علي العبد الله
شكّلت العملية العسكرية، التي نفذتها كتائب عزالدين القسّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في منطقة غلاف غزّة يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري تحت مسمّى “طوفان الأقصى”، تنفيذا حرفيا لما تسمّى في العلم العسكري المعركة الشاملة والمنسّقة، التي تربط تحرّك القوات البرّية بالبحرية والجوية في تناغم وتكامل دقيقيْن، كأي جيشٍ حديث، ملحقةً بقوات العدو وأجهزة استخباراته هزيمة ساحقة بالمبادأة والمفاجأة، مذكّرة بمفاجأة هجوم أكتوبر 1973 على الجبهتين المصرية والسورية، قال حينها سيئ الصيت هنري كيسنجر: “انشغل الإسرائيليون بالتصوّرات عن الواقع”، وهو ما حصل اليوم أيضا، محقّقة نصرا عسكريا حمساويا واضحا وصاعقا.
جاءت العملية العسكرية الشجاعة لتقطع الطريق على سياق سياسي إقليمي بدأت مؤشّراته في الوضوح، تجسّد في سعي الولايات المتحدة إلى صياغة المشرق العربي عن طريق إقناع السعودية بإقامة علاقات سياسية ودبلوماسية مع إسرائيل، وتنفيذ مشروع ممرّ الشرق الأوسط، عن طريق ربط الهند بأوروبا بحرا وبرا، بطرق وقطارات سريعة عبر السعودية والأردن وإسرائيل، ومدّ شبكة ألياف ضوئية لتطوير وتسريع اتصالات الإنترنت وتبادل المعلومات الدقيقة، كخط ثان لتمرير التطبيع وتكريسه واقعيا، بحيث تضرب أكثر من عصفور بحجر: إدماج إسرائيل في المنطقة ومنحها دورا وازنا في ضوء مكانتها في الاستراتيجية الأميركية وقدراتها التقنية الكبيرة، وتعزيز الحضور الأميركي في المنطقة بمحاصرة خصومها وعزلهم، الصين وروسيا وإيران، وتقييد التحرّك التركي الذي تنامى أكثر من المقبول أميركيا.
انخرطت السعودية في المفاوضات، وإدراكا منها لمكانتها ودورها في العالمين العربي والإسلامي، وما سيُحدثه التطبيع بينها وبين إسرائيل من تأثير على الفضاء السياسي والجيوسياسي بدءا بفتح أبواب بقية الدول العربية والإسلامية أمام إسرائيل وانتهاء بتكريس هيمنة أميركية على المنطقة عقودا مقبلة، رفعت سقف مطالبها: مشروع نووي سعودي، بما في ذلك دورة تخصيب كاملة، واتفاق دفاعي أميركي سعودي يمنحها ضماناتٍ قوية بدفاع الولايات المتحدة عنها ضد أي عدوان، وتزويدها بأسلحة أميركية متطوّرة. وحتى تمرّر العملية داخليا وخارجيا بسلاسة وهدوء، أعادت العلاقات الدبلوماسية مع إيران بوساطة وضمانة صينية، وأعادت التواصل مع السلطة الوطنية الفلسطينية بتعيين سفيرٍ غير مقيم واستئناف تقديم مساعداتٍ مالية لها كانت قد قطعتها منذ سنوات، ودخلت في حواراتٍ معها لمعرفة سقف المطالب الفلسطينية التي قد تقبل بها لوضعها على طاولة المفاوضات، وذلك لتأمين غطاء فلسطيني رسمي للتطبيع.
أثار مشروع التطبيع السعودي الإسرائيلي مخاوف إيران وحركة حماس، لأن قيامه بغطاء فلسطيني سينهي كل ما حقّقته إيران من مكاسب خلال العقود الأخيرة بإمساكها بالورقة الفلسطينية، من تشكيل محور المقاومة إلى وحدة الساحات، من جهة، ويعني، من جهةٍ ثانية، إخراج حركة حماس ومشروعها السياسي من المعادلة وتلاشي مكانتها ودورها.
وقد منح غياب حلٍّ محدّد لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة بالتخلّص من الاحتلال وإقامة دولة مستقلة عن محادثات التطبيع، وتجاهل الإدارة الأميركية الاستيطان الزاحف وهجمات المستوطنين على البلدات والقرى الفلسطينية واقتحامهم المسجد الأقصى واقتحام الجيش الإسرائيلي المتواتر المدن الفلسطينية والعبث فيها قتلا وتدميرا، منح هذا كله عملية 7 أكتوبر العسكرية شرعيتها وآنيّتها، بحيث تؤكد قدرة حركة حماس على الفعل وإجهاض الاتفاقات واستحالة القفز على دورها ومصالحها وتعيد طرح المطالب الوطنية الفلسطينية كما جاءت في قرارات الشرعية الدولية على الطاولة.
غير أن الخطّة العسكرية الدقيقة والطموحة وقعت في خطأين استراتيجيين قاتلين سيستنزفان مفاعيل النصر العسكري، أولهما السيطرة على المستوطنات والتمترس فيها وثانيهما أخذ رهائن مدنيين، فالتوجّه إلى إثبات القدرة على احتلال المستوطنات والتمترس فيها خطوة غير منطقية وغير مفهومة، لأن قادة الحركة ومخطّطيها العسكريين يعلمون أن هذا تحدّ كبير للحكومة الإسرائيلية، وأن إسرائيل، وكما في حروب غزّة الماضية، سوف تستخدم إمكانات بشرية وتقنية وناريّة لاستعادة الهيبة والمبادرة، وأن النتائج ستكون ضحايا ودمار كبيريْن. وأخذ رهائن مدنيين، بما في ذلك أطفال ونساء وكبار السّن ورعايا دول غربية من مزدوجي الجنسية، مسألة حسّاسة وستطلق رُهاب الرهائن في الغرب من جديد. وقد منح هذا آلة الدعاية الصهيونية فرصة تضخيم الخطر ببثّ روايات مختلقة عن ذبح الرُضع، وبقر بطون الحوامل وقطع رؤوس الرهائن أمام الكاميرات، ودفع الغرب إلى الكشف عن موقع إسرائيل وأهميتها في استراتيجياته في المشرق العربي ودورها الوظيفي في حماية مصالحه وتكريس هيمنته بالاصطفاف خلف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، عبر ترويجه الدعاية الإسرائيلية وشيطنة الشعب الفلسطيني وتحويله إلى وحوش وقتلة وإرهابيين، وقطع المساعدات المقرّرة له من قبل، واعتبار ما تقوم به إسرائيل دفاعا عن النفس ومنحها ضوءا أخضر للمضي في حصارها وتدميرها إلى حدوده القصوى؛ والتعبير عن عمق الارتباط بها عبر تزويده المعتدي الإسرائيلي بالأسلحة والذخائر والمسيّرات وحشد قواته وأساطيله أمام شواطئ فلسطين، لردع أي مشاركة في القتال من خارج غزّة، وتقبله الخيارات الإسرائيلية المتطرّفة بتدمير غزّة، ودفع سكان القطاع، البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة، نحو الرحيل إلى سيناء أو عبر البحر وافتتاح نكبة فلسطينية جديدة.
بدا الأمر وكأن واضعي خطة الهجوم المذهلة قد وضعوا السياسة على الرفّ. كانت الحصافة تقتضي تنفيذ خطة الهجوم ضد المواقع العسكرية الإسرائيلية المنتشرة في غلاف غزّة فقط وأخذ أسرى جنود ونقلهم إلى داخل القطاع، قبل أن يستفيق جيش العدو وحكومته من الصدمة والذهول والدخول في اتصالاتٍ دبلوماسيةٍ لطرح المطالب والشروط، فتكون المقاومة بذلك قد حققت المفاجأة الاستراتيجية، وأفهمت الجميع أنها قادرة على قلب الطاولة وخلط الأوراق، وأن أي عملية استبعاد لها وتجاهل لمطالبها لن تنجح.
نحن الآن في انتظار إسدال الستارة على المعارك بوقف العدوان الإسرائيلي على القطاع تحت ضغط مركّب من الخسائر البشرية بين المتحاربين إلى حجم الكوارث الإنسانية في القطاع وضغط الرأي العام العالمي الرافض للعدوان الذي عكسته التظاهرات الكبيرة التي خرجت، رغم المنع في معظم الدول الغربية، والضغوط السياسية والدبلوماسية، والحاجة إلى إبقاء أقنية الاتصالات السياسية والدبلوماسية بين إسرائيل ودول التسوية والتطبيع العربية مفتوحة، من أجل استمرار جهود التطبيع الأخرى، وعندها سيُحدّد من الفائز بالنقاط وستُحسب النتائج والآثار السياسية والاقتصادية والإنسانية وانعكاسها الجيوسياسي في المنطقة، فخروج حركة حماس منتصرة بالنقاط سيعني بقاءها طرفا ثابتا ووازنا، ومعها إيران ومحورها، في المعادلة. وهزيمتها ستعني هزيمة المحور ووحدة الساحات التي بقيت قولا من دون فعل. وتنهض غزّة من جديد تلملم أشلاءها وتضمد جراح أبنائها، وتجد السير نحو غدها المجيد.
المصدر: العربي الجديد