د- عبد الله تركماني
المنظومة التربوية
لم يوجد فرق في سورية بين المدرسة والجامعة من حيث نهج التعليم السائد فيهما، الذي يقوم أساساً على التلقين، بما له من آثار سلبية على شخصية الأفراد، إذ يساهم ذلك في تعميق قيم الطاعة والخوف والتفكير الغيبي والأوهام والأساطير، بدلاً عن قيم التمرد والتغيير والشجاعة والتفكير العلمي. ويزيد الأمر سوءاً مع السيطرة الكلية لسلطة الدولة على المؤسسات التعليمية، بحيث تبدأ عملية تطويع الشباب على مستوى الوعي من خلال ” منظمة الطلائع ” التي تأسست في العام 1974، الأمر الذي يجعلهم ينتقلون بشكل غريزي نحو تقبّل أشكال التطويع الأخرى. وفي المرحلة الإعدادية يُنسّب المراهقون لاتحاد شبيبة الثورة، المنظمة الرديفة لحزب البعث، ليصبح التنسيب للحزب أمراً روتينياً في بداية المرحلة الثانوية، دون أي نقاش أو حوار، وفي غياب أي تقدير لطبيعة المرحلة التي يمر بها الفرد التي لا تؤهله في ذلك العمر لاتخاذ قرار بالانضمام لحزب سياسي أو تبنّي رؤية فكرية سياسية محددة.
وفي الجامعة، يُرْصَدُ الطالب منذ اللحظة الأولى، فانتسابه لها يقترن بتقديمه استمارات عديدة توزع على الفروع الأمنية، ثم يجد الاتحاد الوطني لطلبة سورية في انتظاره، الذي أصبح هو الآخر إلزامياً وتابعاً للحزب الحاكم، بالإضافة إلى دروس التدريب العسكري والمعسكرات الصيفية، لتتضافر بالتالي جهود اتحاد الطلبة ومقرات التدريب العسكري والفرق الحزبية المتناثرة في جميع الكليات لإكمال دائرة مغلقة نادراً ما يفلت منها أحد.
يضاف إلى ذلك كله انقطاع الجامعة عن سوق العمل ومتطلباته، وانتشار المحسوبية والفساد، واعتماد معايير الولاء والطاعة والانتماء الحزبي في اختيار أعضاء الكادر التدريسي ورؤساء الأقسام وعمداء الكليات، مما أدى إلى انخفاض مستوى الكادر التدريسي، واستمرار النزف في عداد الأساتذة المؤهلين من حملة الشهادات العليا.
وسائل الإعلام والوضع الثقافي
جرى تكريس الإعلام السوري، على مدى عقود، من أجل الدعاية للسلطة والحزب الحاكم، ليتخذ – بجميع أشكاله – طابع التحشيد الذي يفتقد لأي شكل من أشكال النهوض بوعي الفرد والارتقاء بوجدانه الإنساني وحسه الوطني، وتقديم المعرفة والتنوّع الخلاق والمتعة في آن واحد، الأمر الذي ساهم في تعميق حالة اللامبالاة وبناء حالة قطيعة ما بين المجتمع وسلطة الدولة.
إضافة إلى أنّ احتكار وسائل الإعلام، و تأميم الأفكار والآراء، وممارسة سياسة التعتيم الإعلامي وحجب الحقائق السياسية والأحداث الواقعية، جعل المجتمع السوري هزيلاً، و ترك أثراً واسعاً في ضمائر الناس، وفي طرق تعبيرهم التي استندت إلى الاصطناع والمجاراة، وافتقاد العفوية في تقديم البرامج وصياغة الإعلام وإجراء الندوات والمقابلات التلفزيونية، فكل شيء مُعَدٌ سلفاً، السؤال والجواب، وكل شيء تحت الرصد والسيطرة، ويكفي متابعة برامج الأطفال (برنامج طلائع البعث) وبرامج الشبيبة و الطلبة، لنعرف إلى أي مدى جرى نزع الحالة العفوية في التعبير.
ولا يمكن بالطبع الحديث عن الوضع الثقافي للشباب السوري بشكل دقيق وشامل، ولكن ما يمكننا التأكيد عليه هو انتماء شبابنا لمرحلة من أكثر المراحل تردياً في تاريخ بلدنا. ويعود ذلك لانعدام المناخ الديمقراطي الذي يتيح الاطلاع الحر والمناقشة وحرية إبداء الرأي، يضاف لذلك تردي الوضع الاقتصادي الذي لا يترك وقتاً للبحث عن المعرفة وإنما الانشغال بالحصول على الرغيف.
ويترافق هذا الوضع بحالة من عدم الاهتمام العام بالتعبيرات الثقافية كالقراءة مثلاً لنقص الكتب المهمة وغلاء أسعارها، والمسرح والسينما لعدم اتصال الإنتاج المحلي منها بالحياة العملية للمواطن وإغراقها في أساليب فنية يعجز الشخص العادي عن فهمها. بينما نجد إقبالاً شديداً على السينما الغربية خصوصاً ذات الطابع المتسم بالعنف والجنس لما تؤمّنه من تفريغ للكبت عند الشباب.
النقابات والاتحادات
تعامل الشباب مع النقابة بوصفها إحدى مؤسسات سلطة الدولة، بل ومؤسسة ملحقة بحزب البعث، ونظروا لذلك على أنه أمر طبيعي، أما فكرة استقلالية النقابة عن السلطة وأجهزتها فهي لا تخطر في البال وخارجة عن تصوراتهم، بحكم سنوات الإعداد الطويلة التي تعرضوا لها قبل الانتساب إلى النقابة، وبحكم أنّ معظم الشباب السوري لا يعرف شيئاً عن آليات العمل النقابي السوية، أو عن تاريخ الاتحادات المهنية في سورية التي حُلت من قبل السلطة في نيسان/أبريل عام 1980، كما لا يعرف معظم الشباب أنّ هذه الاتحادات أُعيدت إلى العمل في منتصف عام 1981، ولكن بعد إلغاء قوانينها التنظيمية ونظمها السابقة التي صدرت عام 1973، واستحداث قوانين جديدة متخلفة عن سابقتها تكبل الاتحادات.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنّ التدخل المباشر للسلطة في العمل النقابي وتكليف النقابة بمهمات أمنية، بهدف ضبط إيقاع أعضائها وتهديدهم بوسائل عيشهم ومحاصرتهم مهنياً إن لزم الأمر، أفسح في المجال لظهور قيادات نقابية فاسدة زادت الأمر سوءاً، وفاقمت من ابتعاد الشباب عن نقاباتهم، التي كان يمكن لها أن تقوم بدور فاعل في حل مشكلات الشباب الخاصة بالعمل المهني والبطالة وتوفير الأجواء الاجتماعية المتناسبة معهم.
لقد ابتعد الشباب عن النقابات والالتزام النقابي بسبب عدم قناعتهم بقدرة هذه الأنماط البيروقراطية من التجمعات النفعية على الأخذ بمصالحهم والدفاع عنها، أو على الأقل أن تتيح لهم مجال التعبير عما يحملونه من هموم. في كل الأحوال، فقدت هذه النقابات شرعيتها منذ أن أضحت معينة بقرارات سياسية وذلك منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي. إضافة إلى غياب المعرفة بتاريخ وأساليب العمل النقابي الذي كان منتشراً وناجحاً لعقود مضت، وذلك من خلال افتقاد المناهج الدراسية لتاريخ سورية قبل الحركة التصحيحية في العام 1970.
وهكذا، فإنّ النقابة، بحكم الآليات السائدة فيها وفساد عناصرها القيادية، جعلت أعضاءها (الشباب على الأخص) ينفضّون عنها، ولا يتذكرونها إلا في الأوقات التي يحتاجون فيها لبعض الأوراق التي تعينهم على مزاولة المهنة أو لحاجتهم للسفر.
العائلة السورية
زرعت العائلة السورية في أفرادها مجموعة من القيم السلبية التي تؤثر في سلوكهم وشخصياتهم، إذ تعلم الفرد منذ مرحلة الطفولة قيم الطاعة والخضوع والامتثال والخجل والمسايرة، لأنّ هذه العائلة: من جهة، محكومة بالسلطة الأبوية القائمة على ثنائية الاستبداد – الرضوخ. ومن جهة ثانية، قائمة على تمجيد الذكورة، مستمدة مشروعيتها في ذلك من الدين السائد والتقاليد الاجتماعية. يضاف إلى ذلك، بحكم ما تعرض له المجتمع السوري خلال العقود الأخيرة على الصعيد السياسي، أنّ العائلة السورية تقوم بنقل الخوف المتوارث لأبنائها، وتلعب دوراً داعماً لاستمرار العلاقات الاستبدادية في المجتمع بكافة تجلياتها، الدينية والتعليمية والسياسية… الخ، وهذا يعني أنّ تربية الفرد داخل هذه العائلة يتشارك فيها الدين والتقاليد الاجتماعية والسلطة السياسية بشكل متناغم.
إنّ ما سبق، بالإضافة إلى التخوفات التي عاشها المجتمع السوري، دفع الأسرة السورية إلى أشكال متطرفة من الانغلاق والمحافظة، وبالتالي إلى العزلة عن المجتمع. بل إنّ أغلب الآباء يتابعون ما بدأه النظام السياسي السوري بإقصاء أولادهم عن السياسة والشأن العام وتضييق الخناق على من يريد أن يدخل حقلهما منهم، وذلك لأنهم اقتنعوا أو أقنعوا أنفسهم بأنهما شأن مفارق لشؤونهم، بل إنهما ” داء خطير ” يودي بحامله إلى التهلكة. ويمنون أنفسهم بوهم يسمونه ” الاستقرار ” دون أن يعلموا أنّ الاستقرار في عالم يعيش تغيّرات جوهرية ما هو إلا انتحار.
العمل ومصادر دخل الشباب
تبدو أهمية البحث عن مصادر الدخل واضحة في إبعاد فئات بأكملها عن السياسة والنشاط الاجتماعي الفاعل، فالمستوى المتدني للمعيشة لدى السواد الأعظم من السوريين جعل البحث عن العمل والمال الشغل الشاغل للجميع، فمتوسط الدخل لا يكفي حتى لتلبية الحاجات الأساسية لأسرة تتكون بالكاد من ثلاثة أفراد. لذا يبدأ الأبناء بالعمل في سن مبكرة للمساهمة في دخل الأسرة، وذلك على حساب دراستهم، حيث أحياناً ما يحول ذلك دون متابعة تحصيلهم العلمي.
كذلك يمكن أن يضطر الشاب للعمل طوال فترة الدراسة الإعدادية والثانوية، مما يزيد من أعداد المتسربين من الدراسة مع تقدم السنوات. وقد يمتد الالتزام بعمل ما أثناء الدراسة الجامعية إلى ما بعد إنهاء هذه الدراسة، لتصبح حيازة الشهادة الجامعية مجرد تحصيل حاصل. وعندما يبدأ صاحب أو صاحبة الشهادة بالبحث عن عمل في مجال الاختصاص يجد/تجد أنّ سلطة الدولة التي تلتزم بتعيين خريجي بعض الكليات كالهندسة مثلاً وتعمل على تأمين الوظائف لبقية الخريجين، يكون في الحقيقة هذا الالتزام على حساب دخل الفرد الحقيقي بالمقارنة مع الإنتاج المطلوب. ويبقى الحل لدى الشاب أن يعمل عملاً مضاعفاً في القطاعين العام والخاص ليحقق دخلاً معقولاً، وحتى في هذه الحالة يكون الأجر كافياً لحياة متوسطة المستوى دون أي ادخار لتكوين أسرة.
وهكذا، لا يمكن أن يكون هناك حياة سياسية عامة إذا لم يكن هناك فضاء وطني عام ومشترك بين جميع المواطنين، بلا استثناء، يتيح فرصاً متكافئة ويوفر ضمانات دستورية وقانونية للمشاركة في الحياة السياسية، بوجه عام، وفي حياة الدولة، بوجه خاص. إنّ المشاركة في حياة الدولة تعني حق المشاركة في المؤسسة التشريعية وفي السلطتين التنفيذية والقضائية لجميع المواطنين البالغين والمواطنات البالغات، على قدم المساواة، وفق مبدأ الانتخاب، في الأولى، ومبدأ الكفاءة في الأخيرتين.
ومن أجل عودة الروح إلى الشباب السوري هناك مجموعة من المسائل التي يجب البدء فوراً بمعالجتها:
- مشكلة العمل التي تعتبر جسر العبور بالنسبة للشباب، عقب حالة التغييب الاجتماعي والسياسي، نحو المساهمة المجتمعية.
- رفع الوصاية عن هذه الشريحة بحيث يُسمح للشباب باختيار المنهج السياسي بشكل حر ودون تدخل أي جهة في هذه الخيارات.
- ضمان المشاركة السياسية وخاصة خارج إطار النقابات والاتحادات الرسمية.
- الحق في المعرفة، بعيداً عن التعتيم وفرض الرأي بقوة الإعلام الرسمي الموجه، والحق في الحصول على إعلام حر يعكس حقيقة هذه الشريحة وهمومها وأحلامها.
- الإنفاق على التعليم بما يحقق تأهيل فعلي للطلاب، وبما يمكّنهم من دخول سوق العمل.
- إيجاد المؤسسات والتنظيمات الشبابية التي تمكّن هؤلاء من التعبير عن أنفسهم وعن رغباتهم السياسية والاجتماعية في إطار هذه المؤسسات، التي تمتلك القدرة على تطوير إمكانياتهم نحو المشاركة في رسم سياسات دولة الحق والقانون ومجتمع المواطنين الأحرار.
نحن في وطننا السوري بحاجة ماسة إلى دولة مدنية تعمل بمقتضى دستور عادل وديمقراطي، يكون الجميع متساوين دون تمييز أو تفرقة، وطن تكون العلاقة فيه بين الدولة والمجتمع أساسه المواطنة وحقوق الإنسان، والقانون هو أعلى سلطة مطلقة لخدمة الجميع.
مما يتطلب مبادرة الشباب وسعيهم لبلورة خياراتهم ورؤاهم، ومحاولة تجديد ما هو موجود وبث الروح فيه، أو إبداع أشكال جديدة للتعبير عن أنفسهم، والمشاركة في تحسين أوضاعهم، وليكون لهم دور في بناء وطنهم، فقد يكون هذا الدور هو الأكثر أهمية والأشد حسماً في مستقبل سورية.
لقد آن الآوان لتحرير الشباب من قيود الإلغاء والإقصاء والمصادرة، في كل مناطق سلطات الأمر الواقع، وحان الوقت لكي يتعرف المجتمع السوري على ما يدور فيه حقيقة من تغيّرات تتجاوز الأطر الجامدة والصنمية التي تريد هذه السلطات له البقاء فيها.
إنّ التأمل في التجارب العملية والخبرات الإنسانية المتراكمة يثبت أنّ النهوض بالشباب هو بناء للمستقبل، وإنّ كل جهد يبذل في هذا المجال، إنما هو جهد من أجل المصلحة العليا لكل بلد، وإنّ كل مال ينفق لهذا الغرض، هو استثمار مضمون العائد على أعلى المستويات. فالشباب هو إشراقة الحاضر وأمل المستقبل، ولذلك يجدر بنا اليوم بحث المشاكل التي يعاني منها الشباب والتي تمثل تحديات حقيقية، والعمل لتعزيز قدراتهم، من خلال إيجاد آليات للمشاركة في الحياة العامة على مختلف الأصعدة.
إنّ الاهتمام بالشباب، تعليماً وتكويناً ورعايةً، هو السبيل أمام النهوض الشامل بالمجتمع من كل النواحي، والنهوض بالشباب يتطلب، في مقدمة ما يتطلبه، معالجة مشاكله بالجدية وبالصراحة وبالشفافية، وتوفير الفرص الملائمة له، للنمو المتكامل المتوازن وللمشاركة المسؤولة في مشاريع التنمية وفي تقدم المجتمع وفي ازدهار الوطن.
ولا يمكن الحديث عن انخراط الشباب السوري في الشأن العام إلا في نطاق مجتمع مدني حديث ودولة وطنية حديثة لا تبدو لمواطنيها من الداخل سوى بصفتها دولة حق وقانون، لا دولة حزب، ولا دولة نخبة ولا دولة طغمة ولا دولة عشيرة، ولا دولة طائفة أو جماعة دينية، ولا دولة جماعة عرقية.