محمد يوسف
ليس أدل على الطريقة التي تعمل بها الآلة الإعلامية المضللة والداعمة للاحتلال من خبر”قطع رؤوس 40 طفلا إسرائيليا” والذي ردده كبار المسؤولين الغربيين وفي مقدمتهم جو بايدن (الصورة: الفرنسية)
“وسائل الإعلام هي الكيان الأقوى على وجه الأرض؛ يمكنها تحويل الأبرياء إلى مجرمين وتصوير المجرمين في صورة أبرياء، وهذا سر قوتها، لأنها تتحكم بعقول الجماهير”.
في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ومع انطلاق عملية “طوفان الأقصى” وتلقي جيش الاحتلال لأكثر هزائمه إذلالا، بدأت الآلة الإعلامية الضخمة الداعمة لدولة الاحتلال في العمل بأقصى طاقاتها، في محاولات مُستميتة لترميم صورة الاحتلال وتشويه صورة المقاومة الفلسطينية ولو بالكذب والتدليس، وليس أدل على الطريقة التي تعمل بها هذه الآلة من ذلك الخبر الذي انتشر كالنار في الهشيم حول قيام المقاومة “بقطع رؤوس 40 طفلا إسرائيليا”، دون تقديم دليل مصور واضح على هذا الادعاء.
كان ترويج هذا الخبر “كذبا” واضحا تورطت فيه كبريات وسائل الإعلام العالمية التي باتت تغطياتها أشبه بصحف التابلويد بعدما عطلت جميع أدوات النقد والتحري، وردده كبار المسؤولين الغربيين وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه. المشكلة -أو لعله المغزى الحقيقي- في هذا النوع من المعلومات الكاذبة أنها تنتشر أسرع من أي معلومة أخرى، ما يجعلها مُفضلة لخوارزميات منصات التواصل الاجتماعي، وبالطبع مَن أطلق الكذبة يعرف هذه المعلومة جيدا. وحتى حين يثبت كذب المعلومة وزيفها، ويتراجع عنها مروجوها، فإنها تظل تنتشر أكثر بكثير من المعلومة الحقيقية.
المهم أن ذلك النهج المُتمثل في نشر المعلومات الكاذبة والمضللة، يتبعه الكيان الصهيوني منذ زمن بعيد عبر شبكة واسعة ومتشعبة من المنصات والمنافذ الإعلامية، التي يسعى معها للقضاء على أي أصوات معارضة، والأهم للتحكم في سردية الأحداث، والهيمنة على الرواية السائدة خاصة في الإعلام الغربي.
شبكات دعم الكيان
اعتمدت إسرائيل على هذه الشبكة لترويج روايتها الخاصة للصراع، ومواجهة حملات المقاطعة العالمية، وأشهرها حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، وهي الحركة الفلسطينية ذات الامتداد العالمي التي تدعو لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها (1). وتتلقى هذه الشبكة تدفقات مالية ضخمة، بملايين الدولارات، تأتي في صورة تبرعات من عدة منظمات تدعم المحتل.
في عام 2015، نشرت الشبكة اليهودية الدولية المناهضة للصهيونية (IJAN) تقريرا استقصائيا يتناول نظام الدعم المالي والمؤسساتي المعقد وراء جهود تلك المنظمات الداعمة للصهيونية لقمع أي نشاط دولي وعالمي مؤيد لفلسطين سواء في الولايات المتحدة أو في سائر العالم. تتبع التقرير مسار الأموال إلى إحدى عشرة جهة رئيسية مانحة، وأشار كذلك إلى الأساليب التي تستغلها تلك المنظمات وأتباعها لمحاربة القضية الفلسطينية، مثل التلاعب بوسائل الإعلام المختلفة والتأثير على الرأي العام واستهداف المؤسسات الأكاديمية (2).
المشكلة أن نموذج عمل تلك المنظمات الداعمة للكيان المُحتل معقد وسري للغاية، لأنها غالبا تعمل عبر وسطاء مما يجعل تتبع الأموال أصعب، ولهذا اعتمد التقرير على البحث داخل عشرات الآلاف من صفحات الإقرارات الضريبية المتاحة للاطلاع من عام 2009 إلى عام 2012، مع الاستفادة من معلومات عامة تتعلق بالأصول والميزانيات والمنح والموارد المالية لتلك المنظمات، ومع ذلك، فإن التقرير يخدش فقط سطح تلك المنظمات ويكشف جزءا بسيطا من تلك الشبكة المعقدة.
خلال الفترة المشار إليها، ضخَّت هذه الشبكة أكثر من 300 مليون دولار في الدعاية الإعلامية والتجسس والحروب القانونية التي تهدف بصورة مباشرة إلى قمع المعارضة ومنع أي تضامن مع قضية فلسطين. ووفقا للتقرير، ضمت هذه الشبكة مجموعة من المؤسسات المرموقة والمتخصصة في الإعلام والرأي العام والعلاقات العامة والمحاماة والضغط، مثل مؤسسة عائلة أديلسون (Adelson Family Foundation)، التي أسسها رجل الأعمال شيلدون أديلسون، وهي من أكبر المؤسسات الداعمة لكيان الاحتلال.
يشير التقرير إلى عشرات المؤسسات الأخرى مثل مجموعة كوخ براذرز (Koch Brothers)، ومؤسسة بيكر (Becker Foundations)، ومؤسسات سكيف (Scaife Foundations)، ومؤسسة كوريت (Koret Foundation)، ومؤسسة عائلة شوسترمان (Schusterman Family Foundation)، ومؤسسة عائلة كلارمان (Klarman Family Foundation)، ومؤسسة بيري (Berrie Foundation)، ومؤسسة برادلي (Bradley Foundation)، ومؤسسة موسكوفيتز (Moskowitz Foundation)، ومؤسسة فيربروك (Fairbrook Foundation). امتلكت هذه المؤسسات مجتمعة حينها أصولا بقيمة 10 مليارات دولار، دون احتساب ثروات هؤلاء الأشخاص المالكين لها بمفردهم.
هذه الجهات ومالكوها من رجال الأعمال لا يربطهم فقط دعمهم الصريح لإسرائيل، بل تربطهم أيضا مصالح مالية مشتركة؛ سبعة من الممولين الأساسيين امتلكوا استثمارات ضخمة في صناعة النفط، كما يشارك بعضهم في المجال المصرفي والتمويل والأسلحة وتقنيات المراقبة والتجسس وتطوير البنية التحتية، مما يُظهِر ويُثبِت وجود رابط واضح بين دوافع الربح ومواقفهم الأيديولوجية.
حدد التقرير أيضا سبعة عشر منفذا إعلاميا ومؤسسة بحثية تلقت دعما ماليا من هذه المؤسسات، ووُظفت ضمن الجهود التي تروج باستمرار لوجهات النظر المناهضة للعرب والمسلمين والمؤيدة لدولة الاحتلال، مثل المؤسسة البحثية الأميركية “منتدى الشرق الأوسط” (Middle East Forum)، التي أسسها ويرأسها دانيال بايبس، وهو من أشهر منتقدي الإسلام والمسلمين والداعمين لإسرائيل في الولايات المتحدة والعالم. كذلك هناك “مشروع إسرائيل” (The Israel Project -TIP)، وهو منظمة للدعاية والعلاقات العامة تأسست عام 2003، تهدف إلى تحسين صورة دولة الاحتلال الإسرائيلي والدفاع عنها في العالم عبر مختلف المنصات الدعائية والإعلامية، مع تركيز واضح على منصات بث المحتوى الرقمي، مثل “إتش بي أو” (HBO) ونتفليكس (Netflix)، وغيرهما (3).
الجيوش السيبرانية
تُظهر هذه الشبكة المترامية، وإنفاقها الضخم، كيف أدركت دولة الاحتلال منذ سنوات طويلة أهمية السيطرة على الرواية، وفرض سرديتها الخاصة، وهو ما بات يُعرف باسم “الهاسبارا” (Hasbara)، وهي كلمة عبرية تعني في أقرب ترجمة لها الشرح أو التفسير، ولكنها تشير في الحقيقة إلى فرض الرواية الخاصة للحدث، وقمع أي أصوات مخالفة أو معارضة.
هذه الجهود الدعائية تستهدف غالبا النخب السياسية الغربية وقادة الرأي والجمهور في الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وتشارك بها تقريبا كل الوكالات الحكومية لدولة الاحتلال بما فيها الجيش ووزارة الخارجية، بالإضافة إلى المنظمات غير الحكومية والجامعات ومراكز الأبحاث ومجموعات الضغط وحتى الطلاب. تمضي هذه الجهود بالتوازي مع ما تقوم به وحدة الاستخبارات الإلكترونية (8200) من جمع للمعلومات ورصد للمصادر المتعددة على منصات الإعلام الاجتماعي في يوتيوب وفيسبوك وتويتر والشبكات الأخرى، والهدف هو جمع المعلومات حول المزاج العام وتحليلها ومطابقتها مع المصادر الاستخباراتية.
فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وسيطرتها على تدفق المعلومات، بدأت الدول والحكومات في الانخراط في حرب معلوماتية رقمية، في محاولة للسيطرة على الرأي العام على تلك المنصات، من ضمن أدوات تلك الحرب ما يُعرف باسم “القوات السيبرانية” (cyber troops)، ووفقا لدراسة أجراها معهد أكسفورد للإنترنت في عام 2020، تستفيد الدول من تلك القوات السيبرانية في “التلاعب بالرأي العام على الإنترنت” (4).
أشارت الدراسة إلى 81 دولة تملك عمليات سيبرانية نشطة لتلك القوات الإلكترونية، على رأسها دولة الاحتلال التي تنخرط “جيوشها السيبرانية” في ممارسات مثل حملات التضليل ونشر المعلومات الكاذبة واستهداف أشخاص بعينهم، وتضخيم الروايات الرسمية، واللاعب بالبيانات من أجل توجيه الرأي العام لصالحها على وسائل التواصل الاجتماعي.
في الماضي، اعتمدت جهود الحكومات على الرقابة والمنع للسيطرة على ما يصل من معلومات لعموم الجماهير، لكن مفهوم “الهاسبارا” يهدف إلى التحكم فيما يلفت انتباه الجماهير بدلا من المنع أو الرقابة اللذين أصبحا أكثر صعوبة في العالم المفتوح (5). لهذا، يمكن أن نلاحظ بسهولة أن الاحتلال يسعى لتقديم رواية خاصة لكل حدث، حتى إن شاهده العالم في بث مباشر؛ تجد تفسيرا وتبريرا وتصريحا يناسب سردية الكيان المحتل، والهدف في النهاية أن تحرف الجماهير انتباهها عن الحقيقة، وتغرق في الدعاية المضللة التي تتردد باستمرار في وسائل الإعلام العالمية، التي سخرَّت صفحاتها وشاشاتها للترويج للروايات الإسرائيلية.
تبني الرواية الإسرائيلية
يثير موقف وسائل الإعلام العالمية في تغطية القضية الفلسطينية تحديدا الكثير من الفضول والأسئلة، نظرا لأن المنهجيات المتبعة في هذه المؤسسات يفترض أن تمنع انزلاقها نحو ترويج الأكاذيب أو تقديم روايات أحادية دون تمحيص. الأمر ذاته ينطبق على خوارزميات منصات التواصل التي توسع في كل يوم من نطاق الحظر على المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية والناقد لجرائم إسرائيل، للدرجة التي اعتدنا فيها الكتابة بطرق غريبة على فيسبوك مثلا، مرة بحروف وأشكال غريبة أو بدون نقاط من أجل خداع هذه الخوارزميات وتجنب الحذف أو الحجب.
مع انجرافها نحو هذا النوع من الممارسات تضع المؤسسات الإعلامية ومواقع التواصل والشركات الكبرى التي تقف وراءها نفسها -بشكل لا لبس فيه- طرفا في الصراع، وتضحي بجزء كبير من مصداقيتها ورأسمالها الرمزي القائم أساسا على “الثقة” و”حرية التعبير”، لكنها تضحية كانوا مستعدين لها هذه المرة، وكأنهم يوجهون رسالة مُختصرة وصريحة مفادها: أي شخص يجرؤ على تحدي خداع الاحتلال الإسرائيلي ومعلوماته المضللة الكاذبة، فيما يتعلق بجرائمه في قطاع غزة، أو غاراته المستمرة على المدنيين والنساء والأطفال، أو حملات الاعتقال لآلاف الفلسطينيين، سيعين عليه مواجهة أولئك المتحكمين في زمام السلطة والإعلام!
____________________________________________
المصادر:
1) حركة مقاطعة إسرائيل
2) The Business of Backlash: The Attack on the Palestinian Movement and Other Movements for Social Justice
3) إسرائيل و”نتفليكس”: منصة عالمية لـ”هاسبارا” الدعائية
4) Industrialized Disinformation: 2020 Global Inventory of Organized Social Media Manipulation
5) Hasbara and the Control of Narrative as an Element of Strategy
المصدر: الجزيرة نت