توماس دي وال
انتهت الحرب الثالثة على “ناغورنو قره باغ”، الإقليم الأرمني المتنازع عليه منذ فترة طويلة داخل أذربيجان، مباشرةً بعد بدايتها تقريباً. وفي الساعة الواحدة ظهراً يوم 19 سبتمبر (أيلول)، بدأت القوات الأذربيجانية تهاجم المنطقة بالمدفعية والطائرات المسيرة في ما أسمته عملية “مكافحة الإرهاب”. وفي غضون 24 ساعة، استسلم أرمن قره باغ، الذين أوصلهم الحصار الاقتصادي المستمر منذ أشهر إلى حافة المجاعة، تاركين لأذربيجان السيطرة الفعلية على الإقليم.
والآن بدأت المرحلة التالية من المأساة تتكشف. وفي مشاهد تُذكّرنا بفترة تسعينيات القرن الماضي في البلقان، تملأ قوافل السيارات الطريق الجبلي من قره باغ إلى أرمينيا، ناقلةً الآلاف من أبنائها الذين يغادرون وطنهم حاملين معهم كل ما أمكن. ويبدو أن معظم هؤلاء السكان المعزولين أو عدداً كبيراً منهم سينضم إلى أولئك المغادرين في الأيام والأسابيع المقبلة، في ما قد يصل إلى جولة أخرى من التطهير العرقي بحكم الأمر الواقع في منطقة شهدت اضطرابات عدة من هذا النوع على مر السنين.
يلوح في الأفق فشل أكبر على المدى الطويل، يتمثّل في عجز الحكومات الغربية المتعاقبة عن منع العنف في المقام الأول وعن دفع الأرمن والأذربيجانيين إلى الاتفاق على حل عادل لهذا الصراع المرير.
بالنسبة إلى السكان المحليين، بعد 35 عاماً من الغبطة والحصار والنصر والهزيمة وكثير من الحسابات الخاطئة المصيرية التي قام بها قادتهم، تشكّل هذه النتيجة نهاية مريرة، إذ إنها تمثل التدمير الكامل لمشروع بدأ عام 1988 عندما حاول أرمن قره باغ للمرة الأولى الانفصال عن أذربيجان السوفياتية. والواقع أن الوضع له جذور ترجع إلى ما قبل تلك الحقبة، الأمر الذي سيجعل الأرمن يختبرون لفترة طويلة مقبلة تأثير خسارة هذه الأرض التي تحمل تاريخاً وتراثاً أرمنياً غنياً يمتد لقرون.
في المقابل، فإن الحكومة الأذربيجانية في باكو تحتفل ابتهاجاً. فهي دعت بالفعل إلى حل جميع المؤسسات السياسية في الإقليم – الرئاسة المحلية، والبرلمان، ورئيس البلدية المنتخب – من دون أن تقدّم نوع الاستقلال السياسي، الذي حصلت عليه الأقليات الأوروبية الأخرى في مواقف مماثلة. وعوضاً عن ذلك، ذكّر الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف أرمن قره باغ بأن الوضع السياسي الذي عرضه عليهم في السابق “ذهب إلى الجحيم” [لم يعد سارياً]، وأن ما بقي على الطاولة حتى اللحظة هو “الحقوق التعليمية، والحقوق الثقافية، والحقوق الدينية، والحقوق الانتخابية البلدية” غير المحددة بعد.
وبموجب هذه الشروط، قد يختار بعض كبار السن البقاء في قره باغ، ومن الممكن أن يعود الآلاف من الأذربيجانيين الذين عاشوا هناك حتى عام 1991. ولكن لن يبقى سوى القليل أو لا شيء على الإطلاق من المؤسسات المحلية التي بنيت هناك على مدى ثلاثة عقود.
وستشكّل هذه النتيجة القاسية أيضاً انعكاساً صارخاً للدور الذي تلعبه روسيا، التي تطمح للهيمنة على المنطقة. على رغم أن الإقليم كان من الناحية النظرية تحت حماية قوات حفظ السلام الروسية، إلا أن ضمانات موسكو في نهاية المطاف أصبحت عديمة القيمة. وعوضاً عن ذلك، توسطت روسيا في التوصل إلى اتفاق وافق بموجبه السكان المحليون على نزع السلاح بشكل كامل من “قواتهم الدفاعية”، التي تبلغ عدة آلاف من الرجال، والبدء في محادثات حول “إعادة دمجهم” بالكامل في أذربيجان.
في نهاية المطاف، كان موقف موسكو حاسماً. لم تكن هي من بدأ الصراع الأرمني – الأذربيجاني في عام 1988، لكن، وللمرة الرابعة (إذا احتسبنا أيضاً جولة قصيرة من القتال في عام 2016)، تدخلت للتوسط في وقف إطلاق النار لكن مع ضمان مصالحها الخاصة وتعزيز أجندتها. وهذه المرة، قد يكون الثمن هو أن تحتفظ روسيا بقوات حفظ السلام التابعة لها على الأرض، فيكون لها بالتالي موطئ قدم في أذربيجان، وأن تدفع الوسطاء الغربيين، أي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، نحو الهامش أكثر.
هذه أرضي أنا، لا أرضك
لطالما كان العنف، لا الدبلوماسية، هو الذي يحدد النتائج الرئيسة في النزاع حول ناغورنو قره باغ. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الأجندات العرقية القومية المتضاربة في أرمينيا وأذربيجان اللتين رفضتا قبول ترتيب غير مستقر يعود تاريخه إلى بداية الحقبة الشيوعية. في عام 1921، أعطى البلاشفة الأقليم ذات الغالبية الأرمينية وضعاً مستقلاً داخل أذربيجان السوفياتية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، حاولت المفاوضات برعاية المجتمع الدولي تحقيق التوازن بين سلامة أراضي أذربيجان من جهة، أي قدرتها على البقاء كدولة، وتطلعات الأرمن في قره باغ من جهة أخرى. لكن ما كان مطروحاً على الطاولة كان يُبرز أيضاً النتائج المتمخضة عن استخدام القوة على الأرض، فقُدّمت عروض أكثر سخاءً للأرمن حتى عام 2020، عندما كانوا في موقع مهيمن، ثم ظهر ميل نحو أذربيجان بعد أن انتصرت في الصراع في ذلك العام.
في عام 2022، بعد فقدان السيطرة فعلياً على ناغورنو قره باغ، بدأ رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان القول علناً إن أرمينيا تخلت عن مطالبتها بأراضي الأقليم. وعوضاً عن ذلك، كانت الصيغة التي اعتمدها في محادثاته مع أذربيجان بتيسير من الاتحاد الأوروبي هي أن القضية الأهم أصبحت “حقوق الأرمن وأمنهم” في قره باغ. وفي المقابل، استخدم علييف في كثير من الأحيان مصطلح “السلامة الإقليمية” كما لو أنه يعطي الحكومة تفويضاً مطلقاً لتفعل ما تريده مع أي مجتمع تحت سيطرتها، واستخدم الحرب في أوكرانيا كغطاء لذلك. أخبره المسؤولون الغربيون أن المنطقة ستوضع مجدداً تحت السلطة الأذربيجانية، وأن الأمر يحتاج إلى الصبر. وفي منتصف سبتمبر الماضي، تلقى مكالمات هاتفية من مسؤولين أميركيين وغربيين آخرين يحذرونه من اللجوء إلى القوة العسكرية. على رغم ذلك قرر أن يفعل ذلك مرة أخرى.
كان استعداد روسيا للسماح بالحصار أو عدم معارضته بشكل فعال عاملاً مهمًا مكّن أذربيجان من فرض الحصار والحفاظ عليه بشكل فعال.
في الواقع، هناك اعتبارات داخلية وراء تصرفات علييف. على مدى عقدين من الزمن، تولّى زعامة دولة استبدادية لا يوجد فيها مسؤولون محليون منتخبون ديمقراطياً، ولا تتمتع فيها الأقليات إلا بقليل من الحماية الرسمية. فما الذي يدفعه إلى الموافقة على المطالب الغربية باتباع نموذج لحل الصراعات يرغمه على منح مجتمع من الأقليات القومية حكماً ذاتياً ويضعف قبضته على السلطة؟
علاوة على ذلك، من الواضح أن علييف يعتقد أن تركيا وروسيا، وليس الدول الغربية، هما القوتان الوحيدتان اللتان يحتاج إلى أن يأخذهما على محمل الجد. وعلى رغم أن تركيا وروسيا لا تتفقان على أمور كثيرة، إلا أن كلاً منهما يرى فائدة في الحد من التدخل الغربي في جنوب القوقاز، وهي منطقة كانا يتمتعان فيها تاريخياً بنفوذ كبير. لقد فهم علييف أن تركيا ستدعم جهوده الرامية إلى السيطرة الكاملة على ناغورنو قره باغ، وأن روسيا لن تمنع حدوث ذلك، وأن الغرب، الذي يتمتع بنفوذ ضئيل للغاية في المنطقة، لن يتمكن من ثنيه عن تغيير الحقائق على الأرض.
بالنسبة إلى علييف، كانت العملية السريعة الخاطفة تهدف أيضاً إلى تعزيز شرعيته الشخصية وإنهاء المهمة التي بدأها في خريف عام 2020. ثم، بعد سنوات من الإذلال على أيدي الأرمن، اختار العودة إلى الحرب وألحق بهم هزيمة ساحقة. ونتيجة لذلك، تمكن من قلب الوضع في ناغورنو قره باغ رأساً على عقب، مغيّراً وضعه في أذربيجان إلى زعيم بلا منازع.
كانت التكلفة البشرية لحرب 2020 باهظة، إذ قُتل حوالى 7 آلاف شخص في ستة أسابيع من القتال فقط. كذلك، أعادت تلك الحرب تغيير التوازن العرقي في المنطقة الكبرى. فمن ناحية، عن طريق استعادة المناطق الأذربيجانية المحيطة بناغورنو قره باغ، وهي مناطق دمرتها واحتلتها القوات الأرمينية لمدة عقدين ونصف من الزمن، سمح انتصار باكو لمئات الآلاف من اللاجئين الأذربيجانيين بالعودة إلى ديارهم. ولكن بالنسبة إلى ما تبقّى من أرمن في قره باغ (بحسب التقديرات تتراوح أعدادهم من 60 ألفاً إلى 120 ألفاً)، كان الوضع أكثر خطورة من أي وقت مضى. وكان ممر لاتشين، وهو طريق إمدادهم الوحيد إلى أرمينيا، الذي يبلغ طوله ثلاثة أميال، بمثابة شريان حياة ضعيف وهش يربطهم بإخوانهم العرقيين. لقد اعتمدوا كلياً على قوة حفظ السلام الروسية الصغيرة، وبالتالي على علاقات روسيا مع أذربيجان، من أجل إبقاء الطريق مفتوحاً.
ثم بدأت الحرب في أوكرانيا في عام 2022، فضعفت روسيا وتشتت انتباهها، وتغيرت أولوياتها في القوقاز. وأصبحت أذربيجان، الطريق البري الرئيس لروسيا نحو الجنوب، شريكاً أكثر أهمية من أرمينيا، حليفتها المسيحية التقليدية في المنطقة. وكانت موافقة روسيا ضرورية عندما أغلقت أذربيجان ممر لاتشين في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
أقوال بلا أفعال
كانت العودة إلى أعمال العنف في شهر سبتمبر أيضاً بمثابة تذكير بفشل الجهود الغربية الحسنة النية، ولكن الفاترة في كثير من الأحيان، الرامية إلى إنشاء إطار أوروبي للأمن والحقوق في منطقة جنوب القوقاز. نظرياً على الأقل، دعم الدبلوماسيون الغربيون طوال عقود نهجاً في التعامل مع ناغورنو قره باغ مبنياً على مبادئ القانون الدولي، على منوال حل صراعات البلقان. من الناحية النظرية، إن تسوية من هذا النوع ستشمل قوات حفظ السلام الدولية، ومحاكم جرائم الحرب، والحكم الذاتي السياسي، والتعايش السلمي في نهاية المطاف بين الأرمن والأذربيجانيين في قره باغ.
وبالعودة إلى عام 1992، عندما تمددت الحرب الأولى على الإقليم لتتحول إلى قتال واسع النطاق، عقد وزراء خارجية “منظمة الأمن والتعاون في أوروبا” المنشأة حديثاً اجتماعاً في هلسنكي ودعوا إلى عقد مؤتمر في مينسك من أجل حل الصراع. وكان من المقرر أن يحضره جميع الأطراف، بما في ذلك “الممثلون المنتخبون عن ناغورنو قره باغ وغيرهم”، وبعبارة أخرى، السكان الأرمن والأذربيجانيون في قره باغ. لكن في النهاية، لم يعقد المؤتمر قط.
وكان من المفترض أن تقوم وساطة المنظمة الأمنية في ناغورنو قره باغ على مبادئ اتفاقيات هلسنكي، وهي اتفاقية عام 1975 بين الغرب والاتحاد السوفياتي التي أقرت رسمياً السلامة الإقليمية [مفهوم سلامة الأراضي]، وحق تقرير المصير، وعدم استخدام القوة، باعتبارها أموراً أساسية من أجل الحفاظ على السلام الأوروبي. ولكن لم يتم احترام أي من هذه المبادئ من الناحية التطبيقية على أرض الواقع. في الحقيقة، كان الالتزام الدولي بهذا الصراع يفتقر دائماً إلى الموارد لأن منطقة جنوب القوقاز كانت تعتبر هامشية للغاية.
بعد عام 1998، لم يعد أرمن قره باغ ممثَّلين في المحادثات، ومن المفارقات أن واحداً منهم كان السبب الأساسي وراء ذلك، وهو رئيس أرمينيا المنتخب حديثاً، روبرت كوتشاريان، الأرمني من قره باغ الذي قال إنه يستطيع التفاوض نيابة عن شعبه. فاقتصرت الدبلوماسية على محادثات سرية بين القادة الأذربيجانيين والأرمن.
وبعد أن وجد أرمن قره باغ أنفسهم في نوع من الخواء [معزولين عن الأحداث أو المؤثرات الخارجية]، من دون عملية سلام شاملة أو مشاركة دولية قوية، بدأوا في التحول من مجرد الضغط لنيل حق تقرير المصير إلى نزعة وحدوية تحررية توسّعية أكثر تطرفاً [تعصّب قومي يدفع مجموعة معينة لاستعادة منطقة مرتبطة تاريخياً أو عرقياً بها]. في عام 2017، أعاد أرمن قره باغ، بتشجيع من القوميين الأرمن في المنطقة والشتات الأرمني، تسمية منطقتهم رسمياً بـ “آرتساخ”، وهو اسم أرمني يعود تاريخه إلى العصور القديمة. وكان المعنى الضمني هو أن أذربيجان يجب أن تتخلى ليس عن ناغورنو قره باغ فحسب، بل أيضاً عن المناطق المحيطة الخاضعة للسيطرة الأرمنية.
من جهته، أبدى الجانب الأذربيجاني اهتماماً ضئيلاً بإجراء مفاوضات جوهرية وبنى مشروعه الانتقامي من أجل استعادة أراضيه. طوال أكثر من 30 عاماً، لم يتفاوض أي زعيم أذربيجاني بشكل مباشر مع أرمن قره باغ أو يقدم أي مقترحات رسمية لمستقبلهم داخل أذربيجان. وبالاسترجاع، توصل الوسطاء الغربيون إلى صيغ سلام أُعدّت بمهارة، لكنهم لم يتمكنوا قط من توفير “جنود على الأرض” لفرضها، كما فعلوا في البوسنة أو كوسوفو. كل هذا أعطى روسيا وسيلة ضغط ونفوذاً أقوى، فصارت في نهاية حرب 2020 القوة الخارجية الوحيدة التي تدخلت بشكل مباشر ونشرت جنوداً على الأرض في شكل قوات لحفظ سلام.
إنهاء الهيمنة الروسية
رُسمت الخرائط الحديثة لجنوب القوقاز بين عامي 1918 و1921، أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها. ثم نشأ صراع بين الأرمن والأذربيجانيين على الأراضي المتنازع عليها في كاراباخ وناختشيفان وزنجيزور، وكانت الجيوش التركية والروسية تدخل وتخرج منها. وما يتكشف اليوم هو بمثابة عودة مؤسفة لتلك الأوقات، مع انسحاب المنظمات المتعددة الأطراف على غرار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا والأمم المتحدة، وذهاب مناشدات الجهات الفاعلة الغربية الداعية إلى الالتزام بالمبادئ الدولية أدراج الرياح.
في 14 سبتمبر، قال مسؤول كبير في إدارة بايدن أمام مجلس الشيوخ الأميركي: “إن الولايات المتحدة لن تدعم أي إجراء أو جهد، قصير أو طويل الأجل، يرمي إلى التطهير العرقي أو ارتكاب فظائع أخرى ضد السكان الأرمن في ناغورنو قره باغ”. وبعد خمسة أيام، أطلقت أذربيجان عمليتها العسكرية. ثم، في 21 سبتمبر، قال وزير الخارجية الألماني في الأمم المتحدة “إن التهجير والنزوح القسري للأرمن من قره باغ أمر غير مقبول”، بينما دعا السفير الأميركي إلى إرسال بعثة دولية على الأرض. لكن وتيرة فرار الأرمن من قره باغ ازدادت في الأيام التي تلت ذلك.
من المؤكد أن المساعدة الدولية ستسهم في معالجة قضية ملحة، وهي خطط “نزع سلاح” القوات المسلحة المحلية. وهناك حديث عن عفو، بيد أن كثيراً من الأرمن في قره باغ يخشون أن تعتقل القوات الأذربيجانية بشكل تعسفي الجنود الأرمن، الحاليين أو السابقين، الذين شاركوا في حربين ضد تلك القوات. ولكن، يبدو أن أذربيجان عازمة على إبقاء أي وجود دولي خارج قره باغ، حتى لو كان ذلك ينطوي على عقد صفقة مع موسكو. وفي الأمم المتحدة، أصرت روسيا على أن قوات حفظ السلام التابعة لها هي الوجود الدولي الوحيد المطلوب. (وهذا على رغم حقيقة أن روسيا لم تكن قادرة على منع الهجوم الأذربيجاني الذي أسفر عن مقتل ستة من قوات حفظ السلام الروسية).
والجدير بالذكر أن ورقة روسيا الرابحة الأخرى هي أن الاتفاق الإطاري الوحيد الذي لا يزال قائماً، على رغم انهيار معظم بنوده، هو اتفاق وقف إطلاق النار الثلاثي الذي توسطت فيه روسيا في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، ووقّع عليه علييف وباشينيان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومن بين بنوده قيام حرس الحدود التابع إلى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي بحماية طريق النقل الذي يمر عبر أرمينيا إلى ناختشيفان، وهي فكرة غير مرغوب بها نظراً للحرب الروسية في أوكرانيا. ومن المرجح أن تتمحور النقطة المحورية في المفاوضات الدبلوماسية المقبلة حول هذه القضية. من المستحسن أن تعمل الدول الغربية، بدعم من الأمم المتحدة، على نقل اتفاقية 2020 من السيطرة الروسية الحصرية ووضعها ضمن إطار دولي أكثر شمولاً. ومع ذلك، فمن المتوقع أن تعارض كل من أذربيجان وروسيا مثل هذه الخطوة.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو احتمال تحول أرمينيا نفسها إلى ساحة جديدة للصراع. ولا يزال زعيم أرمينيا باشينيان، المعروف بطبيعته المندفعة التي لا يمكن التنبؤ بها، والمنتخب ديمقراطياً، في السلطة، على رغم الشعور المتزايد بالعداء من جانب الحكومة الروسية تجاهه. واستطراداً، هناك مخاوف من أن تستمر أذربيجان في الضغط على أرمينيا. ومن المثير للاهتمام أن هناك تشابهاً مع الوضع الذي حدث قبل عقد من الزمن عندما طالب الأرمن القوميون بالأراضي الأذربيجانية. والآن، بدأت النزعة الوحدوية الأذربيجانية في الظهور باعتبارها مصدر قلق. وفي الواقع، في ديسمبر من العام الماضي، بدأ الرئيس علييف فجأة مناقشة المطالبات الإقليمية الأذربيجانية فيما أشار إليه باسم “أذربيجان الغربية”، وهي إشارة إلى الأراضي الأرمينية.
في الواقع، إن الأزمة الحالية تعيد ضبط المواقف الغربية تجاه أرمينيا وأذربيجان. في ذلك الإطار، قام باشينيان بمبادرات تجاه الغرب، معرباً صراحةً عن إحباطه من موسكو ومعلناً عن نية أرمينيا في التصديق على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهي خطوة تعني من الناحية الفنية أن بوتين سيكون عرضة للاعتقال إذا وطأت قدماه أراضي أرمينيا. وهذا العام، نشر الاتحاد الأوروبي بعثة مراقبة في أرمينيا بالقرب من الحدود مع أذربيجان، وهي أول مهمة من نوعها في بلد متحالف شكلياً مع روسيا. وعلى النقيض من ذلك، فإن انجذاب أذربيجان إلى الغرب يعتمد بشكل أكبر على الصفقات، ويتمحور حول ممرات النقل واتفاق يرمي إلى تزويد الاتحاد الأوروبي بكميات إضافية من الغاز، نافعة، ولكن ليست هائلة، كبديل للواردات من روسيا.
لقد أثارت الهجرة الجماعية للأرمن في قره باغ بالفعل احتجاجات في يريفان قد تهدد في الأسابيع المقبلة بقاء حكومة باشينيان، علماً أن روسيا أيضاً تتمنى رحيله. وعلى المدى الأبعد، فبالمقارنة مع أذربيجان الاستبدادية الهشة، تبدو أرمينيا الديمقراطية وكأنها رهان أقوى وخيار أنسب للمصالح الغربية ومشاريع التكامل الأوروبي. وإذا توصلت أرمينيا إلى اتفاق أكبر مع أوروبا، فسوف يحدث تحول في القوقاز.
ولكن بالنسبة إلى الأرمن في ناغورنو قره باغ، فمن المؤكد أن هذا التقارب سيأتي بعد فوات الأوان. وبعد أن فرضت باكو سيطرتها، فمن الصعب أن نتصور نتيجة من شأنها أن تحمي تراث الأرمن التاريخي وتضمن بقاءهم بأعداد كبيرة. إن صدى التداعيات والاتهامات المتبادلة والتكلفة الإنسانية لهزيمتهم سوف يتردد لعقود قادمة.
- توماس دي وال هو باحث بارز في مركز كارنيغي أوروبا ومؤلف كتاب “الحديقة السوداء: أرمينيا وأذربيجان بين السلام والحرب”.
مترجم عن فورين أفيرز 28 سبتمبر 2023
المصدر: اندبندنت عربية