده المخطط التنظيمي للمخيم الصادر عام 2004، والمصدق أصولاً، والذي يُحدِد المخيم القديم ومناطق توسع المخيم في غرب اليرموك وجنوبه، على أنها منطقة عقارية واحدة، تضم كافة أحياء وحارات المخيم بمسميّاتها.
استملاك قسري وفق القانون
لم يتمكن اللاجئ الفلسطيني “عامر الطبري”، مالك أحد العقارات الخاضعة لإعادة التنظيم في المخيم، من المطالبة بسكن بديل وفق القانون 23\2015 الذي أُقر المخطط التنظيمي بموجبه، ويُلزم القانون الجهة المنفذة بإقامة سكن بديل، ودفع بدلات الإيجار للسكان الذين يتم إخلاؤهم.
ووفق تقرير اليوم التالي، فإن تعويض إعادة التنظيم وفق المخطط التنظيمي “أقرب إلى الاستملاك”، حيث يستند المخطط التنظيمي فيما يتعلق بالسكن، وتعويض أصحاب الأملاك المشمولة بإعادة التنظيم، إلى المرسوم “رقم 5 لعام 1982″، والذي يحصر التعويض وفق مساحة البناء، وليس الأبنية والشواغل المُشادة عليه، وتوزيعها إلى أسهم بين المالكين، إذ لا يحق للمالكين المطالبة بالتعويضات وفق الشواغل أو الغرف المشادة ضمن هذه المساحة المملوكة لصاحب العقار والمثبتة بموجب أحكام قضائية.
يعمل “عامر الطبري” حالياً كأستاذ في جامعة دمشق، ويقيم في حي ببيلا جنوب دمشق، على مقربة من مخيم اليرموك، ويدفع راتبه الشهري لاستئجار المنزل، ويعتمد على التحويلات المالية التي تصله من أخيه المقيم في دول الخليج كل عدة أشهر لتأمين قوت يومه.
وفي تصريح إعلامي، قال معمر دكاك، مدير الدراسات الفنية في محافظة دمشق، “لن يحصل أهالي مخيم اليرموك على سكن بديل، نتيجة تنظيم المخطط التنظيمي لمنطقة اليرموك وفق المرسوم التشريعي رقم 5 لعام 1982”.
المهندس “أحمد طه”، مدير برنامج حقوق الملكية والسكن في اليوم التالي قال، إن الضرر الأكبر وقع بتطبيق المرسوم التشريعي رقم 5 لعام 1982، ووفق المرسوم، “سيكون للمتضررين من المخطط أسهم تنظيمية، ولن يشملهم السكن البديل أو تعويض الإيجار، وهذا إجحاف بحق المالكين في المناطق التي تخضع لإعادة التنظيم، و نسبة التعويض هي أقل من ربع قيمة العقار، ومع فروقات الأسعار والتضخم الحاد في الليرة السورية، وحساب التعويضات، وفق نسب تقل كثيراً عن القيمة الحقيقة للعقارات، قد لا يتعدى التعويض 10% في أحسن الأحوال، عدا عن اشتراط أن يشتري صاحب العقار نصاب أسهم من العقار الذي يملكه وفق تقديرات اللجنة المخولة بالتقدير، ويمكن أن يصل سعر الأسهم إلى ثلاثة أضعاف التعويض الذي سيحصل عليه، ما يرتب عليه تبعات وأعباء مالية كبيرة للمالكين.
يضيف طه، أن التكاليف المرتفعة لتراخيص البناء، تفوق قدرة عائلات المخيم الفقيرة على تحمل هذه الأعباء المادية الكبيرة، وهذا يُشرّع الأبواب للشركات العقارية، وكبار المضاربين، والسماسرة للتحكم بالأسعار وجني أرباح طائلة”.
حاول تحقيق “سيريا أنديكيتور” التواصل مع محافظة دمشق للحصول على توضيحات بشأن عدول المحافظة عن تطبيق القانون 23 لعام 2015 واستبداله بالقانون 5 لعام 1982، للتأكد من عدد الاعتراضات التي وصلتهم على المخطط التنظيمي، إذ تشير “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا” إلى قرابة 13 ألف اعتراض، ولم يحصل الموقع على رد على تاريخ نشر التحقيق.
غنيمة لواجهات اقتصادية
حصل موقع “سيريا انديكيتور” على مقاطع فيديو من داخل مخيم اليرموك، تبين عمليات “تعفيش” الأبنية وهدم أسقفها لاستخراج القضبان الحديدة.
بعد تقص حول شخصيات من ينفذون تلك العمليات، ومقاطعتها مع شهادات لأهالي مخيم اليرموك، قادت المعلومات إلى أن “الغجر” أو من يعرفهم أهالي المخيم بـ “قرباط شارع الثلاثين”، نسبة لمكان إقامتهم، يعملون ضمن ورشات لدى قادة ميليشيات تعمل بجانب الفرقة الرابعة التي يقودها شقيق الرئيس السوري، لتنفيذ عمليات “التعفيش” بأجور يومية، كما اعتادوا أن يعيشوا عندما كانوا يسكنون بالقرب من سوق السيارات في شارع الثلاثين على أطراف المخيم.
ويزيد عدد هؤلاء الأشخاص عن 5 آلاف شخص، ينتمون لنحو 20 عائلة.
ضمن أحد الشهادات، عمل “الغجر” وفق مجموعات، على استخراج الأسلاك النحاسية المخصصة لنقل الكهرباء وقضبان حديد السقف في منزل الناشط الفلسطيني “ثائر أبو شرخ”.
تلك المجموعات نشطت تحت أعين الفصائل الفلسطينية الموالية للجيش السوري، وقوات الفرقة الرابعة، والفرع 235 أو ما يعرف بـ “فرع فلسطين”، التابع لشعبة المخابرات العسكرية.
وحصل تحقيق موقع سيريا أنديكيتور على مقطع فيديو يعود إلى شهر كانون الأول 2022، يبين استمرار عمليات التعفيش في المخيم وحجم الدمار الذي لحق به جراء العمليات العسكرية، والأنقاض في شوارع المخيم، وخلوّه شبه الكامل من السكان.
تولت الفرقة الرابعة الدور الرئيس في عمليات تعفيش الحديد وهدم المباني المتصدعة لاستخراج القضبان الحديدية وأسلاك الكهرباء، عبر وسطاء ومتعهدين يستخدمون المكتب الأمني للفرقة الرابعة فرض على الوسطاء المحليين بيع خردة المعادن المُستولى عليها بشكل حصري وبأسعار زهيدة لشركة الصناعات المعدنية – حديد، الواقعة في منطقة عدرا الصناعية، المملوكة لرجل الأعمال محمد صابر حمشو.
ووفقا لصحيفة فايناشال تايمز، “أبرم حمشو وماهر الأسد صفقة تنص على ترحيل الخردة المعدنية التي نهبتها الفرقة الرابعة إلى مصنع حمشو. العمل مجاني، المواد مجانية – يحصل على كل شيء دون دفع فلس واحد، وماهر وحمشو يستعينان بالجنود والميليشيات للسيطرة على تجارة الخردة المعدنية”.
مستودعات شركة حديد التابعة لحمشو في مدينة عدرا – موقع الشركة – انترنتحديد الخردة في شركة حديد التابعة لحمشو في عدرا – موقع الشركة – انترنت
وبحسب تقرير لـ “برنامج مسارات الشرق الأوسط” للباحث “أيمن دسوقي”، “بلغت قيمة أرباح حمشو من تجارة حديد التعفيش 10 ملايين دولار شهرياً، خلال مطلع عام 2019، وبقيت كميات الحديد المعاد صهرها في مستودعات المجموعة، بغية تغطية الطلب المحلي راهناً ومستقبلاً خلال إعادة الإعمار”. فيما صدّرت خردة النحاس المعاد صهرها إلى تركيا عبر الموانئ التي تشرف عليها الفرقة الرابعة. واحتلت صادرات النحاس المرتبة الأولى بين صادرات الخام المعدنية في العام ٢٠١٧، بقيمة بلغت حوالي ١٤ مليون دولار أميركي وفقاً لمركز التجارة الدولية.
ورغم تحمّل منظمة التحرير الفلسطينية كافة الأعباء المادية لإزالة الأنقاض وتشكيل لجنة تختص بهذا الأمر، بعد قرار رئاسي بعودة مشروطة لأهالي مخيم اليرموك عام 2021، سيطرت “شركة الشهابي للمقاولات” على المواد المرحلة التي تستخدم في تشكيل مواد البناء، لتحصل الشركة التي يملكها رجل الأعمال رستم الشهابي على مواد البناء بالمجان، وعلى نفقة منظمة التحرير الفلسطينية، بحسب مصادر حقوقية فلسطينية.
والشهابي هو أحد داعمي ميليشيا “فلسطين حرة”، التي يرأسها “سائد عبد العال”، وهو ابن “محمد عبد العال”، عضو القيادة القطرية الفلسطينية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وأحد رجال التعهدات سابقاً في مخيم اليرموك.
وتأسست ميليشيا فلسطين حرة بعد عام 2011 لقمع الاحتجاجات، على غرار لواء القدس في حلب، قوام تلك الميليشيات عناصر فلسطينية وسورية، وتضاف لعدد من فصائل عسكرية فلسطينية شاركت في الأعمال القتالية إلى جانب القوات الحكومية السورية، منها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، فتح الانتفاضة، الصاعقة، جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، وغيرها.
وسطاء لبيع العقارات، والحالة الأمنية للمالك تحدد قيمة العقار
حاول عمار القدسي بيع منزله في مخيم اليرموك بعدما فقد الأمل بالعودة إليه، آملا في الحصول على مبلغ مالي يغطي نفقات طرق التهريب من مخيمات الشمال السوري إلى أوروبا عبر تركيا، تنهال عليه عروض سماسرة العقارات في المخيم والمناطق المحيطة به، لكنها لا تزيد عن 8000 دولار، في حين كان سعره قبل عام 2011 يزيد عن 22 ألف دولار.
ووفقاً لتحليل أجراه موقع سيريا إنديكيتور بالاعتماد على وثائق وتصريحات رسمية، فإن المساحة المشمولة بالتنظيم وفق المخطط التنظيمي للمخيم تبلغ 220 هكتاراً، وهي تزيد بقليل عن مساحة مشروع ماروتا سيتي أو ما يعرف بتنظيم “شرقي المزة” في العاصمة دمشق البالغة 210 هكتاراً.
بلغت القيمة التقديرية للمتر المربع في مخيم اليرموك 150 دولاراً أمريكياً، مقارنة بسعر المتر المربع في مدينة ماروتا سيتي والذي يفوقه بـ 6 أضعاف أي قرابة 900$ بحسب مقاطعة تصريحات عدد من المتعهدين.
وتبعاً للتحليل، تبلغ قيمة الوحدات السكنية في مخيم اليرموك ملياراً ومئتين وثمانين مليون دولار، وعددها 128 ألف وحدة سكنية، بمتوسط 10 آلاف دولار للوحدة السكنية، وفقاً للأسعار التي حددها سماسرة العقارات لمالكي المنازل، ووصل متوسط الخسارة إلى 50 % من قيمة تلك العقارات عما كانت عليه عام 2011. في حين يصل سعر 12 ألف وحدة سكنية في ماروتا سيتي، موزعة على 186 مبنى سكني إلى مليار وستمئة مليون دولار.
وخلص التحليل إلى أن قيمة هذه الوحدات السكنية في ماروتا سيتي تزيد بحوالي 25% عن مجموع قيمة الوحدات السكنية في مخيم اليرموك، علماً عدد الوحدات السكنية في ماروتا سيتي أقل من 10% من عدد الوحدات السكنية في مخيم اليرموك، أي أن سعر المتر المربع في ماروتا سيتي يعادل سعر 12 متراً مربعا في مخيم اليرموك. وهي المرابح التي تنتظرها شركات التطوير العقاري العائدة ملكيتها للحكومة السورية وأمراء الحرب.
ومع إتمام سيطرة القوات السورية على مخيم اليرموك، نشطت حركة بيع العقارات عبر سماسرة ووسطاء لصالح جهات مجهولة، ناشطون فلسطينيون أكدوا لـ”سيريا إنديكيتور” وجود بعض وسطاء الشراء من أبناء المخيم، منهم “أبو العبد أسعد”، و”مكتب النبلاء” في حي الزاهرة الدمشقي. ويتصيد بعض السماسرة أرقام معارضي النظام ممن هجروا إلى الشمال السوري، بغية ابتزازهم والحصول على موافقات شراء المنازل.
وتتبع موقع سيريا إنديكيتور علاقة تاجر العقارات الأشهر في مخيم اليرموك “ياسر قشلق”، وهو مؤسس ميليشيا “فلسطين حرة”، وأحد العاملين في شركة الإعمار الإيرانية “نيكن”، وأحد المقربين من حزب الله اللبناني ومن الرئيس بشار الأسد.
عمل قشلق لتلميع صورته بالمشاركة في قافلة الحرية لغزة عام 2010، بالتعاون مع الإعلامية سمر الحاج زوجة اللواء علي الحاج، المتهم بقضية اغتيال الحريري.
وفقاً لشهادة أحد الناجين من الاعتقال لموقع “ريفيجي تودي، رعى قشلق مبادرة بناء سوريا، مستغلاً علاقاته مع الرئيس السوري لإطلاق سراح 50 طالباً جامعياً من السجون ومن ثم ضمهم إلى المؤسسة الشبابية التي أسسها تحت مسمى “بصمة شباب سوريا”.
تصنف عمليات شراء المنازل، وفق القدسي، بحسب الحالة الأمنية للمالك، فالأسعار التي تقدم لمعارضي النظام والمطلوبين أمنياً لا تتجاوز ربع القيمة الفعلية العقار، أما اللاجئون من غير المطلوبين فيمكن أن يحصّلوا نصف قيمة عقاراتهم، ويمكن للفئة الثالثة من المقيمين في مناطق النظام أن يحظوا بأعلى قيمة لعقاراتهم وتصل حتى 60%، شريطة وجود إثبات ملكية، وفي حال عدم وجودها فإن قيمة العقار تنخفض حتى نصف هذه القيمة للفئات الثلاث، بحسب شهادات متقاطعة.
وتختلف قيمة العقارات تبعاً للمنطقة العقارية داخل مخيم اليرموك، وفق ما ذكره موظف سابق في بلدية اليرموك، طلب عدم الكشف عن اسمه، حيث يقسم لأربع مناطق بحسب القيمة العقارية قبل عام 2011، الأولى منطقة غرب اليرموك، وتقع بين شارعي اليرموك والثلاثين حتى مشفى فلسطين، وتعد الأعلى قيمة، ووصل سعر المتر التجاري فيها حتى 500 ألف ليرة.
أما المنطقة الثانية من حيث قيمة العقارات، حسب الموظف الحكومي، هي شرق اليرموك، وتقع بين شارعي اليرموك وفلسطين، وبلغت قيمة المتر التجاري قرابة 300 ألف ليرة سورية.
أما حي 8 آذار الواقع خلف مشفى فلسطين فهو المنطقة العقارية الثالثة من حيث القيمة، فيما يعد حي التقدم أرخص المناطق العقارية.
شروط “تعجيزية” لعودة أهالي المخيم
توصل تحقيق سيريا أنديكيتور إلى جملة الشروط التي تفرضها الحكومة السورية للسماح بعودة أهالي مخيم اليرموك إلى منازلهم، وحصل الموقع على شهادات من أبناء المخيم تنفي ما أعلنت عنه اللجنة الرباعية من شروط عودة السكان للمنازل الصالحة للسكن، بأن يكون البناء سليماً، وأن يثبت الشخص ملكيته للعقار، بالإضافة إلى وجوب حصوله على الموافقات اللازمة.
وحسب الشهود، يحتاج مالك العقار بعد إثبات ملكيته لتبرئة ذمة الخدمات منذ عام 2012، وتشمل الكهرباء، والمياه، والهاتف، والبلدية، و”الترابية” وهي خدمات المالية، وبعد تنفيذ الشرطين الأوليين يجرى التدقيق الأمني، وترفض السلطات السورية طلب الدخول في حال وجود شخص مطلوب أو معارض من أصول أو فروع مالك العقار.
نشرت صحيفة البعث، بتاريخ 23 كانون الثاني 2023، خبرًا حول طلب الحكومة السورية من مالكي العقارات في المخيم مراجعة دائرة خدمات اليرموك، من أجل ترحيل وإزالة ابنيتهم الساقطة، أو الآيلة للسقوط جزئيا أو كليا، ومنحتهم الحكومة مدة شهر من تاريخ الإعلان، وهددت بترحيل الأنقاض وإلزام أصحاب الأبنية بالغرامات المالية المترتبة على ذلك.
“عامر الطبري” تحدث عن سرقة علنية تنفذها “الفرقة الرابعة” بعد كل ما لحق بالمباني وأصحابها من خسائر، إذ “تشترط الحصول على مبالغ مالية تتراوح بين 1000 و1500 دولار من أصحاب المنازل المتضررة جزئياً، ممن بدؤوا بترميم منازلهم، تحت طائلة التهديد بهدم المبنى واستخراج قضبان الحديد منه”.
يؤكد “القدسي” أن عدد العائلات التي عادت لمخيم اليرموك هو قرابة 300 عائلة، ونسبة 90% منهم من عائلات الفصائل الفلسطينية الموالية للحكومة السورية، كـ “قوات أحمد جبريل”.
النكبة الثانية بين قانونين
ثمة ترابط وثيق بين القيود التي فرضها قانون التنظيم العمراني رقم 10 لعام 2018، على إجراءات إثبات الملكية العقارية للسوريين “ومن في حكمهم” من اللاجئين الفلسطينيين، وبين المخطط الجديد لمخيم اليرموك، “يتضح ذلك الترابط بتجريد فئات كبيرة من المهجرين الفلسطينيين والسوريين من سكان مخيم اليرموك، من إمكانيات إثبات ملكياتهم العقارية، بسبب الاشتراطات الأمنية التي وضعها القانون رقم 10، واستحالة العودة الآمنة للكثيرين ممن يعتبرهم النظام من المعارضين له”، وفق ما ذكره الباحث والحقوقي الفلسطيني “أيمن أبو هاشم”.
يقضي القانون بالسماح بإنشاء مناطق تنظيمية في جميع أنحاء سوريا، مخصصة لإعادة الإعمار، ولا يحدد القانون معايير لتصنيف المنطقة كمنطقة تنظيمية، بل إنها تعيّن وفق مرسوم خلال أسبوع من صدور المرسوم القاضي بإعادة إعمار منطقة ما، وعلى السلطات المحلية طلب قائمة بأصحاب العقارات من الهيئات العقارية الحكومية العاملة في تلك المنطقة.
وحسب القانون 10، وسيكون لدى أصحاب العقارات 30 يوما لتقديم إثبات الملكية، ولن يتم تعويضهم في حال عدم قدرتهم على إثبات وثيقة ملكية. وعلى كل شخص مقيم في هذه المناطق المغادرة، فيما ستقدم السلطات المحلية تعويضا يعادل إيجار عامين للمستأجرين غير المؤهلين للحصول على سكن بديل.
تحدث الحقوقي “أيمن أبو هاشم” رئيس “تجمع مصير” عن غياب الآليات القانونية المحلية والدولية القادرة على صون حقوق السوريين، والتي تمنع انتهاك حقوق السوريين ومن في حكمهم، ومنها حقوقهم العقارية، وتتشابه في مضمونها مع الكارثة التي أحدثها قانون أملاك الغائبين الإسرائيلي عشية النكبة الفلسطينية عام 1948، والذي سلب حقوق آبائهم وأجدادهم، وجرّدهم من أراضيهم.
واعتبر “أبو هاشم” أن التدمير الممنهج لأجزاء واسعة طالت غالبية أحياء المخيم، اتضح جلياً بعد إخراج تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، يوضح أن الهدف الحقيقي كان تصفية أكبر المخيمات الفلسطينية في سورية، و”تفكيك مكانته التاريخية والرمزية”.
يمثل لاجئو عام 1948 السواد الأعظم من سكان مخيم اليرموك، وفق كتاب “فلسطينيو سوريا” لأيمن أبو هاشم. شمل القانون 260 لعام 1956 الصادر عن البرلمان السوري معظم هذه الفئة من الفلسطينيين، وتمتعوا بموجبه بحقوق المواطنين السوريين، باستثناء حق الترشح والانتخاب، وطبقت عليهم العبارة الشهيرة “ومن في حكم المواطنين السوريين”، خاصة عند التسجيل في المعاهد والجامعات، وشغل المناصب الحكومية من مرتبة مدير عام فما دون. واستفاد لاجئو عام 1965 من ذات الحقوق التي منحها القانون 260، باستثناء حق التوظيف في إدارات الدولة إلا بعقود مؤقتة. ولم يشمل هذا القانون موجات اللجوء الفلسطينية اللاحقة لسوريا أعوام و1967 و1970، و1982، في حين منعت الحكومة السورية لاجئي عام 2003 الفارين من حرب العراق من دخول أراضيها، ووضعتهم في مخيمات على الحدود السورية العراقية.
معظم الأسماء الواردة في التحقيق مستعارة حفاظاً على سلامة أصحابها
أنجز التحقيق بالتعاون مع منظمة “اليوم التالي”
المصدر: Syria Indicator