إبراهيم الجبين
صحيح أن الحوار الذي أجرته قناة الجزيرة عبر برنامج “الجانب الآخر” مع الإعلامية علا الفارس والذي استضاف رئيس الوزراء السوري السابق رياض حجاب، قبل أيام، كان قد سجّل منذ قرابة السنة، إلا أن قرار توقيت بثّه الآن في هذه اللحظة السياسية السورية تحديداً، لا يمكن فهمه على أنه مجرّد مصادفة، أو ترتيبات إدارية وبرامجية.
يتخذ هذا البرنامج من الطابع الشخصي للشخصيات التي يسلّط عليها الضوء مدخلاً شيقاً لتناول ملفاتهم، والملفات الأخرى الأكثر حرارة التي تتعلق بهم وبالراهن الحالي في المشهد. ما يجعل من ظهور هذه الشخصية أو تلك، اتصالاً مباشراً مع نبض الرأي العام، وبنفس الدرجة مع التحولات التي تدور في الخلفية وفي كواليس السياسة هذه المرة لا كواليس مواقع التصوير.
ولعلّ أكثر المتفائلين اليوم من السوريين، بما قد يكون متوارياً خلف أداء المعارضة السورية الحالية والمهيمنة على المؤسسات التي تم إنشاؤها باسم ثورة الشعب بترخيص وسجل تجاري يعود لهذه المجموعة السياسية أو تلك، لن يكون قادراً على القول إن الأمور بخير، وإن الضمانات التي قدّمها القائمون على مؤسسات المعارضة بالالتزام بمبادئ الثورة ومطالب الشعب السوري ضمانات محكمة وموثوقة. لأن التجربة لا تقول هذا، ولأن سلسلة التشاطر باسم “البراغماتية” و”الواقعية السياسية” لم تترجم إلا على شكل تنازلات تلو الأخرى، حتى لم يعد لدى المعارضة السورية ما تتخلى عنه.
اشتكى حجاب أنه عانى من رفض المعارضة السورية له، منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها انشقاقه ومنذ أن قرّر مغادرة سوريا والإفلات من قبضة الأسد، بالطريقة التي يعرفها الجميع والتي عرّض فيها حياته وحياة أسرته للخطر.
قال إنهم لم يتصلوا به، وهذا صحيح، وقال إنهم شككوا به، وهذا صحيح أيضاً. وآن الأوان أن نفصح عنه، بعد سنوات طويلة من الصبر الاستراتيجي على ذهنيات قادت المعارضة السورية إلى حتوف غير مسبوقة. ولو توقّف هذا التحفظ الذي أبدته المعارضة السورية على حجاب وحده، لما استوجب الالتفات إليه، إلا أنه كان ولم يزل ظاهرة تعمّد المهيمنون على قرار مؤسسات المعارضة السورية الالتزام بها، وكأنها نصٌ مقدّس، وكأنهم هم حرّاس الثورة، الأمر الذي سيتضح أنه كان وهماً لاحقاً، فهؤلاء أنفسهم هم من قدّموا التنازلات وهم من تشبثوا بالمناصب وهم الذين يتصارعون عليها، وهم أيضاً من يشوب عملهم الكثير من علامات الاستفهام.
رفض المهيمنون على المعارضة السورية التعامل مع كل قادم من سوريا، ممن عمل مع أجهزة الدولة التي اختطفها النظام، وخسر السوريون رجال دولة كان بالإمكان الاعتماد عليهم في بناء مؤسسات حقيقية على الأرض وفي ساحات العمل الدبلوماسي. والقائمة تطول حين نتذكّر كفاءات وخبرات تم استبعادها، وإن لم نقل “استبعاداً” فهو “عدم ترحيب” أو في حالات كثيرة ترحيب على شكل “إهانة متعمّدة”، كما حصل مع محافظين سابقين كان لهم الفضل في خروج مظاهرات صنعت مسار الثورة، أو دبلوماسيين كان لمجرّد خبر انشقاقهم بالغ الأثر في هزّ صورة النظام وتعزيز فكرة الثورة والقول للعالم إنها حقيقة.
“المعارضة مخترقة”؟ لم يعد هذا خبراً، أضحى طرفة متداولة بين السوريين، حتى داخل أروقة مؤسسات المعارضة ذاتها. ولكثرة التراشق به، صار هذا الاتهام من المسلّمات، دون أن يقول لنا أحدٌ من جانب من هي مخترقة؟ ولا ما الذي سيفعله هذا المخترق باختراقه لصفوف المعارضة؟ وهل الدور هو مجرّد عملية تجسّس وتسريب معلومات؟
لن يكترث السوريون بقصة المعلومات، فما لدى المعارضة السورية من أسرار تمسّ الأمن القومي السوري والإقليمي، أكثر شفافية وافتضاحاً من أن يُكتم. إلى درجة أن منظريها والمشتغلين فيها، كموظفين، تخلوا تماماً عن مفهوم الأمن القومي، لجهلهم بمعناه وأهميته القصوى لأي متنطع للعمل في الشأن العام وأي فاعل في الملف السوري، إقليمياً أو دولياً.
ماذا لدى المعارضة السورية يمكن أن يكون مفيداً لذلك الذي يخترقها؟ ليس الجواب صعب المنال، وفي الحين ذاته، تبدو الإجابة عليه معقدة نوعاً ما. فما يريده المخترق، لا يقتصر على القيام بدور ما داخل هذه المؤسسات، أو تنفيذ مهام معينة في السابق وفي الآتي من الأيام. بل أكثر من ذلك هو منع الآخرين من القيام بأي دور إيجابي. أي ممانعة ومقاومة من طراز آخر.
وفي أحسن الحالات، وبعيداً عن التخوين الذي بات يٌعلك مثل اللبان في أفواه الجميع، فإن هذا الاختراق، هو نوع من تصدير شخصيات لا مانع لديها في الواقع، وبشكل غير واعٍ، من الموافقة على أي شيء. يكفي ذعرها الشديد من قول “لا” ليكون مفتاحاً لكل بابٍ يريده المخترق الروسي والإيراني والأسدي وغيره.
عرقلة وإعاقة الآخر، دورٌ بارز، ومهمّة لا يستهان بها. لكنها مع الوقت باتت تتخذ شكلاً أكثر خطورة، حين يصبح هذا الآخر الذي يعرقله هؤلاء الشعب السوري الثائر نفسه. حينها سيكون الاستقطاب على أشدّه. وحينها يكون الاستقطاب حالة إيجابية، على النقيض مما كان يقال للسوريين طيلة الأعوام الماضية؛ “اتحدوا في مظلة واحدة” و”لا يجب أن تبقى المعارضة السورية مشرذمة”.. نعم “اتحدوا في مظلة واحدة كي نتمكن من التفاهم والمساومة مع من يسيطر على قراركم” هذه هي الترجمة الدقيقة لهذا المطلب المزمن إلى اللغة العربية.
خلال الأعوام الأخيرة، حاولت قطر، حيث تم اتخاذ القرار ببث حوار رياض حجاب قبل أيام، بتمسكّها بالموقف المبدئي الرافض لنظام الأسد، مواصلة دورها في دعم نهج سوري معارض مطابق لهذه الرؤية التي تعتبر الأسد مرحلة يجب أن تطوى. لكن في الإقليم من لديه رؤية مختلفة، ولعله يرى أن من صالحه استمرار نظام مثل هذا، بدلاً من تشجيع الشعوب على الثورة على حكّامها، ومرّة أخرى كان السوريون على حق حين قالوا هذا مبكّراً، وحين حذّروا من أن هناك من أراد تفويض الأسد بتقديم نموذج شرس للانتصار على الربيع العربي كله، منصته سوريا، وضحاياه هم السوريون من شهداء ومعتقلين ومهجّرين ومنفيين.
وقبل ذلك شرع حجاب نفسه بالتأسيس لنهج مختلف، نهج يأخذ بعين الاعتبار، كافة الرؤى السورية المعارضة، ولكن ما دار في الخلفية حينها، كان عنيفاً جداً، لصالح الإبقاء على الأوضاع على ما هي عليه، دون أي تغيير.
لصالح من؟ أقل ما يمكن فهمه هو أن الدافع من وراء منع أي تدفق جديد للدماء في شرايين العمل السياسي السوري المعارض، هو الالتزام بتفاهمات دولية ليس من بينها أي بند يتعلق بمصالح السوريين، بل بمصالح آخرين وفي ملفات أخرى.
المشهد الهزيل الحالي الذي تقدّمه مؤسسات المعارضة السورية، هو مشهد متعمّد، وهي رسالة إلى السوريين جميعاً، وإلى العالم، أن هذا هو المستوى الذي يمكنكم تخيّله فيما لو حكم هؤلاء دمشق.
ولا يزال من يشغّل مثل هذه الآلة العبثية التي تسعى لإغلاق الملف السوري بطرق لا يقبلها الشعب، يتوهّم القدرة على النجاح في مساعيه، دون أن يحسب حساباً لموقف شعبي رافض تؤكده كل يوم مظاهرات السويداء في جبل العرب، التي بدت وكأنها لم تتأثر بكل ما كيل إلى الثورة من تهم، ولم يصبها اليأس والإحباط رغم كل الظروف المعقدة والطرق المسدودة التي أريد لنا أن نصدّق أننا وصلنا إليها.
اسألْ عن التوقيت، وعمّا سيليه، قبل أن تركن مستسلماً إلى قناعة معتمة عن الإجابة على السؤال “سوريا إلى أين؟”.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا