بعض النظرات التحليلية على عينة من الخطاب السياسي العربي تشير إلى تحوّلات في بنيته، وعلاماته ومجازاته ومرجعياته واصطلاحاته، والأهم الخطاب فيما وراء الخطاب، وذلك منذ مراحل التحرر الوطني، والحرب الباردة إلى ما بعدها.
ثمة تحوّل من الخطابات الإيديولوجية والشعبوية إلى بعض من الخطاب البراغماتي الرث والواقعية السياسية “السوقية”، من حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 إلى التحوّل من رأسمالية الدولة الوطنية لإعادة الهيكلة والإصلاح الاقتصادي والاقتصاد الحر والنيوليبرالية – دونما ليبرالية سياسية -، مع تراجع في مستويات الخطاب ولغته وتماسكه البنيوي وتفككه وعنفه الرمزي واللغوي!.
كشفت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة عن تهافت هذا الخطاب، وعدم قدرته على أداء الوظائف السياسية التي كان ينهض بها منذ الاستقلال، ومشروعات “التنمية”، والصراع العربي الإسرائيلي والتحوّلات التي شهدتها دول المنطقة، خاصة بعد التسويات السياسية من بعض النظم العربية مع إسرائيل، وتطبيعهم معها، وتواطؤ الخطاب السياسي العربي على تهميش المسألة الفلسطينية.
لا يمكن فهم عدم فاعلية الخطاب السياسي السلطوي، إلا من خلال التحليل السياسي للوظائف السياسية التي لا تزال مستمرةً دونما تحقق للوظائف التي نيطت به، وهو ما سوف نتناوله في هذا المقال.
استخدم آباء الاستقلال وخلفاؤهم في السلطات الاستبدادية والتسلطية الخطاب السياسي لأداء الوظائف التالية:
أولًا: مركزية السلطة والدولة الوطنية ووحدانية الزعامة؛ فالسياسية “الملهمة” حول شخصية الحاكم وإضفاء التفرد، والحكمة السياسية والكفاءة والنزاهة، وحس العدل الاجتماعي، وتمجيد دوره القيادي، وحرصه على المصلحة الوطنية، وهو ما أدى إلى الخلط في الوعي شبه الجمعي بين الدولة وسلطاتها وأجهزتها، واختزالها في شخصية الحاكم الفرد.
ثانيًا: إضفاء الشرعية الرمزية على التغيّرات السلطوية الحادة من حاكم لآخر، والانقلابات العسكرية والسياسية وإرجاع المشكلات والأزمات المتفاقمة إلى الحاكم أو الحكام السابقين وزمرتهم ومحاسيبهم سواء من مات على نحو طبيعي أو عبر محاكمة أو اغتيال سياسي!.
ثالثًا: التكريس الرمزي لمفهوم الوطنية الهش في مجتمعات انقسامية في مكوناتها، وفي ظل عدم فاعلية سياسات التكامل الداخلي في بناء موحدات عابرة للجماعات التكوينية – الدينية والمذهبية واللغوية والعرقية والقبلية والمناطقية – والاستثناء المثالان المصري والمغربي.
رابعًا: التعبئة السياسية للفئات الاجتماعية المتحالفة في إطار نظام الحزب الواحد – مصر الناصرية والساداتية قبل التعددية السياسية الشكلية المقيّدة -، أو شد عضد التحالف بين الأحزاب التقدمية تحت قيادة الحزب الحاكم – سوريا تحت البعث -، وذلك من خلال الخطاب الثوري الراديكالي والعروبي.
خامسًا: التعبئة الاجتماعية للطبقات الشعبية – الصغيرة والوسطى – وراء سياسات وخطط التنمية المعلنة.
سادسًا: خطاب تسييس الدين، وتديين الدولة والشرعية، وتمثّل في عديد من الوظائف على النحو التالي:
1- التوظيف السياسي للإسلام والدين عمومًا وفق السياقات الاجتماعية السائدة في كل مرحلة من مراحل التطور السياسي والاجتماعي، حينًا من منظور تقدمي داعم للتنمية – مصر الناصرية –، وحينًا آخر بالغ المحافظة والتشدد – مصر الساداتية -، وكمصدر من مصادر الشرعية السياسية، وأداة للتعبئة السياسية والاجتماعية، أو إحدى أدوات السياسة الخارجية تجاه الدول الإسلامية، أو في مواجهة الدول المحافظة التي تستند شرعيتها العائلية على الإسلام – السعودية مثالًا -!
2- المثال البورقيبي ذهب إلى أنّ الموروث الإسلامي النقلي يشكل عائقًا إزاء التقدّم الاجتماعي وحقوق المرأة، ومن ثم دعم الاتجاه الإصلاحي في جامع الزيتونة، وقام بإصلاح أوضاع المرأة التونسية وإصدار مدوّنة للأحوال الشخصية دعمت التطور الاجتماعي.
3- وُظف الدين كأحد أدوات الصراع السياسي مع بعض قوى المعارضة السياسية على نحو ما قام به السادات في مواجهة الناصريين والاتجاه القومي العروبي، والجماعات اليسارية المحجوبة عن الشرعية القانونية.
4- استخدم الدين أداتيًا في تسويغ وتبرير عمليات الانتقال من رأسمالية الدولة الوطنية إلى نظام الانفتاح الاقتصادي والتحول إلى الرأسمالية بلا ديمقراطية، ونقد ملكية الدولة، وتمجيد الملكية الفردية!.
5- وظف الخطاب الساداتي ومعه الخطاب الأزهري في تبرير وتسويغ وشرعنة السلام مع إسرائيل، والخروج من الصراع العربي الإسرائيلي.
6- استخدام الخطاب الديني السياسي التسلطي في مواجهة جماعات الإسلام السياسي بعد دمج بعضها جزئيًا – الإخوان وبعض السلفيين – في النظام، إلى وثوب الإخوان والسلفيين إلى سدة السلطة بعد الربيع العربي المجازي!، وفي إزاحته عنها وفق المثال المصري وحزب النهضة في تونس.
7- توظيف السلطات الحاكمة للدين في وظائف سياسية، أدى إلى تنشيط وتحفيز التوظيف المضاد من قبل الجماعات الإسلامية والسياسية والراديكالية، ووصف الدولة والنظام والسلطة الحاكمة بعدم الشرعية الدينية، ومعها الأنساق القانونية الحديثة، وأيضًا أدى ذلك إلى تمدد الأسلمة الاجتماعية من أسفل وسط القواعد الاجتماعية الشعبية، والأسلمة من الوسط – عبر النقابات وبعض المنظمات الطوعية -، وأسلمة نظام الزي للمرأة في المجالين العام والخاص.
8- نستطيع القول إنّ محاولات تجديد الخطاب الديني السلطوي اتسمت بالإخفاق نظرًا لهيمنة الاتجاهات النقلية المحافظة داخل المؤسسات الدينية الرسمية – وتمدد الإخوان والسلفيين داخل غالب هذه المؤسسات – وأزمات تكوين رجال الدين تعليميًا ومنهجيًا ومعرفيًا وانفصال غالبهم عن العلوم الاجتماعية والمقاربات النقدية!.
ثمة فشل في فاعلية الخطاب السياسي في أداء وظائفه، ومعه الخطاب الديني السلطوي، في مواجهة التغيّرات السياسية والاجتماعية والجيلية في العالم والمنطقة العربية، وخاصة في ظل الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي التوليدي، وجيل (Z) و(ألفا)، وتزايد النزعتين اللاأدرية واللادينية، والاتجاهات النقدية للفكر الديني النقلي، ونزوع بعض هذه الاتجاهات إلى إبراز بعض التناقضات في بعض مصادر نظام الشريعة الإسلامية، أو السياقات السياسية التاريخية في استخدام العنف والتكفير الديني تجاه المعارضين لولاية السلطان المتغلب وموالاة بعض الفقهاء له!.
هذه التغيّرات أدت إلى التشكيك وعدم الفاعلية في توظيفات الخطاب الديني السلطوي، وفي الوقت ذاته لم يعد الخطاب السياسي التسلطي والاستبدادي قادرًا على أداء الوظائف المنوطة به سلطويًا، وهو ما سوف نتناوله في المقال القادم.
المصدر: “عروبة 22”