تقارير
البابا بيوس الخامس أسس أول جهاز استخباراي خاص بالفاتيكان حمل اسم “الحلف المقدس” وكانت مهمته مطاردة البروتستانت وانخرط في هزيمة الشيوعية
هل تحتاج المؤسسة الرومانية الكاثوليكية لجهاز استخبارات خاص بها؟
تساؤل يبدو مثيراً، ذلك أنها مؤسسة دينية إيمانية، لكنها بحكم الواقع تبقى إمبراطورية، من دون مستعمرات، ومن غير حدود أو خطوط على خريطة جغرافية، ذلك أنها تنتشر في قارات الأرض الست.
في موسوعته “قصة الحضارة”، يصف المؤرخ الأميركي الشهير وول ديورانت تلك المؤسسة الكاثوليكية، بأنها أهم تنظيم بشري قائم منذ ألفي سنة.
هنا يمكن القطع بأن كياناً هائلاً يمتد عبر قارات الأرض الست، ويبلغ اليوم عدد مؤمنيه قرابة الـ1.4 مليار نسمة، كان لا بد له من جهاز ينظم حضوره على مستوى العالم، حتى وإن لم يحمل بالضرورة اسماً وثيق الصلة بعالم الاستخبارات الخفية.
يعن لنا بداية الإشارة إلى جزئية في غاية الأهمية، وهي أن وجود أتباع من الكاثوليك في قارات الأرض، يمثل كنزاً معلوماتياً، يتيح للجالس سعيداً على كرسي مار بطرس في الفاتيكان، معرفة واسعة بشؤون الأرض… كيف ذلك؟
ببساطة شديدة، تنطلق فكرة الجاسوس، من زرع شخص غريب في أرض أو بلاد أو مؤسسات مغايرة لانتماءاته الوطنية.
في حين أن المؤمن الكاثوليكي في الولايات المتحدة الأميركية، يمكنه أن يكون عيناً للبابا في الداخل الأميركي، وكذا نظيره الأفريقي أو الصيني، وحيثما توجد جماعات وطنية كاثوليكية.
من هنا تطفو على السطح، الأهمية الفائقة التي تمثلها دبلوماسية الفاتيكان العلنية، ويفهم المرء أبعاد الأدوار التي لعبتها في العقود الأخيرة من القرن الـ20، وبخاصة على صعيد العلاقات مع الاستخبارات المركزية الأميركية في زمن البابا البولندي الأصل كارول فويتيلا أو يوحنا بولس الثاني، وكيف أنها كانت الأساس الذي بنيت عليه المخططات السرية التي قادت إلى هدم الشيوعية بدءاً من بولندا في أوروبا الشرقية.
قبل هذه الحقبة، كانت هناك مرويات عديدة عما جرى خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، والمواجهات الخفية بين النازية والبابوية، وكذلك صراع المؤسسة الرومانية الكاثوليكية مع الدوتش موسوليني.
هل يعني ذلك أنه من قبل ذلك بقرون لم يكن هناك عيون وبصاصون لهذه المؤسسة أوروبياً وربما عالمياً؟
من هنا ينطلق الحديث عن استخبارات البابا أو الحلف المقدس.
البابوية إحدى أفضل الوظائف في العالم
من الأقوال التاريخية ذات الأثر الفاعل في تاريخ المؤسسة الرومانية الكاثوليكية، قول الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت: “البابوية إحدى أفضل الوظائف في العالم”.
أما الزعيم النازي أدولف هتلر، فقد وصفها بأنها “إحدى السياسات الدولية الأكثر خطورة ودقة”.
لقد شبه نابليون قدرة بابا واحد بقدرة جيش مؤلف من 200 ألف رجل.
في الواقع كان للبابوية على مر التاريخ مظهران: مظهر القيادة العالمية للكنيسة الكاثوليكية، ومظهر إحدى أفضل المنظمات السياسية على وجه الأرض. وبينما كان البابوات يمنحون بركتهم لجماعة المؤمنين بيد، كانوا يستقبلون باليد الأخرى سفراء أجانب، ورؤساء دول ويرسلون موفدين وسفراء في مهام خاصة.
والشاهد أنه لا يمكن سرد تاريخ الحلف المقدس (جهاز استخبارات الفاتيكان)، الذي سيطلق عليه في ثلاثينيات القرن الـ20 اسم “الكيان”، من دون سرد تاريخ البابوات، ولا يمكن سرد تاريخ البابوات من دون سرد تاريخ المؤسسة الرومانية.
وربما يحتاج الأمر لقراءة مفصلة عن البابوات الذين أطلق عليهم في القرون الأوروبية الوسطى “كهنة الأمراء”، في مزج واضح بين الدين والسلطة.
إلا أنه من المؤكد أن هؤلاء أي البابوات ما كانوا ليوجدوا لولا وجود الكنيسة نفسها، وكما كتب البابا بولس الرابع (1476-1559)، في رسالته البابوتيه “كنيسته”: “أزيلوا السلطة العليا للحبر، تنتف كاثوليكية الكنيسة الكاثوليكية”.
والمقطوع به أنه من دون النفوذ الفعلي للبابوات، لما وجد “الحلف المقدس” و”منظمة التجسس المضادة” (جمعية بيوس)، وهما جزء من الآلية التي أسهما أيضاً في صياغتها، وقد تأسست الأولى في عام 1566، والثانية في عام 1913.
كتب كارلون كاستيليوني، وهو مؤرخ ومؤلف إحدى أفضل الموسوعات عن البابوية ذات مرة يقول “مما لا شك فيه أن التاج ثلاثي الأطراف الذي يضعه البابوات يرمز إلى النفوذ الذي يمارسونه في السماء وعلى الأرض والعالم السفلي”.
وعلى رغم من واقع حدوث تغييرات في السلطة البابوية بسبب التكيف مع متطلبات العصر والتجديد، والسياسة، والاقتصاد، فإن مصالح الكنيسة هي التي حددت على الدوام نشاطات جواسيس الفاتيكان.
ويؤكد لنا الخبراء في شؤون الفاتيكان أن الكنيسة وهيكلياتها لم تتخل أبداً عن صورتها الإمبراطورية، بل أصبح البابا يرمز إلى الإمبراطور ببساطة.
ماذا عن قصة “الحلف المقدس” وعن مؤسسه؟
إريك فراتيني وجذور الحلف المقدس
يعد الكاتب الإسباني إريك فراتيني أفضل من قدم رؤية واسعة وموثقة لقصة “الكيان” ENTITY، الذي يعني جهاز استخبارات الفاتيكان.
هناك روايات عديدة في الواقع حول مؤسس “الحلف المقدس”، غير أنه من المؤكد أن البابا بيوس الخامس (1566- 1572) هو الذي قام بتنظيم أول جهاز تجسس بابوي في عامه الأول من حبريته.
مثير جداً الهدف، ذلك أنه لم يكن محاربة الدولة العثمانية التي اشتبكت مع دويلات إيطاليا في ذلك الوقت، وإنما كان بهدف مكافحة البروتستانتية، بعد الانشقاق الذي قام به الراهب “مارتن لوثر” ورفضه سلطة المؤسسة الرومانية الكاثوليكية، وقد كانت البروتستانتية وقتها متجسدة في صورة ملكة إنجلترا إليزابيث الأولى.
في سرية تامة جرى استدعاء الكاهن الشاب “أنطونيو ميكال غيسليري” إلى روما لتولي مهمة خاصة، مستفيداً من حماية الكاردينال القوي “جان بيار كارافا” (البابا بولس الرابع المستقبلي).
فوض الكاردينال غيسليري إنشاء جهاز تكون مهمته مناهضة من يقومون بالتجسس على البابوية، وكانت مهمة الجهاز الذي وضع له نظاماً هرمياً، هي جمع معلومات عن كل من قد ينتهك التوجيهات البابوية أو عقيدة الكنيسة ليحاكم من قبل محاكم التفتيش أو اللجنة المقدسة.
كان الكاهن الشاب مولعاً بالجمعيات السرية، وكانت اللجنة المقدسة إحدى الجمعيات السرية الأكثر قوة في زمنه. ولفت العمل الذي نفذه عملاء غيسليري في منطقتي كومو وبرغامو انتباه السلطات في روما. ففي أقل من عام، مثل نحو 200 شخص من فلاحين ونبلاء وسواهم أمام محاكم التفتيش، ووجد أكثر من 200 شخص مذنبين بعد تعرضهم لتعذيب مروع وتم إعدامهم.
شهدت هذه اللجنة تطورات يوماً تلو الآخر، وسنة بعد سنة، ففي عام 1551، وفي ظل ولاية البابا يوليوس الثالث (1550- 1555)، رقي أنطونيو ميكال غيسليري من قبل الكاردينال كارافا إلى منصب مفوض عام لمجمع اللجان المقدسة التابع لمحاكم التفتيش، وهو منصب كبير في هذه المجموعة الاستخباراتية ذات الأبعاد الدينية.
جاءت هذه الترقية تقديراً لخدمات قدمها غيسليري، وهكذا شرع هذا الأخير بتحسين اللجنة المقدسة لتتمكن من تحقيق أهدافها بشكل أفضل. فأدخل إصلاحات على مجلسها الحاكم في المقام الأول، وعين البابا مجموعة من الكرادلة للإشراف عليها. وعندما كان يتم تقديم شخصيات مهمة من المجتمع الروماني إلى المحاكمة، كان هؤلاء الكرادلة يلعبون دور القضاة والمستشارين البابويين في آن واحد.
كانت هذه هي البداية، لكن ماذا عن الأهداف التي سعى إليها “الحلف المقدس” بالتفصيل أول الأمر، وكيف توسعت أعمال هذه اللجنة لتشمل عموم القارة الأوروبية في ما بعد؟
بابا الظل شبكة جاسوسية في القارة الأوروبية
أنشأ غيسليري أيضاً في عام 1552 الفئات السبع من المجرمين الذين تنظر محاكم اللجنة المقدسة في قضاياهم وهم: الهراطقة، المشتبه فيهم بأنهم هراطقة، من يحمي الهراطقة، العرافات والساحرات، المجدفون، من يقاوم سلطات محاكم التفتيش وعملاءها، من يفض أختام اللجنة المقدسة أو يقلل من احترام شاراتها أو حتى ينتهك حرمتها.
في ذلك العام نفسه، بدأ غيسليري ينشر شبكة حقيقية من الجواسيس في أنحاء روما، وقد نشطوا في كل مكان بدءاً، من بيوت الدعارة في المدينة وانتهاء بمطابخ قصور النبلاء.
كانت كل أنواع المعلومات التي يقومون بجمعها تسلم شخصياً لغيسليري بإحدى طريقتين: شفهياً أو من خلال ما يسمى “التقرير الأحمر” وهو عبارة عن قطعة صغيرة من ورق الرق ملفوفة بشريط أحمر يحمل شارة اللجنة المقدسة.
ووفقاً للقوانين مرعية الإجراء، فإن من يفض هذا الختم يستحق الإعدام الفوري. كان عملاء غيسليري يذكرون في هذه التقارير كل التهم الموجهة ضد المواطنين الرومانيين الذين يعتقد أنهم انتهكوا المبادئ الأخلاقية للكنيسة من دون ذكر أي دليل، فيكونون إذ ذاك عرضة للاستجواب من قبل محكمة اللجنة المقدسة، ويتم إيداع التقرير الأحمر في صندوق بريد برونزي صغير في المراكز الرئيسة التابعة لمحاكم التفتيش في روما.
طوال سنوات، أنشأ المفوض العام لمحاكم التفتيش إحدى أكبر شبكات التجسس وأكثرها فعالية، غير أن خوف البابا التالي، بولس الرابع، من تعاظم نفوذ أنطونيو – ميكال غيسليري، غير المسبوق الذي كان سكان روما يدعونه “بابا الظل”، دفعه لأن ينصبه كاردينالاً، ومذ ذاك الحين، غدا غيسليري مفتشاً أكثر خطورة وقوة في محاكم التفتيش، ولم يكن يرغب عديد من أعضاء مجمع الكرادلة في السماح له بالتخطيط لمستقبل الكنيسة الكاثوليكية من موقعه كرئيس للجنة التفتيش.
الحلف المقدس وأعمال السياسة والدبلوماسية
في أغسطس (آب) 1559 توفي البابا بولس الرابع، الذي كان يشكل جداراً حامياً لغيسليري، وقد كان رجلاً حازماً ودبلوماسياً ماهراً وقد عقد العزم على تطهير المؤسسة الرومانية الكاثوليكية من كل أثر خلفه بولس الرابع، وفي المقدمة أعضاء اللجنة المقدسة، الذين يقودون محاكم التفتيش أو شبكات الجاسوسية.
تمكن غيسليري من الهرب من روما، وقد خدمه الحظ إذ لم يعمر البابا بيوس الرابع طويلاً، فقد رحل في 1565، وقد كان البحث جارياً عن بابا جديد قادر على قيادة المؤسسة الدينية العريقة.
حين اجتمع الكرادلة ضمن ما يعرف بـ”الكونكلاف” الذي يجري فيه انتخاب بابا جديد للكنيسة، كان من المثير للغرابة أن المستشار الرئيس للبابا المتوفى حديثاً بيوس الرابع، الكاردينال كارل بورومبو، هو من قرر بعد ثلاثة أسابيع من المداولات تأييد ترشيح غيسليري الذي كان يحظى بدعم ملك إسبانيا فيليب الثاني، فطيلة سنوات، كان غيسليري يجمع معونة سنوية تبلغ 800 دوكات من التاج الإسباني.
في السابع من يناير (كانون الثاني) 1566، انتخب الكاردينال غيسليري بابا واعتمد اسم “بيوس الخامس”، وجاء في تقرير السفير الإسباني: “بيوس الخامس هو البابا الذي تقتضي الظروف وجوده”.
استحسن فيليب الثاني ارتقاء حليفه إلى كرسي القديس بطرس، وكان اختياره انتصاراً لكل القوى التي أرادت حبراً أعظم متديناً، وفي الوقت نفسه قادراً على مكافحة الحركات البروتستانتية المتمردة.
أما الحقيقة الثانية، فهي أن بيوس الخامس استخدم خبرته الواسعة كرئيس لمحاكم التفتيش، وأنشأ جهاز تجسس فعالاً لا يرحم، ويطيع أوامر البابا طاعة عمياء.
لم تكن المهمة الأولى لعملاء الحلف المقدس -الاسم الذي أطلقه البابا نفسه على جهازه السري إكراماً للحلف القائم بين الفاتيكان والملكة ماري ستيورات الكاثوليكية- سوى الحصول على معلومات عن الحركات السياسية المحتملة والمكائد التي يتدبرها بلاط لندن، وإرسال التقارير المجمعة إلى الملوك الأقوياء المؤيدين للكثلكة ولسلطة البابا ضد التيار البروتستانتي الناشئ.
تمثلت المسؤولية الرئيسة لجواسيس البابا بتقديم خدماتهم لماري ستيورات ملكة الاسكتلنديين، بهدف إعادة الكثلكة إلى اسكتلندا التي كانت قد أعلنت اعتماد الريسبيتارية (مذهب بروتستانتي منشق) عام 1560، إضافة إلى مكافحة البروتستانتية بصورة عامة. وأدرك بيوس الخامس أن عدوه الرئيس يتمثل في كنيسة إنجلترا المنشقة بشخص الملكة إليزابيث الأولى، ابنة هنري الثامن وآن بولين لم يكن “بيوس الخامس” بابا اعتيادياً في تاريخ الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، فقد حرم من طريق المرسوم البابوي “السيادة في الأعالي” عام 1570 إليزابيث الأولى ملكة إنجلترا بسبب هرطقة واضطهاد الإنجليز الكاثوليك خلال فترة حكمها، كما قام بترتيب تشكيل الرابطة المقدسة، وهي تحالف من الدول الكاثوليكية لمكافحة تقدم الإمبراطورية العثمانية في أوروبا الشرقية.
وعلى رغم تفوق الإمبراطورية العثمانية في العدد، فإن العصبة المقدسة هزمت العثمانيين في معركة ليبانتو عام 1571. وعزا بيوس الخامس الانتصار إلى شفاعة السيدة العذراء وأقام عيد سيدة النصر.
من عند “بيوس الخامس” ستترسخ جذور الحلف المقدس والعمل الاستخباري السري.
الحلف المقدس وزمن الفاتيكان الثاني
يصعب على المرء أن يحيط بخمسة قرون ونيف، في بضعة أسطر، غير أن التساؤل الذي ربما سيخطر على الأذهان: ما هو مآل هذا الحلف، وهل لا يزال باق إلى حاضرات أيامنا أم إنه اضمحل مع توالي الأيام وتعاقب السنين؟
دعونا نقفز إلى أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، حيث البابوية يشغلها البابا الطيب، يوحنا الـ23، الذي حل في السدة البطرسية عام 1958 بعد وفاة البابا المثير لكثير من الأحاديث، بيوس الـ12.
في السنوات الأربع والأشهر السبعة، والأيام الستة التي أمضاها يوحنا الـ23 في إدارة شؤون كنيسة روما، لم يقم الحلف المقدس بأي نشاطات. كان البابا مهتماً بمنح مقابلات رسمية لابنة القائد السوفياتي نيكيتا خروشوف رايسا أو الإعداد للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الذي سيغير أحوال المؤسسة الرومانية الكاثوليكية تغييراً جذرياً، أكثر من قلقه حيال شؤون دنيوية وسياسية في الجانب الآخر من الستار الحديدي.
كرس الحلف المقدس نفسه لنشر عملاء في دول أوروبا الشرقية نظراً إلى تنامي نفوذ الشيوعية وضراوة الحرب الباردة. من جهتها، قامت جمعية بيوس، التي تفرعت حكماً عن الحلف المقدس بوصفها جهاز الاستخبارات الداخلي المكلف مكافحة أعمال التجسس والجاسوسية ضد مؤسسة الفاتيكان، بعمليات مراقبة وثيقة لشخصيات في الكوريا الرومانية (حكومة البابا)، ودوائرهم ممن سيتولون مهمة إطلاق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
عندما توفي الكاردينال “بيترو فوماسوني – بيوندي”، في 12 يوليو (تموز) 1960، وكان مسؤولاً عن جهاز استخبارات الفاتيكان منذ ولاية بيوس الـ12 البابوية، قرر الحبر الأعظم يوحنا الـ23 عدم تعيين بديل له. كان البابا مؤيداً “لفتح أبواب الفاتيكان للعالم”، مما يعني ضمناً انتهاء العلميات السرية لأجهزة الاستخبارات.
في أواخر عام 1962، عانى يوحنا الـ23 من نزيف حاد كان الدلالة الأولى لمرض خطر. وفي الثالث من يونيو (حزيران)، توفي تاركاً كرسي القديس بطرس شاغراً. كان على مجمع الكرادلة الانعقاد ست مرات لانتخاب خلف.
قبل أيام من تقاعدهم من الكونكلاف، التقت مجموعة من الكرادلة بقيادة “جياكومو لركارو”، من بولونيا في فيلا غروتافراتا التي يمتلكها “أومبرتو أورتولاني”، هناك وفي جنح الظلام وبحماية عملاء من الحلف المقدس، تباحثت هذه المجموعة في شأن الكاردينال الذي سيقومون بدعمه لدى عقد مجمع الكرادلة لانتخاب بابا جديد، ووقع اختيارهم على “جيوفاني باتيستا مونتيني” رئيس أساقفة ميلانو، الذي كان قد أبلغ عن الاجتماع في مقر الماسونيين الأحرار ذائعي الصيت.
بدأ الكونكلاف أعماله بعد ظهر 19 يوليو (تموز) 1963، وبعد يومين انتخب الكاردينال مونتيني البالغ من العمر 65 عاماً بابا في الاقتراع الخامس، وكان القرار الأول للبابا مبادلة أورتولاني الماسوني الضيافة التي تلقاها منه من خلال منحه منزلة “نبيل قداسته”.
هل كانت هذه بداية جديدة لأعمال الحلف، ضمن شراكات واسعة مع أطراف أخرى عالمية، لا سيما أن تلك الآونة كانت تشهد مرحلة الحرب الباردة الواسعة بين حلفي وارسو والأطلسي، التي سيقدر للبابوية أن تلعب خلالها دوراً تاريخياً لا تزال غالبية أسراره قابعة ضمن أضابير الفاتيكان السرية؟
يحتاج الجواب لقراءة خاصة لا سيما الحقبة الخاصة بالبابا يوحنا بولس الثاني (1978-2005) ثالث أطول حبرية في تاريخ المؤسسة الرومانية الكاثوليكية، وقد كان بطلها المونسنيور “لويجي بوغي”.
عن الرئيس المجهول للحلف المقدس
في نوفمبر (تشرين الثاني) 1994، رقي بوغي المعروف على الصعيد الدولي بأنه جاسوس البابا إلى درجة الكاردينالية تعويضاً عن خدماته الخاصة التي قدمها للحبر الأعظم يوحنا بولس الثاني، على رأس الحلف المقدس.
برحيل لويجي بوغي كرئيس لأجهزة الاستخبارات الفاتيكانية، أفل نجم أحد المخبرين الأكثر أهمية للحلف المقدس، فقد كان الرجل الذي يعرف معظم صلات الفاتيكان بحركة التضامن البولندية المناهضة للمعسكر الشيوعي، وأسرار محاولة اغتيال يوحنا بولس الثاني، وعمليات الفاتيكان وواشنطن في بولندا، والعلاقات بين الموساد الإسرائيلي ورونالد ريغان والـ”سي آي أي” برئاسة وليام كايسي، وها هو ينكفئ إلى مسقط رأسه في مدينة “بيانشينزا” شمال إيطاليا.
مع وصول البابا بندكتوس الـ16 إلى السدة البابوية بعد رحيل يوحنا بولس الثاني، ظل اسم رئيس الحلف المقدس أو الكيان مجهولاً، رغم أنه قام بالفعل بتعيين رئيس جديد على ما يدعى اللجنة الأمنية التي تضمن سلامة البابا أثناء رحلاته.
ومع رحيل بندكتوس ومجيء فرنسيس، الذي تحوم حوله علامات استفهام لا سيما حول صلاته بجماعات سرية مختلفة، لا يزال التساؤل حول الكيان قائماً، أياً يكن الرئيس الجديد، وهل هو نفسه الذي اختاره بندكتوس أم إن فرنسيس قام بتغييره؟
في كل الأحوال، لا يتوقع المرء وجود فارق كبير في الجوهر وإن اختلفت التوجهات التكتيكية، فباستطاعة الرئيس الجديد للكيان أن يتوقع سنوات من المجد والإنجازات الكبيرة لأجهزة التجسس التابعة لدولة الفاتيكان، سيما أن هناك أعداء جدد بعد أن انتهى الوجود الشيوعي.
هناك الشيع الإنجيلية التي يزداد نفوذها في أميركا اللاتينية الأمر الذي يكلف الكنيسة الكاثوليكية ارتداد عديد من أبنائها عن الإيمان الكاثوليكي.
في الصين تستمر حكومة بكين باضطهاد ممثلي الكنيسة الكاثوليكية. وهناك لاهوتيون كاثوليك في أماكن أخرى يحاولون الخروج عن التوجيهات الصارمة للفاتيكان.
باختصار غير مخل يقدم العالم عديداً من الأعداء والعمليات التي ما زال عملاء الحلف المقدس يقومون بها، مما يعني استمرار الحلف في عمله كذراع استخباراتية فاتيكانية على مر خمسة قرون.
المصدر: اندبندنت عربية