معقل زهور عدي
كانت نهاية العهد الفيصلي مرتسمة مع اتفاق سايكس بيكو ووعد بلفور منذ العام 1916 , وجاءت نتائج الحرب العالمية الأولى لتكرس ذلك المخطط الغربي المدروس بعناية وتصميم للمشرق العربي , بالتالي فقد عاش العهد الفيصلي وازدهر خلال الفترة الإنتقالية الفاصلة بين انتهاء الحرب العالمية الأولى وانسحاب الجيوش العثمانية من البلاد العربية وبين احتواء نتائج تلك الحرب على صعيد السياسة العالمية ( مؤتمر السلام في باريس – الدور الأمريكي – لجنة كنغ – كراين – اتفاقيات الاستسلام لألمانيا – الإمبراطورية النمساوية – المجرية – الدولة العثمانية – عصبة الأمم المتحدة -التوصل لتعديل اتفاقية سايكس بيكو وضم الموصل وفلسطين لحصة بريطانيا مقابل الداخل السوري لفرنسا ) مع ذلك وضمن ذلك الإطار العام يمكن التوقف عند دور الأمير فيصل المرتبط مباشرة بثورة الشريف حسين في الحجاز والحركات القومية في بلاد الشام . لكن الذي مال شيئا فشيئا للإستقلال والتفرد في محاولة بناء مملكة عربية – سورية وعرش مستقل الى حد كبير عن والده في الحجاز .
لعب فيصل دورا مركزيا في إنشاء مشروع الدولة السورية بين 1918 – 1920 كما لعب في الفترة التي سبقت دخول الجيش الفرنسي لدمشق في 25/7/1920 وبعد دخوله دورا مركزيا في انهيار تلك الدولة .
كانت سورية الخارجة من رحم الدولة العثمانية بحاجة لقيادة تاريخية تتجمع حولها مكوناتها التي لم تعهد الإتحاد من قبل , فحلب مثلا كانت كيانا ديمغرافيا راسخا يضم معظم شمال سورية وترتبط به كيليكية والموصل ويمتد تأثيره جنوبا حتى المعرة وغربا حتى اللاذقية وإنطاكية وشرقا لبادية الشام وإقليم الجزيرة . وقد ظهرت تلك الكيانية لاحقا عندما وجدت فيها فرنسا الفرصة لتقسيم سورية ليسهل السيطرة عليها , ويمكن رؤية كيف أن إنشاء دولة حلب وافق ميولا كامنة عند الأرستقراطية الحلبية أو قسم هام منها على أقل تقدير .
ويمكن ملاحظة كيانية مشابهة في الساحل السوري الذي وجدت لجنة كنغ – كراين أن الأغلبية فيه تفضل الإنتداب الفرنسي , أما دير الزور والمناطق الشرقية فرغم أنها لم تكن موضع اهتمام مماثل من جانب الإنتداب الفرنسي لكن ذلك لايعني عدم وجود كيانية خاصة لهذا الاقليم الذي كان يعرف دائما بإقليم الجزيرة ( دير الزور والحسكة والقامشلي والرقة الواقعة على تخوم الشام ) وهي كيانية تتميز بقربها من الديمغرافيا العراقية وغلبة الطابع العشائري مع وجود أقليات كردية وآشورية في الشمال الشرقي .
وفي الجنوب هناك الكيانية الدرزية والحورانية , ويمكن أن نستعيد هنا ماذكره أسعد داغر في مذكراته من وجود دعوات في حوران للإلتحاق بشرق الاردن بعد سيطرة فرنسا على دمشق عام 1920 .
ليست الكيانيات السابقة هي كل شيء في سورية فهناك التقسيمات المذهبية التي لاتتطابق معها في كثير من الأحيان فالكيانية المسيحية تتوزع على العديد من المدن والقرى , وهناك العشائرية – القبلية التي يمتد أثرها حتى داخل المدن والأرياف , وهناك الإنقسامات الاجتماعية الطبقية والفئوية بين ملاك الأراضي والفلاحين وبين الأرستقراطية المدينية التجارية والطبقات الوسطى والفقيرة .
كل تلك الإنقسامات كانت بحاجة إلى شخصية تاريخية رمزية لتتحد حولها , وبالطبع فإن ذلك الاتحاد لن يضم كل تلك الأجزاء لكن شموله غالبيتها كان كافيا لإسكات البقية ومسايرتهم للتيار خلال صعوده الكبير. مثل فيصل المنقذ والفاتح القادم من أعماق الذاكرة العربية التاريخية والذي سيعيد للعرب مجدهم التليد , ويستعيد حلم الدولة الأموية , ففيصل هو معاوية الجديد , وهو حفيد الرسول القادم من الحجاز, وهكذا استيقظ الحلم التاريخي في دمشق , ولم يكن ذلك بعيدا عن أحلام فيصل ذاته .
في تلك اللحظة المفعمة بالمشاعر , انطلق تيار شعبي جارف وتيار نخبوي مرافق استطاع التغلب على علل الإنقسامات الكامنة في سورية أوإزاحتها للوراء لحساب مد قومي عربي هو مزيج من مشاعر قومية حداثية وإسلامية معتدلة ( ليبرالية ) مندمجة مع العروبة بطريقة لافتة .
لكن ذلك المد سرعان ما ارتطم بالحقائق السياسية والعسكرية العربية والدولية القاسية , فالرمز التاريخي الأسطوري وأعني به فيصل لم يكن سوى أمير حجازي نشأ ضمن مؤسسة شرافة مكة التي عانت من العزلة الطويلة , ومنذ بداية ثورة والده الحسين كانت العائلة قد وقعت في قبضة الإمبراطورية البريطانية شديدة الدهاء والقوة ولم يكن بمقدورها في أي وقت تجاوز توجيهات الحكومة البريطانية وقد أصبح لورانس ذا كلمة مسموعة لدى السياسيين البريطانيين فيما يخص المنطقة العربية من خلال علاقته مع ثورة الشريف حسين وخاصة مع فيصل بعد أن اشتهر بتأثيره الكبير عليه , وما كان لثورة الشريف حسين التقدم خطوة واحدة بل حتى مجرد البقاء في مواجهة القوة العسكرية العثمانية في الحجاز بغير التدخل البريطاني الواسع والذي شمل مدها بالمال والسلاح والرجال والمستشارين العسكريين وانخراط سلاح البحرية الملكي في المعارك التي أسفرت عن الاستيلاء على سواحل الجزيرة من جهة البحر الأحمر ( جدة ورابغ وينبع ) والتي أمنت نقل الجنود العرب الذين أسرتهم جيوش الحلفاء في المعارك مع الدولة العثمانية ثم دفعتهم للقتال مع الشريف حسين وكذلك الضباط والجنود المصريين ذوي الخبرة في المدفعية والتخطيط خلال وقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني , وفي الحقيقة فإن كل ذلك الدعم يعني أن ثورة الشريف حسين كانت لافتة أكثر منها قوة حقيقية , وكان لذلك أثره الواضح في علاقتها ببريطانيا .
وحين دخل فيصل دمشق فإنما دخلها كواجهة عربية إسلامية للجيش البريطاني بقيادة الجنرال اللنبي الذي عينه حاكما مؤقتا للجزء الداخلي من سورية بينما عين جنرالا فرنسيا حاكما عسكريا للجزء الغربي الذي يتضمن لبنان والساحل السوري حتى إنطاكية واحتفظ لنفسه بفلسطين ثم شرق الاردن تحت الحكم المباشر البريطاني بعيدا عن أي نفوذ أو سلطة للأمير فيصل بينما كان فيصل يذيع البلاغات المضللة للشعب عن استقلال سورية وتحررها وتبعيتها للدولة العربية بقيادة الشريف حسين في مكة .
ولاينفي ماسبق وجود مشاركة فعالة لجيش الشمال العربي بقيادة فيصل في المعارك مع الجيش العثماني كرديف لجيوش الحلفاء عمل لقطع خطوط الإمداد للجيوش العثمانية وتشتيت جهدها العسكري , لكن ذلك الجيش تكون تدريجيا مع انضمام القبائل العربية والضباط العرب , وازدياد الدعم البريطاني خاصة بعد معركة العقبة التي خاضها ضد الجيش العثماني .
أظهر فيصل ذكاء سياسيا نادرا في إيجاد نوع من التوفيق بين مظهره كرمز عربي تحرري يعمل بإخلاص وتفان لقضية العرب وبين ولائه التام للدولة البريطانية , وهكذا استطاع تأمين دعم الشعب السوري ودعم الحركة الوطنية , وساد الإعتقاد في سورية أنه لابديل عن شخصية فيصل بما يحمله من رمزية وحنكة سياسية وخبرة في التعامل مع الدول الأوربية .
وبالنسبة لفيصل فقد أدرك منذ سفره الأول لحضور مؤتمر باريس حاجته الملحة لحيازة شرعية لتمثيل سورية والتفاوض باسمها ثم لحكمها ولذا كان مضطرا للتناغم مع الحركة الوطنية السورية والرأي العام الشعبي وضمن ذلك السياق جاء عقد المؤتمر السوري العام , وإطلاق الحريات العامة , في حين كان ذلك كله يصب في دعم مركز فيصل السياسي في داخل سورية وضمن مؤتمر باريس .
لكن ذلك مالبث أن أوقع فيصل بين مطرقة سايكس بيكو وبين سندان الحركة الوطنية السورية التي تطورت بطريقة فاقت كل التوقعات خلال تلك الفترة الزمنية القصيرة بعد خروج الجيوش العثمانية .
وضمن الهامش المتاح حاول ببراعة التوصل لمملكة معترف بها من قبل التحالف البريطاني الفرنسي , وعندما اصطدم بصلابة الموقف البريطاني في احترام اتفاقية سايكس بيكو أظهر استعداده للتأقلم مع تلك الاتفاقية ضمن الجزء من سورية الذي لم يكن موضع اهتمام كبير من فرنسا أي سورية الداخل ويضم المدن الأربعة الرئيسية دمشق وحمص وحماة وحلب .
وفي بداية العهد الفيصلي كانت بريطانيا تفكر بإبقاء ذلك الجزء تحت نفوذها , وتحاول التملص مما نصت عليه اتفاقية سايكس بيكو من إبقائه دولة عربية تحت النفوذ الفرنسي بخلاف لبنان والساحل الخاضع مباشرة للسلطة الفرنسية , ويبدو أن تنامي الحركة الوطنية بسرعة وقوة في سورية إلى الحد الذي لم يعد فيه فيصل قادرا على احتوائها وخطر تلك الحركة على مصالح بريطانيا في العراق وفلسطين دفع السياسة البريطانية إلى التخلي عن دعم العهد الفيصلي تماما لصالح فرنسا .
وعند ذلك الحد ومع سحب البساط من تحت فيصل لم يبق له إلا اللجوء لفرنسا والتفاهم معها , وفي اتفاقه مع كليمنصو أظهر فيصل ليس فقط براغماتيته التي كان حريصا على تغطيتها بالخطب الوطنية الرنانة ولكن أيضا استعداده للعمل تحت سلطة الإنتداب الفرنسي وشكل ذلك شرخا كبيرا في صورة فيصل الشعبية , وهنا حدث الطلاق بين نهجين مختلفين من حيث المنطلق والمبدأ فبينما لم يكن في وارد فيصل أي خيار لمقاومة السياسة البريطانية أو الفرنسية , كانت الحركة الوطنية السورية قد وصلت إلى نقطة اللاعودة في مواجهة الإنتداب الفرنسي على سورية .
ومنذ ذلك الوقت أصبح دور فيصل معول هدم للدولة السورية الوليدة بكل ما حملته من أحلام وأوهام .
فقد أعاق فيصل بطريقة مباشرة وغير مباشرة المحاولات لبناء الجيش وتسليحه , وكان سابقا قد سرح جيش الشمال العربي الذي امتلك بعض الخبرة القتالية والتجربة التنظيمية , كما أعاق وضع أي استراتيجية لمواجهة الجيش الفرنسي , بما في ذلك إنشاء تحالف مع المقاومة التركية التي عملت بنجاح في طرد الفرنسيين من كيليكية ويذكر في هذا الصدد أن مصطفى كمال أرسل أكثر من مرة رسائل للحكومة في سورية للتعاون ضد فرنسا ووضع الخلافات السابقة وراء الظهر في حين كانت بريطانيا تعارض بقوة أي تحالف مماثل .
رفض فيصل الأفكار التي عرضها الوطنيون السوريون والعرب في التخطيط لمقاومة الجيش الفرنسي قدر الإمكان ثم الإنسحاب للشمال السوري والتخطيط لحرب عصابات ضد الجيش الفرنسي كما فعلت الثورات السورية لاحقا .
تسبب فيصل في وضع الحكومة العربية بدمشق في موقف مائع تجاه التهديد الفرنسي بينما كان الشارع السوري يغلي للمطالبة بحشد القوى لمواجهة ذلك التهديد , وشكل فيصل بموقفه المهادن دعما قويا للأرستقراطية السورية التي كانت تفضل منذ البداية الإنتداب الفرنسي .
وينبغي أن لاننسى أن اتفاقه مع كليمنصو لم يكن يعني فقط قبول الإنتداب الفرنسي لكن أيضا إبعاد القضية الفلسطينية عن القضية السورية بصورة تامة والإعتراف بفصل لبنان وسلخ الأقضية الأربعة وفصل شرق الأردن وحتى فصل الساحل الذي سيظل تحت السلطة الفرنسية المباشرة , أي الاعتراف بسايكس بيكو تماما مع الواقع العسكري الذي فرضته فرنسا وبريطانيا . وكل ذلك لم يكن موضع قبول لدى الحركة الوطنية والغالبية الساحقة من الرأي العام في سورية .
وفي النهاية استخدم فيصل نفوذه ومهارته السياسية لدفع الحكومة نحو قبول الإنذار الفرنسي دون اتخاذ أي إجراء احتياطي , وقد اتفق كثيرون من الشخصيات الرئيسية في العهد الفيصلي بعد ذلك أن تسريح الجيش كان خطأ كبيرا أدى لتقدم الجيش الفرنسي بسرعة وسهولة نحو ميسلون وأفقد الجيش السوري مواقعه الحصينة في مجدل عنجر حيث كان يمكن ايقاع خسائر كبيرة بالهجوم الفرنسي .
وبعد معركة ميسلون واستشهاد وزير الحربية البطل يوسف العظمة , قام فيصل بمحاولة أخيرة للتفاهم مع الفرنسيين لبقائه في سورية تحت الإنتداب وذلك بعودته لدمشق بعد انسحابه للكسوة , لكن الفرنسيين كانوا قد حسموا أمرهم بإنهاء العهد الفيصلي بكل مكوناته بما في ذلك زعامة فيصل .
بعد معركة ميسلون ودخول الجيش الفرنسي دمشق كان أمام فيصل خياران رئيسيان : إما رفع راية تحرير سورية داخل سورية أو في المنفى باعتباره الملك الشرعي المنتخب من قبل الشعب , وبالتالي الإحتفاظ بحكومة سورية وطنية في المنفى وتنظيم المقاومة داخل سورية ودعمها من الخارج , أو إدارة الظهر وترك سورية فريسة الإحتلال الفرنسي واعتبار ذلك قدرها الذي لامرد له , والعودة للحجاز كأمير إلى جانب والده الشريف حسين .
لكن فيصل وجد خيارا ثالثا هو اللجوء لبريطانيا والبقاء هناك والقبول بعرض بريطاني شديد الإغراء هو إنشاء مملكة هاشمية في العراق .
وربما سقط من ملاحظة الكثيرين ممن اهتموا بتاريخ تلك المرحلة أن فيصلا بتخليه الكامل عن القضية السورية خلق فراغا سياسيا أمام الانتداب الفرنسي , بحيث مرت سنتان كاملتان قبل أن نشهد في سورية بداية استعادة الحركة الوطنية للنشاط السياسي وبزوغ المقاومة للإحتلال .
ومثلما كان فيصل حين دخوله دمشق واسطة العقد والبؤرة التي استقطبت حولها الحركة الوطنية السورية فقد أصبح في نهاية ذلك العهد في تخليه التام عن القضية السورية بعد دخول الجيش الفرنسي المطرقة التي أتمت هدم ذلك العهد ودفعت بأركان الحركة الوطنية للتشتت والضياع والإنسحاب من مواجهة الاحتلال حتى حين .
ولايمكن بتحميل فيصل تلك المسؤولية إعفاء كوادر تلك الحركة الوطنية وأركانها من المسؤولية التاريخية أيضا في سرعة انفراطها وتبعثرها وكأن مهمتها الوطنية قد انتهت مع دخول غورو لدمشق .