د- عبد الناصر سكرية
نعلم ان تأسيس دولة الكيان الصهيوني في فلسطين كان لدوافع إستعمارية تتلخص في أستنزاف العرب ومنعهم من التحرر والنهوض والبناء والتوحد والتقدم ..وأن القوى الإستعمارية السائدة آنذاك إختارت فلسطين لتكون قاعدة لتلك الدولة لسببين أساسيين :
– ١ لأنها تقع في قلب الجغرافيا العربية المرتدة ما بين المحيط الأطلسي والخليج العربي..فهي أنسب مكان لمنع التفاعل بين المشرق والمغرب والاحاطة بمصر أكبر وأهم دولة عربية بل ومرتكز أية دعوة وحدوية وقاعدتها للتوسع والإنتشار..
٢ – لإعطاء الكيان المراد صفة دينية من شأنها إخفاء الأهداف الإستعمارية من وراء تأسيسه ، وإضفاء مشروعية تاريخية – دينية على المشروع المصطنع ؛ الأمر الذي من شأنه خلق حالة من الصراع الديني مع أبناء المنطقة وشعبها بما يفيد في إرباكهم وتشويش عقولهم وتزييف وعيهم حيال ذلك المشروع الإستعماري..وهو ما تولت المنظمة الصهيونية ترجمته وتحويله الى وقائع .. وهي لذلك لجأت إلى تزوير التاريخ والوقائع الدينية معا لتبرير دعوتها إلى إنشاء دولة ” يهودية ” على أرض فلسطين العربية..
٣ – وهناك من الباحثين والمؤرخين من يضيف سببا ثالثا لتأسيس الكيان يتمثل في رغبة الغرب الأوروبي بالتخصص من أبناء مجتمعاته من اليهود لإعتبارات الكراهية القائمة تجاههم نتيجة تتوقعها على ذاتهم وعنصريتهم واستغلال أبناء مجتمعاتهم عن طريقا الربا وتجارة المال التي يجيدونها بل يبيعون في مارستها بشغف كبير..
ومن الضروري لمعرفة مستقبل هذا الكيان أو لتقييم إمكانية ديمومته في قلب الأمة العربية أو مرحليته بمعنى أنه كيان مصطنع لا بد أن يتفكك بفعل العوامل الذاتية ذاتها التي كانت أساسا له ومبررا لإنشائه ولممارساته لاحقا بحق أبناء فلسطين العربية.. أو أنه يملك مقومات البقاء الدائم والتحول إلى جسم طبيعي مقبول من الأمة ومنسجم مع هويتها وتراثها وقيمها الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية.. لمعرفة هذا أو للوصول إلى إجابة موضوعية على هذين الإحتمالين بعيدا عن العواطف وردود الأفعال الشعورية – الوجدانية، لا بد من إلقاء الضوء على طبيعة الحركة الصهيونية وظروف تأسيسها ..
١ – تأسست الحركة الصهيونية على يد كبار الرأسماليين اليهود العاملين في بريطانيا والولايات المتحدة وأوروبا عامة ؛ مدفوعين ومتحالفين مع القوى الرأسمالية العالمية التي كانت تدير شؤون العالم أجمع وتهيمن على مقدراته ..
حصل هذا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر..في تلك الأثناء كان اليهود قد إندمجوا في مجتمعاتهم الغربية وأصبحوا فيها مواطنين لهم هويتهم الوطنية المحلية في البلد الذي يقيمون فيه..على الرغم من تلك الصفات التي كانت جعلتهم فيما سبق يقيمون غيتوات خاصة بهم تميزهم عن غيرهم من أبناء مجتمعاتهم..
فأتت الصهيونية لتنتزعهم مجددا من هويتهم الوطنية لزرع في عقولهم فكرة ” الشعب اليهودي ” المتميز عن غيره من شعوب العالم بهويته القومية – الدينية ليكون بذلك الشعب الوحيد الذي تتشكل هويته القومية على العنصر الديني فقط..هكذا زعمت الصهيونية فزرعت في عقول الكثيرين تلك المقولة الخاطئة والمخالفة لكل قواعد تشكيل الأمم والهويات الوطنية والقومية.. فكانت هذه الفكرة هي الأساس في تشكيل عصبية دينية كمقدمة لتأسيس دولة سياسية ..ولسوف تكون هي ذاتها أحد الأسباب الموضوعية لتفكك تلك الدولة – الأمة لعدم قابلتها للبقاء لأنها تناقض كل أسباب نشوف الأمم وكيفياتها..
٢ – في البداية عارض معظم اليهود تلك الفكرة الصهيونية بل قاومها كثيرون منهم ..إلى أن إستطأعت بعد ربع قرن تقريبا من إستيعاب الكثيرين وضمهم إلى صفوفها ليس بالحوار والإقناع ولكن بالضغط والإغراء المادي والإكراه والتهديد في حالات كثيرة..وقد إستطاعت بإمكانياتها المادية الضخمة مدعومة بإمكانيات القوى الرأسمالية العالمية الضخمة أيضا شراء الكثيرين من نخبهم وربطهم بشبكة مصالح وأعمال إقتصادية ومالية وتجارية متنوعة..
وهكذا كانت المصلحة الاقتصادية المادية سببا أساسيا ثانيا في توسع الفكرة الصهيونية ومشروعها السياسي.. ولسوف تكون هي ذاتها سببا إضافيا في تفرقع الكيان من الداخل بتشتت مصالح مكونيه وتضاربها مع نشوء متغيرات عالمية كثيرة لم تكن قائمة آنذاك..
٣ – إن أبرز أسباب نجاح الحركة ألصهيونية في إستقطاب أغلب اليهود الغربيين أولا ثم الشرقيين ؛ لا يكمن في ” عبقرية ” خاصة يملكها اليهود ويتميزون بها – كما تدعي الصهيونية – بل يكمن في تبني الغرب الأستعماري بأجمعه للفكرة الصهيونية والتي سيتبين لاحقا وبعد سنوات قليلة ؛ أنه يقف وراء تأسيس الحركة الصهيونية ومشروعها السياسي الإستعماري.. وأنها ليست إلا واجهة له وإحدى أذرعه للهيمنة الإستعمارية على بلاد العرب ومواردهم وإراداتهم ..
ولقد سخرت قوى ودول النظام الرأسمالي العالمي كل ما لديها من إمكانيات هائلة مالية وإعلامية واقتصادية وكل ما لها من أدوات وإمتدادات متنوعة في كافة المجالات والميادين ؛ لإنجاح مشروعها السياسي الإستعماري الصهيوني.. فكان أن نجحت في تأسيس كيان مصطنع لا يزال يكابد للإندماج في البلاد التي يستهدفها أملا في البقاء والاستمرار الدائم.. وهو ما لم ولن يتحقق لأسباب ذاتية وموضوعية متنوعة..
ومن المعروف والمؤكد أنه لولا التبني الإستعماري الغربي الكامل للكيان الصهيوني لما إستطاع البقاء حتى اليوم على قيد الحياة..
وعلى الرغم من القوة التي بات يمتلكها ذلك الكيان المصطنع ، عسكريا وتقنيا وإقتصاديا وإعلاميا ؛ فما الذي يجعل القول بتفككه الداخلي ، أمرا متوقعا موضوعيا ؟؟
جملة أسباب وحقائق تتحدث عن مستقبل مظلم لدولة الكيان وتبشر بعدم إمتلاكه لمقومات البقاء والتحول من مستعمرة – محمية خارجيا ، إلى وطن مقبول في وسط شعبي حضاري وتاريخي له من المقومات والخصائص والمكونات ما لا يمكن تفكيكه وإلغاؤه..
أولا – تزوير التاريخ والدين معا : اختلقت الصهيونية تاريخ مزورا وإدعاءات دينية نسبتها إلى التوراة ؛ وإعتمدت عليها لتبرير مشروعها الإستعماري لفلسطين العربية ، ومفادها أن القدس وفلسطين هي الأرض التاريخية التي وعد الله بها عباده من اليهود – بني إسرائيل..وأن ” يهوه ” إله بني إسرائيل تصارع مع الله فوق جبل الكرمل في فلسطين ؛ فانتصر على الله لذلك قال له الله رب العالمين : لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر الكبير إلى نهر الفرات .. ولذلك أيضا سخر الله لهم كل البشر من غير اليهود ليكونوا لهم خدما ويحق لليهود ممارسة كل أنواع المعاملات القاسية بحقهم وصولا إلى القتل ؛ وذلك لأن اليهود هم شعب الله المختار..وتثبيتا لهذا التزوير ؛ تمارس دولة الكيان كل أشكال القتل والإقتلاع والتشريد بحق أبناء فلسطين العرب وغيرهم من أبناء الأراضي العربية المحتلة وبكل روح إجرامية لا تعرف للإنسان معنى..كل ذلك يتم تحت غطاء التفويض الإلهي لليهود باعتبارها شعب الله المختار..وأن أرض فلسطين ملكهم حيث قامت مملكتهم قبل آلاف السنين وأقام فيها النبي سليمان هيكله المزعوم..وتستمر إدعاءات بني صهيون رغم أن ستين سنة من الحفريات أسفل المسجد الأقصى وحوله لم تجد أي أثر يدل على وجود هيكل سليمان في القدس أو فلسطين..الأمر الذي يكذب بالوقائع كل إدعاءات ” الإسرائيلي ” بأحقيته التاريخية في ارض فلسطين..
ثانيا – أما مؤسسوا الحركة الصهيونية ودولة الكيان من اليهود فلا يمشون إلى بني إسرائيل الوارد ذكرهم في القرآن الكريم..فهم من يهود مملكة الخير التي أقيمت في محيط أراضي روسيا بعد أن إختارت القبائل التي تسكنها تبني الديانة اليهودية وذلك في حوالي القرن العاشر الميلادي..وحينما انهارت تلك المملكة تفرق يهودها في أنحاء اوروبا إلى أن تشكلت الحركة الصهيونية..
وهذا يعني إسقاط أية إشعارات دينية تجيب لليهود هؤلاء إستعمال فلسطين وإقتلاع شعبها منها..
ولهذا السبب تفقد دولة الكيان أهم مبررات إستندت إليها وبالتالي ستفقد الدوافع الأساسية التي حملت كثيرا من يهود العالم للهجرة إلى فلسطين..
ثالثا -القومية الدينية : تدعي الصهيونية أن أتباع الدين اليهودي المتفرقين في قارات العالم أجمع ؛ يشكلون شعبا واحدا لأنهم فقط يهود..وعليه يجب أن يجتمعوا في فلسطين لتشكيل دولتهم القومية..ولا تزال دولة الكيان تعمل للإعتراف العالمي بشرعيتها كدولة قومية – يهودية مما يسمح لها بإقتلاع جميع الفلسطينيين من أرضهم التاريخية لتثبيت نقاء الدولة عرقيا ودينيا..ورغم ٧٥ سنة من عمر الكيان إلا أن ذلك لم يتحقق لا عمليا ولا نظريا باعتباره يخالف حقائق التاريخ وتطور المجتمعات..
ولما كان هذا الإدعاء مناقضا لكل تاريخ البشرية القديم والحديث وكل علوم تطور المجتمعات وتشكل الأمم ؛ فإن عنصر الدين لم يكن وحده كافيا لتكوين أمة..حتى أن الأمة العربية التي تكونت تاريخيا بفضل الإسلام إلا أنه لم يكن العامل الوحيد في تأسيسها..حيث تضافرت عوامل كثيرة تاريخية وثقافية وجغرافية في تكوين الأمة العربية فكان من أبنائها مسلمون ومسيحيون ويهود وصابئة ..وعلى رغم دخول الإسلام في جميع بلاد فارس فإنها لم تشكل أمة عربية أو مسلمة فبقيت أمة فارسية وإحتفظت بكل خصائصها الوطنية والقومية..وهكذا سيكون حال دولة الكيان التي لن تستطيع أن تلغي الخصائص الوطنية والقومية ليهودها القادمين من مجتمعات كثيرة متباينة في التكوين والتراث والثقافة والقيم.. وعليه فإن دولة الكيان لن تستطيع تكوين مجتمع واحد متجانس يملك مقومات البقاء والاستمرار..
فالدين وحده ليس كافيا ولم يشكل يوما أساسا في تكوين أي مجتمع متجانس مستقر..
رابعا – أهلية شعب فلسطين : ولما كانت فلسطين مأهولة بسكانها من العرب منذ أكثر من ألفي سنة ؛ فإن الاستقرار التاريخي لشعبها على أرضها وتفاعله معها وفيما بينه ؛ يجعله هو صاحب الأرض وساكنها ومستقبلها..ولهذا لم ولن تستطيع دولة الكيان إقتلاعه من أرضه مهما تجبرت وتغطرست وإعتدت وقتلت ودمرت ، لأنه ببساطة هو صاحب الأرض التي عليها نشأ وإستقر..وهذا وحده كفيل بدحر المغتصب المستعمر مهما تحصل من قوة مادية عسكرية وغيرها ومهما إدعى فالتاريخ والوقائع يثبتان كل يوم كذبه وبطلان حججه.. فلن تستطيع آلته الاعلامية الجبارة وإمكانياته المادية الضخمة تغيير حدث تاريخي واحد عاشته أجيال متعاقبة من شعب واحد وثقافة واحدة وخصائص وطنية وقومية واجتماعية واحدة..
المصدر: كل العرب