علي محمد شريف
هل هي القَبليّة الجديدة؛ قَبَلية ما بعد الحداثة تلك التي يراد فرض عقيدتها العرجاء ورؤيتها القاصرة على الكون العاقل الفسيح؟ هل تمخّض جبل المدنيّة الغربيّة في حلّته النيوليبراليّة فأنجب مسوخُهُ تلك الأجنّة المشوّهة من الأفكار المسنّنة والقيم المتعفّنة كيما تكون بديلاً عن الإلهام السماويّ، وعن الفكر الإنسانيّ الناصع، وعن إبداع البشرية الثرّ وتطوّره عبر التاريخ؟؟
إنّه عصر اللامعقول؛ ذاك الذي نحيا بين ضفافه الزلقةِ الرخوة، وقد بات عالمنا مسرحاً موحشاً ومعتماً، يتقافز على خشبته المهترئة ثلّة من الفزّاعات والكراكوزات والمهرّجين والمعتوهين، تحرّكهم أياد لا مرئيّة تملك مصائر الكائنات وتتحكم بأقدار الكون، أمّا النصّ فعنوانه التفاهة ومضمونه القرف ومآله الانتحار.
قد يبدو مشهداً سورياليّاً ومستهجناً لا يستحقّ مجرّد الالتفات إليه، فما نراه من سعيٍ حثيث لتعويم ثقافة شاذّة ليس أكثر من محاولة فاشلة لحرف الطبيعة عن مسارها المقدّر، إنّ تجاهل القوانين الصارمة للخلق والوجود ضرب من الجنون سيصطدم بجدران المستحيل، كذلك لا يمكن لأيّة قوى أن تنسف القيم والمبادئ البدهيّة التي تعدّ شرطاً للحياة الإنسانية وضامناً لاستمرارها، فأنّى لهذه التخرّصات المبتذلة أن تقوى على الحلول محلّ التشريعات والقوانين المتحضرة الراسخة في وجدان البشر.
لكنّ من يحمل عبء فرض هذا المشروع الخطير على العالم هي أميركا الدولة الأعظم قوةً ودول غربية كبرى تدّعي احتكار المدنيّة والتحضّر، وتسوّق نفسها على أنّها واحة للديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان الطبيعية وحامية لها، إذ طالما هددت وتوعدت الأنظمة الدكتاتورية المارقة بالويل والثبور، وقد أنشأت؛ للتحقيق في انتهاكاتها وجرائمها ومساءلتها ومحاسبتها؛ اللجان والمجالس والمحاكم الدوليّة العامّة والخاصّة، إذ لا مكان، كما تزعم، في هذا العالم المتحضّر لمجرمي الحرب وللمجرمين ضدّ الإنسانيّة، ولا مجال لهم للإفلات من العقاب.
إذاً كيف لمن يشهر سلاح حماية الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان أن يمارس الإكراه على مواطنيه، وعلى شعوب العالم وحكوماتها بما فيها الديمقراطيّة منها، وأن يسخّر كل الإمكانيات والأدوات ووسائل القوّة القهريّة لفرض فكرٍ شاذٍّ ينافي الفطرة السليمة، ويخلّ بالتوازن الطبيعيّ للوجود الإنسانيّ، وسيؤدي حتماً، فيما لو تمكّن، إلى انقراض البشريّة، ألا يشكل هذا المشروع عدواناً، بل وجريمة إبادة بحقّ الجنس البشريّ والحياة بعامّة، وسيفضي إلى فناء كوكب الأرض؟؟
بالتأكيد لن تفنى الأرض وفق خطط ديناصورات المال والأعمال القذرة. فالدولة العميقة التي يتخفّى سدنتها في سراديبها المكيّفة والمضاءة جيّداً، فيحكمون ويتحكمون فيها بمصائر الشعوب المفقرة والبائسة، قد قرّرت خلافاً للحقيقة ولإرادة السماء أنّه بوجود التكنولوجيا والذكاء الاصطناعيّ يمكن لمليارٍ من العبيد؛ مذهّب ومبرمجٍ ومفرّغٍ من أيّة قدرة على التمرّد والرفض؛ أن يكون كافياً لإدارة أملاكهم وشؤون مزرعتهم، أي كوكب الأرض، وللقيام بكلّ ما يحتاجه الحكام من أعمال وأنشطة وخدمات تضمن لهم حياة أبديّة بلا منغّصات، يسودها الأمن والسلم والسعادة المطلقة. من هنا فإن المثلية أقرب الطرق للعودة بسكان الأرض إلى المليار، إلى جانب الحروب والمخدرات…
إنّ الطريق لهذا الحلم الديناصوريّ المتوحّش لم يبدأ بالقيم المضلّلة المتلطّية تحت عباءة الحريات والحقوق الجندريّة وعناوينها البرّاقة المخادعة وحسب، فقد واكب هذه الحملة الممنهجة والمنظمة سلسلة طويلة من الخطوات الهادفة، لعلّ أبرزها كانت في هدم كيان الأسرة وتقويض أركانها، وإصدار كل ما يلزم من تشريعات ونظم تلغي الدور المسؤول الولائي والتربوي للأبوين وتحصره بالجانب الخدمي فقط.
لكنّ الأكثر الأهميّة والأخطر كان على صعيد تدجين الشعوب وتفتيت المجتمعات المتلاحمة والمتماسكة، وإعادة بنائها وتصنيفها وفق أسس عرقيّة وإثنية وطائفية، وتجريدها من القيم والأعراف والمثل الوطنيّة الفضلى، وهذا ما لا يمكن تحقيقه إلا بالاضطهاد والإفساد والقمع والعنف وهو ما يتطلب وجود أنظمة ديكتاتورية ذات مشروع سلطوي تفتقر إلى الأخلاق والحسّ الوطنيّ، وقد تحققت الغاية من خلال دعم وتمكين الأقليّات من حكم الأكثريّة، بحيث يسهل التحكم بها وتوجيهها والحصول على التنازلات المطلوبة منها بما يخدم مشروع الدولة العميقة في الهيمنة على العالم، ويسرّع في تنفيذ مشروعها التدميري.
إنّ الميل إلى المِثل ناجم عن مشاعر مختلة وليس قراراً عقليّاً لأنه يصدر عن إنسان مريض، ولا يعني البتة وجود جنسٍ بشريّ رابعٍ وخامس، إنما يمكن حصر المثلية في أقليّة مرضيّة ينبغي النظر في أسبابها النفسية والبيئية والبحث عن سبل لمعالجتها، ولعلّه من التطرّف الأقلويّ محاولة أدوات الدولة العميقة، من حكام حمقى ومجرمين، فرض هذه الأقلية المرضيّة وتعويمها، وتوسيع هامشها لتكون قضيّتها طاغية على الأحداث العالمية المتخمة بالمظالم والكوارث والتشرّد والجوع.
فهل أصبحت قضيّة الإنسان في الحرية والعدالة والكرامة رهناً بالمصادقة على مشروع الأقلية المثليّة والمتحوّلين، وهل بات للديمقراطيّة التي ما زالت تعني حكم الأغلبية السياسيّة المستحقّ لبلدانها معنى جديداً ينحصر في تحكم الأقليات المتطرفة بمصائر الشعوب قهراً واعتقالاً وتهجيراً وإبادة.