وفيق النعيمي
ما زال عقله الباطن يستحضر قول محمود درويش في إحدى قصائده (يا حب أنت حظ المساكين) حين كان يغسل وجهه المكفهّر الصّامت مرات ومرات بالماء البارد والصّابون علّ الماء يقدر على ردم الأخاديد والحفر التي ظهرت على محياه مؤخّرا وعلى إخفاء آثار عبوسه الذي لازمه منذ مدّة , وكان لسان حاله يقول(يا مخيم أنت ملاذ الفلسطينيين).
وقتها كان يتحضّر للذّهاب إلى المخيم الذي ولد وعاش فيه لخمسين سنة خلت ولم يره مذ نزح عنه أي منذ شهرين تقريبا.
يُتم ارتداء ملابسه خلسةً , فيما أفراد أسرته ما زالوا يغطّون في نوم عميق موزعين على غرف المنزل المتواضع الذي استأجره بعد جهد في الآونة الأخيرة في أحد أحياء الريف الدمشقي.
يخرج مهرولا إلى الشارع الخالي إلاّ من بعض المارّة والكثير من السكون الذي يخيم على المكان ويرمي بثقله الكثيف عليه , ما يزيد من عبء هواجسه ومشاعره المختلطة التي تتنازعه وترين على صدره من فرح وحزن وخوف ورهبة من لقاء المخيم.
يستقل أوّل سيارة أجرة يصادفها لتقلّه إلى المدخل الجنوبي لمخيم اليرموك من جهة حي الزاهرة الدمشقي,هذا الحي الّذي ما زالت حدائقه ومساجده ومدارسه وحتى ساحاته العامة تعجّ بالنازحين الذين أخرجوا من بيوتهم عنوة وغادروها قسرا ليتشظوا في أماكن عدّة من الأحياء الدمشقية الغارقة بظلالها الكئيبة ودموع الياسمين , وكأنّ موجة من الصّقيع قد اجتاحتهم واقتلعتهم من حضنهم الدافئ فتراهم وكأنّهم أسراب حمام بلّلها المطر حتّى العظام.
بلا جدوى حاول السيطرة على مشاعره كلّما اقترب من المخيم وأحس بقرب اللقاء, تسمر في مكانه عند وصوله إلى الشارع الذي يفضي إلى المخيم وسيطر عليه شعور بالخذلان وخيبة الأمل حين فوجئ بالطوابير والحشود التي اصطفت أمام الحاجز الأمني الذي أقيم على مدخله والتي كان جلّها ممّن رفضوا الرحيل وآلوا على أنفسهم البقاء وهم عائدون من رحلة شرائهم الشاقة لحاجاتهم اليومية إضافة إلى جموع الزائرين الذين أتوا بهدف الإقامة الدائمة أو المؤقتة علّها تخفف عنهم وطأة النزوح ومعاناته.
لشراء حاجاته المتواضعة يتجه مباشرة إلى السوق الذي أقيم على عجل عند مدخل المخيم, يكتفي بشراء ربطة واحدة من الخبز وخمس عشرة بيضة والقليل من الخضار وعلبتي سجائر وكيلوغرام واحد من السكر.
ثم يتجه نحو الطابور ليقف بدوره ممسكا بحقيبته التي وضع فيها أشياءه التي اشتراها للتو , كانت جموع الناس ما زالت تتقاطر وتتجمع محملة بحاجياتها الأساسية وكأنها قطرات مطر تهطل رويداً رويداً من عيون تركت ألوانها وبريقها في مخيم ولدوا وعاشوا فيه كوطن.
بعد ساعتين أو أكثر بقليل يصل إلى الحاجز وما عادت تفصله عن مقصده سوى بضع خطوات.
يفتّشه رجل الأمن بوجهه الصارم ويدقّق مليا ببطاقته الشخصية ثم يسمح له بالدخول إلى المخيم.
بالتزامن مع خطوته الأولى , يرن هاتفه الجوال ( يهمس بصوت مسموع بعد إدراكه للخطأ الذي ارتكبه : آسف, علها زوجتي تريد التأكد من وصولي والاطمئنان علي) يوقفه رجل الأمن , يرمقه بنظرة غاضبة ,يصرخ بوجهه قائلا : أعطني هويتك وهاتفك وقف جانبا , ألا تعلم أنه ممنوع استعمال الجوال على الحواجز,يرتبك,يرد بصوت خفيض : أنا لم أستعمله ولم أرد عليه حتى , ثم يتنحى ليقف جانبا وحيدا مع هواجسه التي سيطرت عليه في تلك اللحظة الأبدية المشؤومة.
بعد ساعة أو أكثر بقليل ولسبب لم يدركه يقرر رجل الأمن بأن عقوبته قد انتهت، يعيد له بطاقته الشخصية والجوال معلنا بصوته الغاضب للجميع بوجوب إغلاق هواتفهم النقالة وإلا…. .
يسترد بطاقته الشخصية وهاتفه وقلبه الذي فر من صدره لينطلق بسرعة عبد إفريقي هارب من صياده نحو مدخل المخيم خوفا من تراجع رجل الأمن عن قراره بالصفح عنه.
ما زالت عينيه مغشتان وقلبه يرتجف حين احتضنه المخيم ببيوته المدمرة وبأكوام النفايات التي ملأت شوارعه وأزقته.
يجلس إلى جانب الطريق لبعض الوقت علّه يسترد أنفاسه ويسترجع بعض رباطة جأش كان قد فقدها عند الحاجز حين أوقفه رجل الأمن ،وكأنه كان يقف بين يدي الله وقد حمل على كاهله خطايا وذنوب البشر جميعا.
بعد محاولات عديدة ينجح باستعادة صفاء ذهنه ،يقف على قدميه ،يمشي بخطى متثاقلة متنقلا بين شوارع المخيم وحاراته شبه الخاوية ،متجها نحو منزله الذي عزم الذهاب إليه وما عادت تفصله عنه سوى أمتار قليلة , يعدل فجأة عن فكرة الدخول إلى المنزل ويقرر قضاء الساعات القليلة المتبقية من النهار في رؤية بعض الأصحاب والأقارب الذين خلفهم وراءه بهدف الاطمئنان عليهم وتسقط أخبار المخيم منهم.
عند المغيب يصر على الخروج وحيدا دون صحبة , يمشي في شوارع المخيم وأزقته في رحلة عناق ومناجاة وبوح وكأنه تحوّل إلى عاشقٍ صوفيٍ في لحظة عشقٍ وإشراقٍ وتوحدٍ حين تجلّى له وجه الخالق الباري (أليس البوح لازمة العاشقين ؟ )
فجأةً يمتلئ المكان من حوله بالهمس والنجوى….يصيخ السمع ليتناهى إلى أذنه صوت حواريات ومناجاة بين المباني والشوارع..بين الحواري والمآذن, يحاول لملمة شعث انتباهاته واستجماع رباطة ذهنه ،ليأتيه صوتٌ كأنه صوت الله ,يصرخ بحرقة هاتفا: ( أن أنا المخيم…ألم الفقد يذبحني …عودوا…فأعود بعودتكم…عودوا لتنعموا ببعض من سعادة , فتقر عيني وتهنأ نفسي بمسكنتكم ).
يدور حول ذاته باسطا ذراعيه إلى أقصاهما في رقصة مولوية تزيد من نشوته وعشقه ليقع بعدها مغشيا عليه.
دون أن يدري كم من الوقت أمضى ، يوقظه أول شعاع ضوء للصباح , يصحو ليجد نفسه وسط فوضى المكان , يمسح قطرات عرق عن جبينه المتفصد , ينفض عنه ما علق به من غبار ليلته ،يقرر الرحيل تاركاً وراءه قلبه وبعضٍ من شباب يعانقون مخيمهم , يرفضون الفكاك عنه, علّهم يعيدون إليه بعضاً من نبض حياة , فيما المخيم شامخٌ يرمقه ب.عيون نسرٍ تعوّد قمم الجبال…يهتف…يصرخ… يلهث…يصعد…يهبط…يحرض…يعبّئ…يئن…يبكي…ثم يعود ليهمس ويسكت…ويسكت الكلام.